ترجع بدايات هجرة اليهود إلى الدولة
العثمانية إلى عهد السلطان سليمان
القانوني عندما أهدى تتار بلاد القرم فتاةً يهودية روسية سبوها في إحدى غزواتهم ،
ولشدة جمالها افتتن بها السلطان فاتخذها زوجة له ، وسماها خرَّم السلطان ، وكان
اليهود في روسيا يتعرضون للظلم وفي إسبانيا للقتل والتشريد . وبفضل نفوذ خرَّم في
قصر السلطان ، حصلت على إذن من السلطان بالسماح لليهود باللجوء إلى البلاد ، حيث
بدأ اليهود بالهجرة وانتشروا في كافة
الأقطار العثمانية ، وقد تمكن بعضهم من الوصول إلى فلسطين .
وفي
عهد السلطان عبد الحميد طلب تيودور هرتزل السماح ليهود العالم بالهجرة إلى
فلسطين مقابل رشوة قيمتها خمسة ملايين
ليرة ذهبية يقدمها للسلطان كهدية ، فما كان من السلطان إلا أن أمر بطرده واصدر على
الفور أمراً يمنع هجرة اليهود إلى فلسطين .
ولكن
جمعية الاتحاد والترقي ، طلبت وبإصرار من السلطان أن يُصادق على تأسيس وطن قومي
لليهود في فلسطين ، ووعدوه بتقديم مائة وخمسين مليون ليرة ذهب ، لكنه رفض قائلاً :
" لو دفعتم ملء الأرض ذهباً فلن أقبل ، وقد خدمتُ الملة الإسلامية والأمة
المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة ولن
أسوِّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين ، لهذا لن
أقبل تكليفكم بوجه قطعي ، ولم اقبل أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي
بهذا العار الأبدي " .
إن
إسرائيل نبتة تدين بوجودها إلى اللصوصية الدولية ، التي شجعت هجرة اليهود إلى
فلسطين والذين اصبح وجودهم فيها يهدد
المنطقة برمتها لأن الصهيونية لا تعرف
العيش إلا على القتل والسلب والنهب ، وقد ساهمت الدول الكبرى وخصوصاً بريطانيا
التي بذلت كل ما في وسعها لتوريط العرب في تأييدها في الحرب العالمية بجهود الكولونيل لورنس ، فكانت معاهدة الحسين
بن علي _ مكماهون التي جرَّت العرب إلى جانب بريطانيا ، مقابل وعد العرب
باستقلالهم في نهاية الحرب . وكان الحلفاء رغم الوعود التي قطعوها للحسين ، قد
عقدوا فيما بينهم اتفاقيات ومعاهدات سرية أشهرها
اتفاقية سايكس بيكو تقاسمت فيها فرنسا وبريطانيا البلاد العربية ، وجعل فلسطين
من نصيب بريطانيا . وبالرغم من أن الصهيونية لم تصبح خطراً سياسياً حقيقياً إلا
بفضل المساندة البريطانية فإن الكتاب الأبيض الذي صدر عام 1939 قد أثار سخط اليهود
على بريطانيا لأنه عمل على تقييد الهجرة اليهودية إلى فلسطين والإشراف على بيع
الأراضي فيها . وعندما أطلق اليهود العنان لأعمال الإرهاب والاغتصاب والنهب والسلب
والقتل من قبل عصابتا الارغون و شتيرن ، وكان من الضحايا البارزة لهذا الإرهاب
البربري اللورد موين المندوب السامي البريطاني ، مما أشعر بريطانيا أنها غير قادرة
على تحمل الإرهاب الموجه ضدها ، فدعت ما عرف فيما بعد باللجنة البريطانية
الأمريكية للتحقيق في الوضع وقد أوصت تلك اللجنة بنـزع سلاح القوات اليهودية غير
الشرعية ، وفي عام 1947 اتخذت الجمعية العمومية قراراً أعظم شؤماً وأشد قتلاً فبدلاً من رفع الظلم وإزالة الحيف اللذين طال
عليهما الأمد ، قامت لجنة الأمم الخاصة بفلسطين بربط هذه القضية بمشكلة اليهود
المشردين في مختلف المعسكرات الأوروبية ، وأخيراً اتخذت قرار التقسيم بين العرب
واليهود. بأن تكون لكل منهما دولة مع اتحاد اقتصادي بينهما ، وإخضاع القدس لنظام
خاص ، وقد كان ذلك عملاً ذميماً كما وصفه لورنس سميث عضو الكونجرس الأميركي بقوله
: إن مناوراتٍ دنيئة سبقت التصويت على خطة التقسيم .
ولم يفد العرب جهادهم من أجل حماية وطنهم وذهب أملهم من أولئك المؤتمرين في سان
فرانسيسكو أدراج الرياح ، وذهبوا ضحايا على مذابح الشهوات وسياسات القوة التي فرضت
فرضاً على شعب فلسطين ، وقد بذلت محاولات فيما بعد للتملص من وعود ماكماهون في
اتفاقية سايكس بيكو ، لكن الحاجة إلى تجنيد التأييد اليهودي خلال الحرب العالمية ،
وخشية بريطانيا خطر منافسة الدول الكبرى لها ، وخوفها من قيام دولة عربية قوية ،
تضم البلاد العربية تحت راية الإسلام الذي يهدد مصالحها ، ومن أجل الحيلولة دون
حصول ذلك ،كان تصريح بلفور بوعده الذي يتحدث عن وطن قومي لليهود في فلسطين ليكون وجودهم حائلاً دون قيام أية محاولة من
هذا القبيل ، وكان قادة الحركة الصهيونية يدركون طبيعة هذا الهدف ، وهذا ما صرح به
هرتزل بقوله : " وبالنسبة لأوروبا فإننا سنشكل في البلاد الجديدة نقطة أمامية
ضد اسيا إذا تم تقسيم تركيا في المستقبل القريب ، فسوف تقف الدولة التي تقام في
فلسطين دولة حاجزا " .
ثم
كان ما كان من الصهيونية التي عملت دون ضجر ولا ملل من أجل إقامة الوطن القومي
لليهود في فلسطين ، وعملت ما في وسعها من أجل العهدة لبريطانيا بالانتداب على
فلسطين فكان لهم ما أرادوا ، ففي سان ريمو
عام 1920 منح مجلس الحلفاء الأعلى الانتداب على فلسطين لبريطانيا ، واتخذ قراراً
بعدم السماح للعرب أن تكون لهم حكومة في فلسطين
وتمشياً مع مؤامرة اللصوصية الدولية هذه ، وضعت بنود الانتداب على فلسطين
من قبل الصهاينة أنفسهم ، والذي وصف من قبل النقّاد بأنه جريمة نكراء . وبهذا
ازدادت الهجرة اليهودية إلى فلسطين أضعافاً مضاعفة ، فأنشئت طائفة يهودية تتمتع
بالامتيازات وتضطهد العرب بقساوة بالغة لفتح الطريق أمام اليهود القادمين
وحتى قرار التقسيم الذي جاء لصالح اليهود لم
يرضهم فاعلنوا حرباً إرهابية عدوانية وعندما أعلنت بريطانيا عزمها على الانسحاب
عام 1948 ودخلت الدول العربية من أجل
حماية شعب فلسطين وبلغ القتال ذروته ، أرسل مجلس الأمن الكونت بيرنادوت ليقوم بدور
الوسيط وقد تمكن من عقد هدنة لمدة أربع
أسابيع ، إلا أن اليهود والإرهابيين اغتالوه في القدس ، وبعدها زادت أعمال السلب
والنهب وعاث اليهود فسادا وكانت قرارات مجلس الأمن لصالح إسرائيل وكأنه لا يوجد للعرب حقوق ، تماماً كما يحصل
هذه الأيام في قرارات المنظمة الدولية .
هكذا
نشأت إسرائيل بتخطيط من الدول العظمى على
أساس محو أمةٍ واثبات أمة أخرى ومحو تاريخ
ورسالة وإثبات تاريخ آخر ورسالة أُخرى
ونظرة إلى ما وقع ويقع نلمس أن هذه الدول كانت ولا تزال تصنع دولة إسرائيل
وتروج الإشاعات حول عظمتها وشجاعتها . مع أنه كانت هناك فرصةً سهلة يقدر العرب
فيها على هزيمة اليهود ومنع قيام دولتهم ، وهي تشجيع المجاهدين الفلسطينين ،
وإمدادهم بالسلاح والسماح لا آلاف المتطوعين الراغبين في الشهادة وجعل فلسطين كلها جبهة أمامية ، والعالم
الإسلامي كله قاعدة خلفية للكر والفر .
لقد
كان الفلسطينيون لا يرجون إلا دعم إخوانهم بالسلاح والرجال ، ولو سلموا من
الخيانات لاستطاعوا وحدهم أن يهزموا اليهود أو يقفوا تقدمهم عشرات السنين لكن
الاستعمار يساعدهم ناس من جلدتنا كان يريد شيئاً آخر فقد كان يريد إلحاق هزيمة مزدوجة بالأمة
الإسلامية لا بالعرب وحدهم .
إحداها
عسكرية والأخرى نفسية ، فدفع بدول الجامعة العربية إلى حرب رسمية أعد مكانها
وزمانها بمهارة وارتقب نتائجها بثقة ، ولم لا ؟ وهذه الدول ما تزال تأمر بأوامر
الاستعمار وقادتها دُمىً بين أصابعه .
وعندما
تسجَّل الهزيمة على الدول العربية فسيكون ميلاد إسرائيل دولياً لا ريب فيه ، ألم
تنهزم أمامها حكومات العرب ؟ فكيف ينكر وجودها؟
وحتى
هذه الخطة الماكرة كادت تفشل ، لأن بقايا المخلصين ورجولتهم واستبسالهم في طلب
الشهادة ، أعان على تشتت شمل اليهود وفتح ثغراتٍ واسعة في صفوفهم ، حتى فوجئت
الدول العظمى يومها بالعرب على بعد أميال من تل أبيب عاصمة الدولة المزعومة ولولا تدخل هيئة الأمم التي فرضت هدنة إجبارية
على المقاتلين جميعاً ، لتم الإجهاز عليها
وخلال عشرة أيام من إعلان الهدنة كانت سيول من السلاح والرجال تجئ إلى
اليهود كما وصدرت الأوامر إلى الجيوش
العربية بالانسحاب ، واصطنعت هزيمة للعرب كلهم
ويومئذٍ ولدت خرافة أن الجيش اليهودي الذي لا يقهر ، وأوعز الاستعمار إلى
سماسرته من أبناء العرب والمسلمين بتضخيم الأكذوبة ونشرها على نطاق واسع لكي تتم
هزيمة العرب نفسياً فلا يفكرون في حرب اليهود.
لقد
أحس اليهود والصليبية أن خطر الإسلام لا يزال كبيراً ، فكان لا بد من العمل على
إخراج الإسلام من المعركة واستبقاء اليهودية يتنادى بها الشعب المختار ، ونجح
الاستعمار في إنشاء أنظمة عربية تتنكر لكتاب الله وسنة رسوله e
، ترفع شعارات إما صريحة في رفض الإسلام ، وإما خرساء لا تذكره في موطن ولا تعتمد عليه
في تربية ولا تستمد منه تشريع ولا توثِّق به رباط
ولا تبعث به على تضحية .
وعندما
يخرج الإسلام من الميدان فإن اليهود لا يقاتلون عرباً ولا مسلمين ، لأنهم اختفوا
باختفاء الإسلام ، ومن بقي بأسماء إسلامية ولا إسلام فكانت حرب سنة 1967 وما بعدها إعلاناً عن انتحار
جماعي لمن ينتمون زوراً إلى العرب والإسلام ، وكانت فرصة من ذهب لتوكيد خرافة
الجيش الذي لا يقهر ، والحق أن الذين أخرجوا الإسلام من المعركة أسدوا يداً طولى
لليهود وأكسبوهم نصراً تجاوز الأحلام ، فما كان من اليهود ، إلا أن أحرزوا غنائم
باردة وانتصروا من غير قتال ، ومشوا في
أرضٍ خلت من الجيوش ، ولكن القدر قد يطاول العصاة بيد أنه لا يهملهم وإن غداً
لناظره قريب .
إننا
لم نستكمل أسباب النصر ، فإن طائفة من أخلاق الهزيمة التي خذلت اليهود قديماً
تسللت إلى صفوفنا واستنـزفت قوانا ، ولو صَدَقْنا الله لصَدَقَنا الله ، ولكننا
ابتعدنا عن ديننا وأخلدنا إلى الأرض فكان ما كان ومازال ، ولا يتغير الحال إلا إذا
تغيَّرت الأعمال لما يرضي الله . ) إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما
بأنفسهم( .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق