السياسة
مشتقة من ساس الأمر أي دبَّره وحكم فيه ، بعد أن يكون المرء قد خبره ووعاه وتعني
بالنسبة للأمة ، رعاية شؤونها في مختلف الميادين وعلى جميع المستويات ، فإن كانت
ذات علاقة بالمال فهي سياسة المال أو الإقتصاد ، وإن كانت مرتبطة بعلاقة الدولة
بغيرها من الدول فهي السياسة الخارجية ، وإن كانت مرتبطة بتدبير شؤون الناس في
الداخل فهي السياسة الداخلية وإن تناولت مناهج التعليم وشؤونه فهي سياسة التعليم
وهكذا …وكل ذلك خاضع للدين مستمدٌ من العقيدة قائم على حكم الشرع ورحم الله إبن تيمية الذي وضع كتاباً ربط فيه
بحثاً وعنواناً بين السياسة والشريعة " سماه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي
والرعية " . بخلاف مفهومها الملوث والشائن عند الغرب فهي ألاعيب اتخذوها
حرفةً بلا تقوى ، وارتقوها سلّماً بلا خلق ، وجعلوها وسيلة وصولٍ الى منفعة أو
بلوغ غرضٍ دنيوي هزيل ، وإن أدى ذلك الى الكذب والدجل والنفاق.
من المسلمين من يحسنون النصح ويحترفون
الكتابة أو الخطابة لكنهم يحصرون نشاطهم الديني في التركيز على الوعد والوعيد ،
وبعض العبادات وفضائل الأخلاق والتحدث عن الدار الآخرة وما دروا أن الإقتصار على ذلك يعني تغليب جرءٍ من
الرسالة على الجزء الآخر ، الأمر الذي يتنافى مع طبيعة الرسالة التي تقترن فيها
العقائد بالعبادات وسياسة المال والحكم ، ويشتبك فيها الكلام عن حقوق الله
بالإرشاد إلى حقوق عباد الله جميعا ، والكلام عن الدار الآخرة بالكلام عن الدنيا ،
فكان لا يمكن بحال من الأحوال شطر هذا الدين بالعمل ببعض تعاليمه وإهمال
الآخر فكما أن الإنسان يتكون من لحم ودمٍ
وعظم وعروق ، ولا يمكن أن تكون له حياة بأي واحد من هذه المكونات على حده ، فكذلك
الإسلام كلُّ بالعقيدة والقانون والخلق والإقتصاد والنصح والمعاملة لا يقبل
التجزئة .
من الناس إذا ما طلبت منه أن ينكر على
ولاة الأمر مخالفتهم لكتاب الله وسنة نبيه ﷺ بقول : هذه سياسة لا
نتدخل فيها ، ينشدون الراحة في ظل الحكم مهما ظلم وبغي ، في الوقت الذي نسمع فيه
عن أناس ما زالت بقاياهم في ظلمات السجون ، ومن أفرج عنهم مطاردين في رزقهم ومن شق طريقه في الحياة ، فإن قوانين الحكم
الصارمة تقف عائقاً أمام مسيرته الدعوية .
إن حامل الدعوة لا يداهن ولا يداجي من بيدهم
الأمر ولا يحاملهم ، وعلية أن يوضِّح المواقف المخالفة للإسلام ، وأن يُبَيِّن
زيفها وعلاج الإسلام لها باعتبارها أحكاماً شرعية ، وأن لا يخاف من الجهر بكلمة
الحق .
وقف
بلال الحبشي يوماً موقفاً عنيفاً يخالف فيه رأياً لأمير المؤمنين عمر حول مصير أرض
سواد العراق المفتوحة … بلال يرى أن تُقَسَّم الأرض على الجيش الفاتح صاحب الحق في
اقتسام الغنائم وعمر لا يرى ذلك خشية
انصراف المجاهدين الى زراعة الأرض والتمتع بخيراتها والتخلي عن حمل الدعوة الى
الناس ، ثم يتوارثها الأبناء بعد الآباء فلا يبقى للجيش ولا للخزينة موردٍ من مال
… فلم يوقع عمر الأذى ببلال … وعمر معه القوة والنفوذ والسلطان ، ولكنه ظل يقول في
أعقاب كلِّ صلاة : اللهم اكفني بلالاً الى أن اهتدى الى قوله تعالى:{كي لا يكون
دولَةَ بين الأغنياء منكم}7 الحشر .
فدعَّم بها رأيه وقوَّى بها حجَّته .. وانتصر على بلال بالآية لا بالنفوذ
.
إن
المسلمين لم يتخلَّفوا عن ركب العالم لتمسكهم بدينهم ، وإنما بدا تخلفهم يوم تسرب
الخوف إلى قلوبهم فتركوا هذا التمسك وتساهلوا فيه وأساؤوا تطبيق أحكامه .
ومن
أستعرض التاريخ يجد أن رجال الفكر وتقاعُسِ العلماء عن أداء مهمتهم ، ساهم بنصب
وافر في التفريط بالأندلس بعد تمانيه قرون من الحكم الإسلامي فأين كان الساسة ؟
وأين كان العلماء ؟ وأين كان المصلحون والمجاهدون ؟ بل أين كان الشعب المسلم كله ؟
لم رضوا بالتفرق والتطاحن ؟ .. ولم سكتوا على موالاة أهل الكفر؟ .. ولم لم يستنفروا الأمة للجهاد ؟
ثم
نعود ونسأل نفس الاسئلة عندما نقرأ عن سقوط بغداد على أيدي التتار وإلى أي حدٍ
ذلَّ المسلمون رغم وجود العلماء والمصلحين . وعند سقوط الدولة العثمانية أين كان
دورهم عندما سقط اللواء وانتقلوا من مركز القيادة الى مركز التبعية ، وأين هم
يومئذٍ من مقاومة الإنجليز والألمان والهولنديين والإيطاليين وهم يستولون على أرض
المسلمين ، أنا لا أنكر أن آلافاً ممن عاصروا تلك الأزمات كانوا منكرين في صمت وكارهين في سكوت ، ورغم ذلك فقد أخذت المأساة
طريقها وأصاب الأمة ما أصابها ، واليوم تجتمع مآسي الأمة وتزداد وتتنوع .
فهل
يا ترى نرضى بما رضي به الأولون ؟
هذا
ما يريده أعداء الدين الذين يبذلون كل جهد لأن يحال بين الإسلام والحكم يساعدهم في
تنفيذ ذلك أعوانهم في بلاد الإسلام الذين يعملون على ترسيخ مفهوم جديد في عقول
المسلمين لإسلام لا يهتم بالسياسة ولا يعنى بشؤون المسلمين في أكثر من ميدان
المسجد وأروقة المحاكم الشرعية ، ومن قال بغير ذلك كان موضع سخط الحاكم وغضب
المتآمرين .
إن
العدو ماهر في إرسال مفاهيمه عندما لم يحمل الناس حملاً على هجر الإسلام ، لئلا
يقوم بين الناس مزيد من التمسك بدينهم والحرص عليه وخشية أن تقع ردة فعل عنيفة تدعوهم لرفض فكرتهم
فارسلوا أفكارهم الهدامة وفي ركابها الذين أعدّوهم لتسلم القيادة من أبناء
المسلمين ليبطشوا بحملة الإسلام والدعاة
إلى الله ، الذين يصرّون على تطبيق الإسلام في واقع الحياة عقيدةً ونظاماً ومنهاج حياة ، حتى ينطلقوا من
منطلق عقيدة لم تعرف البشرية أروع منها
مؤمنين بأن نظام الحكم والعمل السياسي جزءاً من الإسلام ، معتمدين في ذلك
على مصادر التشريع الإسلامي .
إن
الدعوة إلى الإبتعاد بالدين عن السياسة غباء ليس بعده غباء ، وإلا كيف يعقل أن
يفهم الإسلام بلا سياسة والقرآن بلا حكم ،
إلا إذا طمسنا من القرآن آيات وحذفنا من الإسلام تشاريع عرفها المسلمون ووعوها
وطبقوها عبر قرون من الزمان ، كانوا فيها أعزةً بالإيمان والعلم والعمل وكان
أعداؤهم أذلةً بالجهاد .
إن
الحيلولة بين الإسلام والحكم والدعوة في ديار الإسلام هدف يلتقي عليه كل أعداء
الإسلام على ما بينهم من تنافر ونزاع ، والذي يحزُّ في النفس أن يزعم من يحسبون
أنفسهم على درجة من الفطنة والذكاء ، أنهم بهذا الفصل يسيرون في الطريق الذي رسمه
الله وارتضاه .
تعسون
بائسون أولئك ، لأن الفصل بين الإسلام والحكم معناه الفصل بين الدين والحياة فلا
يستمد منه خلق أو مثل أو عادات أو قيم بمعنى فصل الدين عن الحياة في كل مرافقها
وعندها هيهات أن يبقى معنى من معاني الفضيلة أو حقيقة من حقائق الخلق أو قيمة من
قيم الإنسانية لأن القوانين التي تطبق والحكم الذي يسيطر لا يسأل الدين راية في
عقيدة أو معاملات أو سلوك أو عادات وتلك خطيئة كبرى يخالف صاحبها أمر الله ويتنكر
لتعاليم الرسالة المحمدية ، لأن الامر بتحكيم كتاب الله ورد في أكثر من موقع في
القرآن الكريم قال تعالى :{فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم}المائدة
48 . كما حذَّر الله من الإصغاء لأصحاب الهوى في الآية التي بعدها فقال:{وأحذرهم
أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك}المائدة 49 .
وقد
ورد النهي عن ترك بعض ما أنزل الله فكيف بمن ترك الكل ؟ ثم إن المناداة ببعض
الإسلام وترك البعض الآخر يضع المسلمين أمام تساؤل رهيب يدفع القلوب بالزيغ
والهوان فقال تعالى :{افتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك
منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشد العذاب ومالله بغافل
عما تعملون}البقرة 85 .
إن
المتتبع لتفاصيل السيرة النبوية ووقائعها يرى أن رسول الله ﷺ
كان ينبع من معنى نبوته معانٍ لا سبيل إلى إنكارها جعلته إماماً في المحراب وقاضياً يحكم بين الناس وقائداً عسكرياً يخوض
المعارك ، وكان ﷺ سياسياً يدير شؤون الأمة الداخلية
والخارجية على أحسن وجه وأروع صورة .
لقد
فهم المسلمون الأوائل الإسلام حق الفهم وأدركوا أن السياسة والقيادة جزء من
الإسلام لأن الإسلام في نظرهم ليس مجرد ركعات أو أدعية إنما هو نظام شامل يعالج
شؤون الحياة جميعاً يركِّز على التجمع على
العقيدة واحترام العمل الصالح ، سواء كان ذا صبغةٍ دينية كالعبادات أو دنيويةٍ
كطلب الرزق أو الدعوة الى الخير كالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، او الجهاد في
سبيل الله أو تثبيت الفضائل الخلقية كالعدل والاحسان واحترام النظام .
وقد
كان العلماء العاملين الجريئين في الحق المحبين للخير الآمرين بالمعروف الناهين عن
المنكر المحاسبين للحكام الناصحين لهم والمتحملين كلَّ أذىً ومشقة في هذا السبيل
لا يخشون إلا الله ولا يخافون لومة لائم .
روي
أن أبا جعفر المنصور استدعى ابن طاوس أحد علماء عصره فلما دخل عليه قال له : حدثني
عن أبيك فقال له طاوس حدَّثني أبي أن رسول الله ( ص ) قال : ( إن أشد الناس
عذاباً يوم القيامة رجلٌ أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله ) . ثم
قال له عظني يا ابن طاوس : قال نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول : {
ألم تر كيف فعل ربك بعاد .. حتى انتهى الى قوله تعالى .. إن ربك لبالمرصاد } .
ثم قال له ناولني هذه الدواة ، فأمسك عنه ، فقال : ما يمنعك أن تناولنيها ؟ قال
ابن طاوس : أخشى أن تكتب بها معصيةً لله فأكون شريكك فيها .
بمثل هذه النصائح القيمة التي خرجت من قلوب
مؤمنة متفقهة ، ونطقتها ألسنٌ عالمة جريئة صريحة
لم تعرف النفاق والمداراة وسمعتها أذنٌ واعية عاهدت الله تعالى على رعاية
الأمة على أساس شرع الله وإقامة حكم القرآن فكانوا نعم العلماء ونعم الحكام .
كانوا يعرفون الرجال بالحق ، أما الذين يعرفون الحق بالرجال ويثقون في أي كلام
لأنه صادر من فلان ، فهم أبعد الناس من فهم الإسلام بل هم آخر من يقدم للإسلام
خيرا أو يحرز له نصرا ، لقد كانت أعمالهم ترجماناً لتعاليم الإسلام والسنة وهل الدعوة الى الخير والأمر بالمعروف إلا
نصيحةً وموعظةً حسنة ، وكانوا لايكتمون حكماً شرعيا في قضيةٍ تتعلق بشؤون الأمة
لأنه آمنوا بقول الله تعالى:{وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
للناس ولا تكتمونه } آل عمران 187 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق