قال تعالى :{وكذلك جعلنا في كل قريةٍ
أكابر مجرميها ، ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون }الأنعام
123 . إن الذين عناهم الله في هذه الآية ،
هم سفلة المجتمع وأرذال الناس ، لأنهم
خانوا ربهم وأمتهم وعرَّضوا الناس للشقاء
في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة .
وقد ورد في بعض التفاسير ، أن أكابر
مجرميها هم الرؤساء الذين كبر جرمهم واشتد طغيانهم ليمكروا
بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان
ومحاربة منهج الرسالة بالقول والعمل ، وإن مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم ،
لأنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين .
إن أكابر المجرمين يقفون موقف العداء من
دين الله لأنه يجرَّدهم من السلطان الذي
يستطيلون به على الناس ، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب .
والقرآن يُخاطبهم بهذا النداء الرباني
:{قل إنما أعظكم بواحدةٍ ، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا}سبأ
46 . فماذا إذن لو قام كل فرد مع نفسه أو
مع صاحبه ، ثم فكر فيما هم عليه من فساد وصد عن سبيل الله ، وهل اقتنع كل ذي فكر
ومنطق بما جرى ويجري ؟ وهل يرضى الله عنه ؟ وهل فيه خير للأمة ؟
لو قام الأفراد بذلك ابتغاء مرضاة الله
، وفكروا في الجواب البديهي ، بأن الفساد لا يحبه الله بل يمقته ويمقت أهله ،
وسيأتي الوقت الذي يمقت فيه أهلُ الفساد أنفسَهم ، ويتحسرون على ما فرَّطوا وضيعوا
وأفسدوا ، وذلك في يوم الحسرة حيث لا ينفع التحسر ولا الندم .
إن الذي يكره الخير وأهله ، وينشر
الفساد ويصد عن سبيل الله تعالى ، إنما هو بين أمرين لا ثالث لهما ، إما أنه لا
يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، وما الحياة عنده إلا هذه الدنيا ،فهو يسعى ليجمع
فيها ويظلم ويبطش ، لأنه لا يرجو اليوم الآخر ولا يخافه ، لأن الدنيا ومناصبها
أسكرت عقله ولبه فأصبح في غفلة شديدة عن
الآخرة ونعيمها وعذابها ،حتى استمرأ الفساد ، وصارت الدنيا أكبر همه يلهث وراءها
ويجمع حطامها ، ولو كان عن طريق الفساد والإفساد .
ولما كان الظلم قرين الفساد والإفساد ،
فإنه جدير بالظالمين الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق ، أن يتذكروا
يوم الفصل والحساب ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم
ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وليتذكر الظالمون هذا اليوم المشهود ، الذي يقتص فيه
الحكم العدل من الظالمين للمظلومين ليتذكروا
هذا اليوم العظيم ، إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ما داموا في دار الدنيا
دار التوبة والإستعتاب . ليتذكروا أن
للظالم يوماً ينكشف فيه الغطاء ، ويعض فيه على يديه من الخزي والحسرة ، وإن في
كتاب الله لغُنْيةً عن أي كلام ، وكفايةً عن أيِّ موعظة فقال تعالى:{ولا تحسبن
الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخِّرُهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم
وأفئدتهم هواء}ابراهيم 43
. فالله لا يغفل عن ظلم الظالمين ، وخيانة الخائنين لأمتهم ودينهم ، وإن أخذهم آت
لا محالة ، في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع . وإن لم يجد
واعظ الله في هذه الدنيا مع الظالمين شيئاً
ولا يخيفهم هذا المصير الذي
ينتظرهم ، فلا أقل من أن يوجد عندهم بقية مروءة وحياء ، تمنعهم من إفساد أخلاق
الأمة ، والوقوف في وجه المصلحين الداعين إلى إحقاق الحق ، وإقامة الخلافة وحكم
الله في الأرض ، ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين
والخصال الحميدة ؟ وماذا يريدون من إفساد وتسليط برامج الإفساد المختلفة ؟ هل يريدون جيلاً منحلاً يكون وبالاً على
المجتمع ذليلا لاعدائه عبداً لشهواته ؟
ألا ليت الظالمين إلى ربهم يرجعون ،
ويفكرون في مصيرهم ، وليعلموا أن وراءهم
أنباءً عظيمة وأهوالاً جسيمة ، تشيب لها الولدان وتشخص فيها الأبصار ، إن كانوا
يؤمنون بذلك ، وما أظن ذلك ، فليستيقظوا من عقلتهم وليراجعوا أنفسهم وليعلموا أن الله يعلم سرَّهم ونجواهم ، وقد
حذَّرهم من طاعة الشيطان وحزبه ، وبراءته من أتباعه يوم القيامة فقال تعالى {
وقال الشيطان لما قُضي الأمر ، إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان
إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخِكُمْ وما
أنتم بمصرخِيّ إني كفرت بما أشركتموني من
قبل ، إن الظالمين لهم عذاب أليم }ابراهيم
22 . وقال تعالى قبلها : {وبرزوا لله
جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا ، إنا كنا لكم تبعا ، فهل أنتم مغنون عنا من
عذاب الله من شئ }. فالضعفاء الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان على الله ،
حين تنازلوا عن حريتهم في التفكير والاعتقاد والاتجاه ، وجعلوا أنفسهم تبعاً
للطغاة والضعف ليس عذراً بل هو الجريمة بعينها ، فالله
لا يريد لعبده أن يكون ضعيفاً ، وأن ينـزل عن نصيبه في الحرية ، التي لا يستطيع أن
يستعبدها ما دام العبد يتمسك بها . وإن قصارى ما تملكه قوى الظلمة ، أن تملك الجسد
تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه في الزنازن
السجون ، أما الضمير والروح والعقل فلا يملك استذلاها أحد، إلا أن يسلمها
صاحبها لذلك .
من الذي يملك أن يجعل الأمة تبعاً
للمستكبرين في العقيدة وفي التفكير وفي السلوك ؟ ومن ذا الذي يجعلهم يدينون لغير الله وهو خالقهم ورازقهم؟ لا أحد بالطبع ، إلا أنفسهم الضعيفة ، هم ضعفاء
لا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصبا ، إنما هم ضعفاء لأن الضعف في قلوبهم وفي
نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان .
إن المستضعفين كثرة والحاكمين قلة ، فمن
ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ؟
إن الذي يخضعها ضعف الروح وسقوط الهمة وقلة النخوة والتنازل عن الكرامة التي وهبها
الله لبني الإنسان . فالطغاة لا يملكون أن يستذلوا الناس إلا برغبتهم ،فهم قادرون
على الوقوف لهم لو أرادوا ، ولكن الذي ينقصهم هي هذه الإرادة
إن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في
نفوس الأذلاء ، وهذه القابلية هي التي يعتمد عليها الطغاة ، إن العبد الذي يتوجه
لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده ، ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم
والحج وسائر الشعائر والآداب بينما هو في
الوقت ذاته ، يدين في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشرائع من عند غير
الله ، ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية لتصورات واصطلاحات من صنع غير الله ويدين
في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه لأرباب من البشر ، تفرض عليه هذه الأخلاق
والعادات المخالفة لشرع الله ، بهذا يكون الإنسان قد زاول الشرك في أخص حقيقته ،
وخالف شهادة أن لا إله إلا الله ، في أخص حقيقتها وهذا ما يغفل عنه الناس ويزاولونه في ترخص وتميع
، وهم لا يحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون من عبادة الأصنام إن الأصنام في هذه الأيام ، هي الشعائر التي
يختفون وراءها لتعبيد الناس باسمها وضمان ديونهم ، فالصنم لم يكن يومها ينطق أو
يسمع أو يبصر ، إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها ، يتمتم ثم
ينطق لتعبيد الناس وإذلالهم ، فإذا رفعت في أي وقتٍ شعائر ينطق باسمها الحكام ،
ويقررون باسمها ما لم يأذن به الله ، من الشرائع والقوانين والقيم والموازين
والتصرفات والأعمال ، فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها ، فإذا ما
تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجهاته وتعليماته ، مع تلك الشعارات ومقتضياتها نُحِّيَتْ شريعةُ الله وقوانينه وتعليماته ،
ونفذت إرادة تلك الشعارات .
إن الذين يظنون أنفسهم في دين الله
لأنهم يقولون بأفواههم " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
" ويدينون فعلاً لله في الآداب والأخلاق ، وشؤون الطهارة والشعائر والزواج والطلاق والميراث ، بينما يدينون فيما وراء هذا
الركن الضيق لغير الله ، ويخضعون لشرائع لم يأذن بها الله ، ويبذلون أرواحهم وأموالهم
ليحققوا ما يطلبه منهم حاكمهم ، فإذا
تعارض طلبهم مع دين الله ، نبذت أوامر الله ونفذت مطالبهم .
إن من هذا حالهم ، ويظنون أنهم مسلمين
عليهم أن يستفتوا أنفسهم على الأقل
لما هم فيه من الشرك العظيم . إن دين الله منهج شامل لكل صغيرة وكبيرة ،
ولجزئيات الحياة اليومية وتفصيلاتها
والدينونة لله وحده في كل تفصيلٍ وكل جزئيةٍ من جزئيان الحياة ، فضلاً على أصولها و كلياتها ، ولينظر كل واحد
منا لمن المقام الأعلى في حياته ، ولمن الدينونة الكاملة ؟ ولمن الطاعة والإتباع والامتثال
؟ إن كان هذا كله لله فهو في دين الله ،
وإن كان لغير الله ، فهو في دين الطواغيت والعياذ بالله { هذا بلاغ للناس
ولينذروا به ، وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب} .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق