جاء الشهر الفضيل ولم
نقم له بحق الضيافة ، ولم نستعد له بما هو أهل له ، لأن القلوب غافلة والنفوس
خاملة ، أثقلها حب الدنيا وشهواتها .
جاء والأقصى يئن تحت
نير الاحتلال ، ويساوم عليه كل دجال ومحتال ، والأمة في سهو ولهو وسبات ، في وقت
نطق فيه الرويبضه ، وانطلق قيد الشهوات ، واختنق صوت الحق ، حتى أصبح الحليم حيران
، في زمن خلت الساحة من الفرسان ، جاء وطاقاتنا معطلة ، وبلادنا من أهم البلاد
موقعا ، وأطيبها بقعة ، وأخصبها أرضا وأغناها
بالمعادن والثروات ، التي لم تستغل على لا
بل جُرنا على الأرض الحية الخضراء بإقامة
المباني عليها ، بدل الاهتمام بزراعتها .
جاء ونحن نستهلك ولا
ننتج ، ونستورد ولا نصنع ، ونفتخر باقتناء أفخر السيارات والتجهيزات ، ولا نحسن
أيَّ شيئ من الصناعات
جاء وقد اهتم
المسلمون من الفقه بمسائل الطهارة والصلاة والطلاق ، والتركيز على السنن
والمندوبات ، وأهملوا كل ما يتعلق بمصير الأمة وكيانها ورسالتها ، بل لا يسألون عن
تسلط الحكام المستبدين على شعوبهم المقهورة ولا يسألون عن ظلم الأقوياء للضعفاء ،
ولا عن التهاون في أرض الإسلام ، والتنازل عنها لمن اغتصبها بالقوة ، ولا يسألون
عن السكوت على شعوبٍ إسلامية تُذْبَحْ ، ولا تجد من يشدَّ أزرها في محنتها ، وإذا
ما طُلب ذلك فإن الدنيا تقام وتقعد ، جاء والمسؤولون عن أجهزة الإعلام يسرقون روحانية هذا الشهر، وفرص الأجر ويفتحون أبواباً للوزر ، حيث يتأهب شياطين الإنس
في التحضيرات الهائلة ، للأعمال الإعلامية التي توصف بأنها أعمال رمضانية ، ورمضان منها
براء ، فقد أعدوا هذه الأعمال ، تحت دعاوى الترفيه والمنافسة ، وتحت مسميات
الفوازير والمسلسلات والمسابقات وبرامج المنوعات لإشغال الناس باللهو والهزل ، وصرف قلوبهم حتى
في أرجى فرص العام ، للعودة إلى الله والسمو بقلوبهم ونفوسهم ، وبصائرهم وأرواحهم ،
والانصراف إلى الطاعة ، والتوبة والإنابة ، ليحرروا أنفسهم من ربقة هذه العبودية
المادية ، لهذا وذاك ، فإن على المسلمين ، أن يبكوا ولا يضحكوا ، لأنهم يعيشون في
غمرة الذلِّ والاستعباد ، والفقر والإبادة ، والإبعاد والتشريد ، مما يدعو للتساؤل
؟ أين الصيام من أناس انطوت قلوبهم على الحقد والحسد ، وتفريق كلمة المسلمين ،
وإضعاف سلطانهم ؟ أين أدب الصيام ؟ من فئات تحب أهل الفساد وتأنس بمجالس الغاوين ،
وتنافق المسؤولين .
وهل صام من استغل
مصالح المؤمنين ، واستطال عليهم بلسانه ويده ؟ وكيف يعيشون لأمتهم ودينهم ، الذين
تنهزم غرائزهم ، أمام جوع الصيام ومتطلباته ، وتقصير هؤلاء في صومهم نموذج
شاهد على تقصيرهم في سائر فرائض دينهم ، وقضايا أمتهم .
من أجل هذا فإن
المخالفات الفظيعة ، والجرائم الشنيعة ، إنما تقع ممن قلَّ دينهم ، وفسدت طباعهم ،
وساءت أوضاعهم ، أوصى أبو ذرّ أصحابه يوماً فقال:"إن سفر القيامة طويل فخذوا
ما يصلحكم ،صوموا يوماً شديد الحرِّ لحرِّ يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل
لظلمة القبور ، وتصدقوا بصدقة السرِّ ليومٍ عسير " .
ولما قيل للأحنف بن
قيس إنك شيخٌ كبير وإن الصوم يضعفك قال:"إني أعد لسفرٍ طويل والصبر على طاعة الله ، أهون من الصبر على عذاب
الله " .
شهر
تبنى فيه الضمائر ، وتربى فيه العزائم ،شهر دواء النفوس والأرواح ، شهر تربية
الضمائر والتزود بالتقوى ، التي أخبر الله بأنها خير زاد فقال تعالى :﴿ وتزودوا
فإن خير الزاد التقوى ﴾ البقرة 117 . إنه شهر نور وضياء وبركة ، شهر أمن وإيمان ومغفرة ورضوان ، شهر هداية ورشاد وإنفاق وعطاء ،
وبرٍّ وإحسان ، شهر طاعةٍ وعبادة وصلوات وتسبيح ، شهر قيام وصيام واستغفار ودعاء
ورجاء ، شهر تراحم وتعاطف وتزاور وتآلف ،
شهر الصبر والجهاد ، وقراءة القرآن والتوبة والغفران ، إنه ربيع المؤمنين ومرتع الصالحين ، فمرحباً برمضان ضيفاً كريماً
على المسلمين ، إنه أكرم الشهور ، لأنه نزل فيه القرآن قال تعالى :﴿ شهر رمضان
الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان﴾ البقرة 185 . ألا ليت
المسلمين يستقبلونه كما يجب أو يعاملونه
كما ينبغي ، ليتهم يعلمون أن الله يتجلى فيه على عباده بفضله وكرمه فيعملوا
الصالحات ويتوبوا عن المنكرات ، ليتهم يرجعون فيه عن غيهم وضلالهم ، ويبتعدون عن
كل منكر وقبيح وليت العصاة فيه ، يطرقون
باب التوبة والإنابة ويسألون الله الصفح
والغفران ، ويتحببون إليه بالطاعة والعبادة ، ويتوددون إليه بكل برٍّ وإحسان ،
ويتفانون في طلب رحمته ورضاه ليتهم يُحيون
فيه ما مات من كتاب الله وسنة نبيه
ويتذكرون ما نسوه من دينه وشريعته .
ها
هو رمضان يهل علينا بأجوائه العبقة بالإيمان
ففيه عبادة نحن في مسيس الحاجة إليها لتستريح فيها ضمائرنا ، ولتطمئن
نفوسنا ولنقبل على تلاوة القرآن ، ونعطي التلاوة حقها ، فقد كان النبي g
يكثر من تلاوة القرآن في رمضان قال تعالى: ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة
أولئك يؤمنون به ﴾ البقرة 121 . فكأن من لم يعط القرآن حقه في الأداء ، لا يتمكن
الإيمان وحلاوة القرآن من قلبه ، ويؤكد النبي g
حقيقة إعطاء القرآن حقه في الأداء بقوله : (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من
ثلاث) رواه أبو داود .
أما كيف نعيش مع القرآن ونعطه حقه ليعطينا
حلاوته ؟ فذلك يكون بمراعاة أمورٍ منها
التعرف على معانيه وما يريده الله من عباده قال تعالى :﴿ أفلا يتدبرون
القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ محمد24 وعلينا أن نقبل في شهر رمضان على الاستماع إلى
المواعظ ، لأن النفوس إذا ما أصابتها القسوة والغفلة ، وابتعدت القلوب عن الله ،
وتعلقت بالدنيا وما فيها ، واقترفت الذنوب والمعاصي فإنها بحاجة إلى التذكير والوعظ ، وقد أخبر
الله تعالى عن عباده المتقين أنهم بحاجة إلى تعاهد النفوس ، ورعايتها فقال :﴿ والذين
إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب
إلا الله ولم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾آل عمران 135 . إذا كانت هكذا
نفوس المتقين الذين بلغوا المنازل الرفيعة فكيف بمن هم دون ذلك بكثير ؟ وكيف بنا اليوم
ونحن نعيش عالماً مليئاً بالفساد والمنكرات ؟ ناهيك عن الاستغراق في فصول المباحات
والوقوع في المشتبهات .
عن أبي جعفر بن علي قال : ( كان رسول الله g
إذا استهلَّ شهر رمضان استقبله بوجهه ثم يقول : اللهمَّ أهلَّه علينا بالأمن
والإيمان والسلامة والإسلام ، والعافية المجللة ، ودفاع الأسقام والعون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ،
اللم سلِّمنا لرمضان وسلِّمه لنا
وتسلَّمْه منا ، حتى يخرج رمضانُ وقد غفرت لنا ورحِمْتَنا وعفوت عنا )
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق