في
جلسة من الجلسات أمام التلفاز ، قال أحد الحضور ألا
يتضايق الشيخ من مشاهدة الرقص وسماع الغناء ، فقال آخر : معه حق فالشرع ينهى عن
ذلك ، أليس ذلك صحيحاً ؟ والتفت إلى َّ والجلوس يتبادلون الضحك العالي ، وهم في
غاية الأنس والصفاء
، قال أحدهم : يا شيخ أنت ممن يجيزون النظر للصور باسم الدين ،
أجبته ساخراً : كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا ، أما اليوم فعند رجال
الدنيا أقوامٌ يمثلون باسم الدين . فقال :
باعتبارك رجل دين نسألك عن حكم الشرع في الموضوع ، فقلت : تسألون عن حكم الشرع في
أشياء لا تكاد تخدش حتى القشور في الدين ، أما ما يتعلق باللب وقد أُبعد واستأُصلت
جذوره ، فلا تسألوا عنه أحداً هذه الأيام ، لماذا لا تسألوا عن الخيانات التي طغت
وعمَّت وعصفت بكل الأحكام الشرعية وقهرت
القلوب المعذبة ؟ ولماذا لا يستفتى الدين فيها ليقول كلمته ويعطي حكمه ؟ ولماذا لا
نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش والأساليب التي يشيعها خصومنا لكسب معاركهم ضدنا ؟
ولماذا يندفع الناس إلى الجدل الطويل وإلى السؤال في مسائل الدين الصغرى ،
وينصرفون عن الأمور الخطيرة التي تتعرض لها الأمة ؟ ولماذا يسأل الناس في الهزل
ولا يسألوا في الجد ؟ ولماذا يستفتون في المضحكات ويتجاهلون المبكيات ؟
ولماذا
تقام الدنيا وتقعد لمخالفة سنة من سنن الدين من أحد الناس ، ولا نكلِّف أنفسنا
عناء العمل لإقامة حكم الله في الأرض ، مع أننا أصحاب دعوة عالمية ، أما الذين في
موقع المسؤولية والذين يتجاهلون الأصول في الدين ، فلا سؤال ولا استفسار ، بل لسان
الحال لينعم بالاً من يعنيهم الأمر بما يفعلون ، دون اعتبار للشعوب المقهورة والطوائف المغصوبة . إننا وبكل أسف ننتمي
للإسلام وننكره في آنٍ واحد منتمون له
بالميراث ، وخارجون عليه في التطبيق العملي . دخلت فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز
عليه يوماً وهو جالس في مصلاه ، واضعاً يده على خده فقالت : مالك ؟ قال : ويحك يا
فاطمة قد وليت من أمر هذه الأمة ما
وليت فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض
الضائع والعاري المجهود ، واليتيم المكسور
، والأرملة الوحيدة ، والمظلوم المقهور ، والغريب والأسير والشيخ الكبير ، وذي العيال الكثير والمال
القليل وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف
البلاد فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم
يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمد e
، فخشيت أن لا يكون لي حجه عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت " . إن الفرق واضح
بين السلف والخلف كانوا أتقياء شديدو الحساسية بالله تفيض عيونهم بالدموع من خشية الله ، فخلف من
بعدهم خلف بعيدون عن الله ، وقد نسوا أن الله هدد الذين خالفوا سيرة آبائهم
بالضلال والهلاك فقال تعالى:}
فخلف
من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا {
مريم
59 والغي الشرود والضلال ، وعاقبة الشرود
الضياع والهلاك . انت تلك الفئة لا أبهة ولا زينة ولا فخامة ، تقف بمالها
وبسلطانها وجاهها من أجل المصالح تحققها والمغانم توفرها ، تَسْخَرُ من الجاه
والسلطان ، وتدعو الناس إليها لا باسم مصلحة
ولا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بذي سلطان
ولكن باسم العقيدة بغية القرب من الله ، فخلف خلف لا يتحرَّج من ارتكاب أشد
الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية لا يدركون أن للعقائد رصيداً من الإيمان
ورصيداً من عون الله ، وأن الغلبة تكون بهذا وذاك لا بالظواهر والأشكال . فإذا تدبرنا قول الله تعالى : }
إن
الله لا يصلح عمل المفسدين { يونس 81 . وقوله تعالى : }
ذلك
بأن الله لم يك مغيِّرأً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم
{
.
في الآيات من القوانين ما يحصِّن الأمم
، وفي دراستها حياةٌ ونماءٌ للعقائد والأخلاق
ومهما كان الوزن لفروع الفقه ، التي هي الشغل الشاغل لبعض الفئات ، إلا أن
هذه الأصول أسبق والعكوف عليها أجدى ،
لأن الاختلاف في كثير من الأحكام الفقهية
لا يعدو أن يكون وجهات نظر ، قد تكون متساوية الأجر عند من يصوِّبون كل
اجتهاد أو متفاوتة الأجر عند من يرون المجتهدين عرضة للخطأ والصواب ، فمثلاً قراءة
الفاتحة لا بد منها وراء الإمام ، بينما يقول آخرون لا تجوز قراءتها فليختار من شاء ما شاء فما يقوم الدين أو ينهدم بأحد المذهبين ، إنما
يضيع الدين والدنيا معاً بذهاب الخشوع وإطاعة الهوى وإهمال المنهج الرباني ، ومن
الناس من يهتم بالقشور من الدين ويهمل اللباب ، وإني على يقين بأن الإنسان لو قضى
عمره قائماً إلى جوار الكعبة ، ذاهلاً عما يتطلبه مستقبل الإسلام من جهادٍ علميٍ
واقتصاديٍ وعسكري ، ما أغناه ذلك شيئاً عند الله ، لأن بناء المصانع يعدل بناء
المساجد ، وإن حراسة الحق كتعليمه ، وإقامة سياج حوله لا يقل عن الاعتناء بنصوصه .
إن
أول ما أصاب الأمة من عطب ، توهمها أن الصالحات لا تعدو القيام بأداء
العبادات وإهمال كل ما يتعلّق بشؤون
الدنيا ، من طب وهندسة وعلوم الإلكترونيات ، وفنون القتال في البر والبحر ، أيظنون
بهذا الإهمال لهذا الجانب من العلوم نحمي ديارنا ونحرس إيماننا ، ونرد أعدائنا
ونصون حمانا ؟ كلا وألف كلا ، فقد كان من نتائج جهلهم بالجوانب الأخرى التي طالبهم
الإسلام بها ، أن خذلتهم قوانين الأرض وبركات السماء فإذا العرب والمسلمون يقعون
في ورطات رهيبة ، وتجتاحهم هزائم مذلَّة في كل ساحة لقد نسي هذا القطاع الواسع من
الأمة ، أن رسالتنا الكبرى قاعدتها أمة مؤمنة بها حريصة عليها وأداتها الأولى جهاز الحكم فيها ، لذا فإن
المطلوب من كل مسلم غيور على دينه ألا يضيع وقته في الجدال ، وألا ينخدع عن فساد
الموضوع بفساد الشكل وأن يتجه بالعمل المخلص للأمة للنظر في العلل التي تنخر في
كيانها ، وتباعد بينها وبين كتاب ربها وسنة نبيها ، فيا من تركزون جلَّ اهتمامكم
على جوانب من الدين وقد يكون بعضها من القشور التي لا تنفع الدين شيئاً في التطبيق
العملي ، نقول لكم بأن الإسلام كلّ لا يغني بعضه عن بعض ، والحكومة فيه إفراز
طبيعي لأمة مؤمنة ، تختار الأكفاء والأصلح وتأتمنه على دينها ودنياها ، وتضعه تحت
رقابتها ، ولها الحق المطلق في تنحيته يوم لا يقوم على أمر الله وستة رسول الله e
.
إن
مهمة الدعاة ليست في تلمس الأخطاء وهجاء أصحابها ، ولكنها مهمة تتركز لبناء الأمة
في كل المجالات ، وإن أي عمل فيه الغلو والتعصب لجانب دون آخر ، يصيب الإسلام في
مقتل ويكون صاحبه من حيث لا يدري عوناً
لخصوم هذا الدين . وهذا ما يرضي السلطات المستبدة التي تسرُّها الخلافات التي لا تمسها ، بل
يتمنى القائمون على أمرها لو غرق الجمهور في هذه القضايا ولا يخرج منها .
ولا
حيلة لي إلا أن أشكو إلى الله من يخذلون الإسلام ويمالئون أعداءه ، كما أشكو إلى
الله المتدينين الذين قست قلوبهم على عباد الله وذهبوا مذهباً مستعليا ، حتى رموا
بالكفر والفسق من شاءوا لا سند لهم فيما
ذهبوا إليه ، إلا فقه قليل وترتيلٌ كثير ، قشورٌ من العبادة على باطنٍ خرب ،
وتطاول غريب لا يحترم عالماً ولا علما
وقد
يقول قائل : إننا نُمْنَعُ من العمل في الميادين التي تنادي برفع راية الإسلام فما
العمل يا ترى ؟ نقول لهؤلاء : لماذا لا نقتدي بالأنبياء ، ألم يمنعوا من قبل عن
أداء رسالتهم وقد مضوا في الطريق الطويل ، يتحملون التكذيب والتعويق ، مضوا يبنون
ولا يهدمون ويحسنون ولا يسيئون ، حتى
تخيَّر الله لهم مكان النصر وزمانه قال تعالى :}ولقد كُذبت رُسُلٌ من
قبلك فصبروا على ما كذِّبوا وأوذوا حتَّى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله{.الأنعام
34
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق