الأحد، 26 أكتوبر 2014

أما آن لنا أن نستيقظ


في جلسة من الجلسات  أمام التلفاز ، قال أحد الحضور ألا يتضايق الشيخ من مشاهدة الرقص وسماع الغناء ، فقال آخر : معه حق فالشرع ينهى عن ذلك ، أليس ذلك صحيحاً ؟ والتفت إلى َّ والجلوس يتبادلون الضحك العالي ، وهم في غاية الأنس والصفاء ، قال أحدهم : يا شيخ أنت ممن يجيزون النظر للصور باسم الدين ، أجبته ساخراً : كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا ، أما اليوم فعند رجال الدنيا أقوامٌ يمثلون باسم الدين .  فقال : باعتبارك رجل دين نسألك عن حكم الشرع في الموضوع ، فقلت : تسألون عن حكم الشرع في أشياء لا تكاد تخدش حتى القشور في الدين ، أما ما يتعلق باللب وقد أُبعد واستأُصلت جذوره ، فلا تسألوا عنه أحداً هذه الأيام ، لماذا لا تسألوا عن الخيانات التي طغت وعمَّت وعصفت بكل الأحكام الشرعية  وقهرت القلوب المعذبة ؟ ولماذا لا يستفتى الدين فيها ليقول كلمته ويعطي حكمه ؟ ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش والأساليب التي يشيعها خصومنا لكسب معاركهم ضدنا ؟ ولماذا يندفع الناس إلى الجدل الطويل وإلى السؤال في مسائل الدين الصغرى ، وينصرفون عن الأمور الخطيرة التي تتعرض لها الأمة ؟ ولماذا يسأل الناس في الهزل ولا يسألوا في الجد ؟ ولماذا يستفتون في المضحكات ويتجاهلون المبكيات ؟
ولماذا تقام الدنيا وتقعد لمخالفة سنة من سنن الدين من أحد الناس ، ولا نكلِّف أنفسنا عناء العمل لإقامة حكم الله في الأرض ، مع أننا أصحاب دعوة عالمية ، أما الذين في موقع المسؤولية والذين يتجاهلون الأصول في الدين ، فلا سؤال ولا استفسار ، بل لسان الحال لينعم بالاً من يعنيهم الأمر بما يفعلون ، دون اعتبار للشعوب المقهورة  والطوائف المغصوبة . إننا وبكل أسف ننتمي للإسلام وننكره في آنٍ واحد   منتمون له بالميراث ، وخارجون عليه في التطبيق العملي . دخلت فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز عليه يوماً وهو جالس في مصلاه ، واضعاً يده على خده فقالت : مالك ؟ قال : ويحك يا فاطمة   قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت   فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع  والعاري المجهود ، واليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة ، والمظلوم المقهور ، والغريب والأسير   والشيخ الكبير ، وذي العيال الكثير والمال القليل   وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد   فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمد e ، فخشيت أن لا يكون لي حجه عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت " . إن الفرق واضح بين السلف والخلف كانوا أتقياء شديدو الحساسية بالله   تفيض عيونهم بالدموع من خشية الله ، فخلف من بعدهم خلف بعيدون عن الله ، وقد نسوا أن الله هدد الذين خالفوا سيرة آبائهم بالضلال والهلاك فقال تعالى:} فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا { مريم 59   والغي الشرود والضلال ، وعاقبة الشرود الضياع والهلاك . انت تلك الفئة لا أبهة ولا زينة ولا فخامة ، تقف بمالها وبسلطانها وجاهها من أجل المصالح تحققها والمغانم توفرها ، تَسْخَرُ من الجاه والسلطان ، وتدعو الناس إليها لا باسم مصلحة   ولا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بذي سلطان   ولكن باسم العقيدة بغية القرب من الله ، فخلف خلف لا يتحرَّج من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية  لا يدركون أن للعقائد رصيداً من الإيمان ورصيداً من عون الله ، وأن الغلبة تكون بهذا وذاك لا بالظواهر والأشكال .  فإذا تدبرنا قول الله تعالى : } إن الله لا يصلح عمل المفسدين { يونس 81 . وقوله تعالى : } ذلك بأن الله لم يك مغيِّرأً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم { .
في الآيات من القوانين ما يحصِّن الأمم ، وفي دراستها حياةٌ ونماءٌ للعقائد والأخلاق   ومهما كان الوزن لفروع الفقه ، التي هي الشغل الشاغل لبعض الفئات ، إلا أن هذه الأصول أسبق   والعكوف عليها أجدى ، لأن الاختلاف في كثير من الأحكام الفقهية  لا يعدو أن يكون وجهات نظر ، قد تكون متساوية الأجر عند من يصوِّبون كل اجتهاد أو متفاوتة الأجر عند من يرون المجتهدين عرضة للخطأ والصواب ، فمثلاً قراءة الفاتحة لا بد منها وراء الإمام ، بينما يقول آخرون لا تجوز قراءتها  فليختار من شاء ما شاء   فما يقوم الدين أو ينهدم بأحد المذهبين ، إنما يضيع الدين والدنيا معاً بذهاب الخشوع وإطاعة الهوى وإهمال المنهج الرباني ، ومن الناس من يهتم بالقشور من الدين ويهمل اللباب ، وإني على يقين بأن الإنسان لو قضى عمره قائماً إلى جوار الكعبة ، ذاهلاً عما يتطلبه مستقبل الإسلام من جهادٍ علميٍ واقتصاديٍ وعسكري ، ما أغناه ذلك شيئاً عند الله ، لأن بناء المصانع يعدل بناء المساجد ، وإن حراسة الحق كتعليمه ، وإقامة سياج حوله لا يقل عن الاعتناء بنصوصه .
إن أول ما أصاب الأمة من عطب ، توهمها أن الصالحات لا تعدو القيام بأداء العبادات   وإهمال كل ما يتعلّق بشؤون الدنيا ، من طب وهندسة وعلوم الإلكترونيات ، وفنون القتال في البر والبحر ، أيظنون بهذا الإهمال لهذا الجانب من العلوم نحمي ديارنا ونحرس إيماننا ، ونرد أعدائنا ونصون حمانا ؟ كلا وألف كلا ، فقد كان من نتائج جهلهم بالجوانب الأخرى التي طالبهم الإسلام بها ، أن خذلتهم قوانين الأرض وبركات السماء فإذا العرب والمسلمون يقعون في ورطات رهيبة ، وتجتاحهم هزائم مذلَّة في كل ساحة لقد نسي هذا القطاع الواسع من الأمة ، أن رسالتنا الكبرى قاعدتها أمة مؤمنة بها حريصة عليها   وأداتها الأولى جهاز الحكم فيها ، لذا فإن المطلوب من كل مسلم غيور على دينه ألا يضيع وقته في الجدال ، وألا ينخدع عن فساد الموضوع بفساد الشكل وأن يتجه بالعمل المخلص للأمة للنظر في العلل التي تنخر في كيانها ، وتباعد بينها وبين كتاب ربها وسنة نبيها ، فيا من تركزون جلَّ اهتمامكم على جوانب من الدين وقد يكون بعضها من القشور التي لا تنفع الدين شيئاً في التطبيق العملي ، نقول لكم بأن الإسلام كلّ لا يغني بعضه عن بعض ، والحكومة فيه إفراز طبيعي لأمة مؤمنة ، تختار الأكفاء والأصلح وتأتمنه على دينها ودنياها ، وتضعه تحت رقابتها ، ولها الحق المطلق في تنحيته يوم لا يقوم على أمر الله وستة رسول الله e .
إن مهمة الدعاة ليست في تلمس الأخطاء وهجاء أصحابها ، ولكنها مهمة تتركز لبناء الأمة في كل المجالات ، وإن أي عمل فيه الغلو والتعصب لجانب دون آخر ، يصيب الإسلام في مقتل   ويكون صاحبه من حيث لا يدري عوناً لخصوم هذا الدين . وهذا ما يرضي السلطات المستبدة   التي تسرُّها الخلافات التي لا تمسها ، بل يتمنى القائمون على أمرها لو غرق الجمهور في هذه القضايا ولا يخرج منها .
ولا حيلة لي إلا أن أشكو إلى الله من يخذلون الإسلام ويمالئون أعداءه ، كما أشكو إلى الله المتدينين الذين قست قلوبهم على عباد الله وذهبوا مذهباً مستعليا ، حتى رموا بالكفر والفسق من شاءوا   لا سند لهم فيما ذهبوا إليه ، إلا فقه قليل وترتيلٌ كثير ، قشورٌ من العبادة على باطنٍ خرب ، وتطاول غريب لا يحترم عالماً ولا علما  
وقد يقول قائل : إننا نُمْنَعُ من العمل في الميادين التي تنادي برفع راية الإسلام فما العمل يا ترى ؟ نقول لهؤلاء : لماذا لا نقتدي بالأنبياء ، ألم يمنعوا من قبل عن أداء رسالتهم وقد مضوا في الطريق الطويل ، يتحملون التكذيب والتعويق ، مضوا يبنون ولا يهدمون   ويحسنون ولا يسيئون ، حتى تخيَّر الله لهم مكان النصر وزمانه قال تعالى :}ولقد كُذبت رُسُلٌ من قبلك فصبروا على ما كذِّبوا وأوذوا حتَّى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله{.الأنعام 34        



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق