تستوقفك
بعض الآيات في كتاب الله ، وتتفكر فيها ملياً ، فتتحدد منها الأحكام
والتوجيهات التي تُشخِّصُ الواقع كأنه رأى
العين ، وكلما قلَّبتَ فكرك ازددت منها
حكماً ومعاني لا تتوقف .
وترجع
إلى كتب التفسير ، فتزيدك وتغنيك وتبتهج
نفسك بهذه المعاني .
من
هذه الآيات قول الله تعالى :{ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم
قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام ، بل هم أضلُّ أولئك هم
الغافلون}الأعراف 179 .
هذا
النص القرآني ، يضع يدنا على حقيقة ، هي أنه ليس المراد أن من يهتدي هو الذي يَخلق
الله فيه الهداية ، ومن يضل هو الذي يَخلق الله فيه الضلال . كلا لأن الفطرة تأبى
ذلك ، فالله ليس بظلاّم للعبيد ، ويأباه النص القرآني ، فمن اهتدى فإنما يهتدي
لنفسه ، ومن ضلَّ فإنما يضلّ عليها . أما كيف يجمع الله بين وصفي الهداية والإضلال
؟
نعلم
أن الشيطان هو المضل ، لقوله تعالى :{هذا من عمل الشيطان ، إنه عدوٌ مضل مبين}القصص
15 فالمهتدي من كان عند الله مهتدياً ، ولو كان عند الناس ضالاً ، ولا يكون من
المهتدين إلا إذا آمن وعمل صالحاً ، لقوله تعالى :{إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم}يونس 9 وقال {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم
سبلنا وإن الله لمع المحسنين}العنكبوت 16 .
فالله
يهدي من يبغي الهداية لنفسه ، أما الضال
فإنه من كان ضالاً في حساب الله لا في حساب الناس ، لأن الله يضل من يبغي
الضلال لنفسه ويُعرض عن دلائل الهدى ،
وموجبات الإيمان ويُغلق سمعه وبصره دونها
. لقوله تعالى{إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً
، إلا طريق جهنَّم خالدين فيها}النساء 168 .
بهذا
يتضح أن مشيئة الله التي يجري بها
قدره هي أن يخلق الإنسان باستعداد مزدوج
للهدى والضلال تحملهما معاً فطرته مع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى .
وإرسال
الرسل بالبينات لإيقاذ الفطرة إذا تعطلت
وهداية العقل إذا ضلّ ، وكما اقتضت إرادة الله وجود هذه الفطرة ، فقد اقتضت
أيضاً أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى ، وإضلال من لا يستخدم عقله وسمعه
وبصره ، للتمييز بين الهدى والضلال لقوله تعالى:{ولقد ذرأنا لجهنم} فهؤلاء
الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم مهيأون لها ، لماذا ؟ لأنه مكشوفٌ لعلم
الله الأزلي أعمالهم التي تقودهم الى
جهنم ، ولأن الله لا يدفع الناس إلى الضلال الذي يستحقون به جهنم لأن لهم قلوبٌ لا يفقهون بها وأعينٌ لا يبصرون
بها ، وأذانٌ لا يسمعون بها ، فقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها
ولم
يستخدموها ، وقد وصفهم الله بقوله :{إن شرَّ الدواب عند الله الصمُّ البكم
الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً
لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون}الأنفال 23 . لقد عطلوا هذه
الأجهزة فكانوا كالأنعام بل هم أضل ، لأن
للأنعام استعدادات فطرية تهديها ، بخلاف الجن والإنس إذا مرّوا بالحياة غافلين لا
تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ، ولا أعْيُنُهُم مشاهدها ودلالاتها ، ولا آذانهم
إيقاعاتها وإيحاءاتها ، بهذا يكونوا أضلَّ من الأنعام الموكلة إلى استعداداتها
الفطرية الهادية ، ثم يكونون من ذرء جهنم يجري فيهم قدر الله وفق مشيئة ، حين
فطرهم باستعداداتهم تلك ، وجعل قانون جزائهم هذا فكانوا في علم الله القديم حطب
جهنم منذ كانوا .
ثم
يفصِّل الله صنوف الخلق في آيات أخرى
فيذكر منهم المتمسكون بالحق الذين يدعون الناس إليه ويحكمون به ولا ينحرفون
عنه ، كما يذكر المنكرين للحق المكذبين بآيات الله ، أما المتمسكون بالحق فهم
حرّاسٌ عليه ، حين يُكذِّب الناس به وينحرف عنه المنحرفون ، وهم الذين قال فيهم {وممن
خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون}الأعراف 181 . وما كان ليُكرِّم البشرية لو
لم يكن فيها الجماعة التي يسميها الله الأمة ، وهي التي تدين بعقيدةٍ واحدة ،
وتدين بقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة ، وثابتةٍ على الحق يهدون بالحق وبه
يعدلون .
إنهم
دعاةٌ إلى الحق لا يسكتون عن الدعوة به واليه والقيادة باسمه ، لأنه ما جاء ليكون
مجرد علم يُعَرَفُ ويُدرّسْ ، ولا مجرد وعظ يُهدى به ويُعَرَّف ، إنما جاء ليحكم
أمر الناس كله ، يحكم تصوراتهم الإعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه ، ويحكم
شعائرهم التعبدية وحياتهم الواقعية فيقيم
نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه ويقضي
فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة ، ويحكم بذلك عاداتهم
وتقاليدهم وأخلاقهم وسلوكهم ، ومناهج
تفكيرهم وعلومهم ومكتسباتهم الثقافية .
إن
طبيعة الإسلام واضحة لا تحتمل التلبيس ، وإن الحملات ضد الإسلام لا تنقطع من قبل
الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه ، فيحلون ما حرَّم الله ويباركون الفجور والفاحشة ، ويصورون الإسلام
الذي حكم الحياة حادثاً تاريخياً مضى ولا
يُمكن إعادته .
إنهم
يشيدون بعظمة هذا الماضي ، بالاحتفالات التي يقيموها في مناسبات دينيه . ليخدروا
مشاعر المسلمين ، وليقولوا في ظل هذا التخدير ، بان الإسلام اليوم يجب أن يعيش في
نفوس أهله فقط عقيدة وعبادة لا شريعة ونظاما ، ويحاولون تغيير طبيعة هذه الأُمة ،
حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به ، ويحولون هذه الأمة إلى فئاتٍ
غارقةٍ في وحل الجنس والفاحشة والفجور
ومشغولةً بلقمة العيش لا تجدها إلا بالكد والعسر والجهد ، كي لا تفيق بعد
اللقمة والجنس لتستمع إلى هدى أو ترجع إلى دين .
إنها
معركتهم ضد هذا الدين ، جندوا لها كل قواتهم ، وأجهزة الإعلام العالمية والتشكيلات
الدولية لتكفل من أجل ذلك أوضاعاً ، ما كانت لتبقى يوماً واحداً ، لولا هذه
الاستعدادات العالمية للوقوف في وجه هذا الدين .
ورغم
ذلك فإن طبيعة هذا الدين الواضحة والأمة
المسلمة القائمة عليه ، مع قلة عددها وضعف عدتها ما تزال صامدة ، في وجه عمليات
السحق والإبادة الوحشية ، ورغم السجن والمطاردة ، إنها القوه التي لا يحسبون
حسابها وهم يشنون هذه الحملة الضارية ضد
هذا الدين وضد أهله
إنها
القوة التي يغفل عنها المكذبون بآيات الله ، إنه استدراج لهم حيث لا يعلمون أن كيد
الله متين
بل
إن فئةً كبيرةً من المسلمين وصلوا لدرجة من اليأس فلا يؤمنون بذلك .
إن
دول الكفر يتولى بعضهم بعضا ، ويحسبون أن قوتهم ظاهره في الأرض ، وينسون قوة الله
الكبرى لكنها سنة الله مع المكذبين الكافرين ، ويزين لهم المنافقون من المسلمين ما
يُرخي لهم العنان ويُمْلي لهم في العصيان
والطغيان استدراجاً من الله لهم في طريق الهلكة ، وإمعانا في الكيد لهم ، لكنه مع
من ؟ إنه الجبار ذو القوة المتين ولكنهم غافلون .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق