من
المناسب ونحن نعيش ذكرى الهجرة النبويه ، أن نُوضِّحَ معنى الهجرة ، وهي إنتقال
الرسول عليه السلام وأصحابه من مكة بلد الشرك والوثنية ، الى المدينة التي احتضنت
الحق والنور ، فراراً بالعقيدة وتمكيناً للدعوة وبناء الدولة الحديثة ،.وهذا النوع من الهجره
انتهى بعد فتح مكه لحديث مجاشع بن مسعود
أن النبي ﷺ
قال : ( لا هجرة بعد الفتح ) .
وهناك
هجرة لم يغلق بابها ، ولن يغلق الى يوم الدين ، لأن بواعثها باقية مادام في الدنيا
عسف وظلم يَضْطرُّ الإنسان الى الانتقال
لينجو بعقيدته وإيمانه . والمهاجر في كلا النوعين من الهجرة يترك أرضاً
تُضطهد فيها عقيدته وتستباحُ كرامته ، الى بلدٍ آخر يتمكن فيه من عبادة ربه ، والتعبير عن عقيدته
تعبيراً حراً لا خوف ولا ضرار .
وهذا
النوع من الهجرة ، موجود في كل زمان ومكان ، فحيثما جارت السلطة الحاكمة ، وفسقت
عن أمر ربها ، وتتبعت المؤمنين لتفتنهم في دينهم ، وتصرفهم عن عبادة ربهم ، وتحول
بينهم وبين التعبير عن عقيدتهم ، وأداء شعائرهم ، وتعطل احكام الله ، وتجترئ على
حدود الله ، مع عدم القدرةِ على وضع حدٍ لهذا الظلم ، عندها تصبح الهجرة واجبة .
ومن
هنا يمكن أن نعتبر أن وطن المؤمن عقيدته ، فهي الوطن والسكن والحمى والأهل ، وليس
وطنه بلداً خاصاً محدوداً بحواجز أو محصوراً في بقعةٍ من الأرض .
إن
وطن المؤمن حيث تُعزُّ عقيدته ، فإذا لم تكن العقيدة عزيزةً ، فلا قيمة لوطنٍ ولاسكنٍ
ولا أهلٍ ولا جوار ، بل لا قيمة للحياة كلها .
وعندما
نتتبع أحداث التاريخ ، نرى أن هجراتٍ كثيرة قد حدثت على امتداد الزمن كلها كانت في سبيل العقيدة ، سواء الذين أذلهم
الاستعمار ، وضيق عليهم في أمر دينهم
واضطهدهم بالمصادرة والمطاردة والنفي
وفي بعض الأحيان ذبحهم كما تذبح الشياه . وسواء الذين هامو على وجوههم
فراراً بعقيدتهم ، فساحوا في أرض الله ، وشُردوا تحت كل نجم ، ومن بقي منهم في
بلاده ساموه سؤ العذاب . وقبلهم ضحايا الصليبية الحاقدة قديماً ، وضحايا مجازر
الزنْجِ والتتر والوثنية عندما تمكنوا من بغداد .
وحديثاً
حوادث القتل والابادة ، عند انفصال باكستان عن الهند ، وإبادة الملايين من
المسلمين في الصين الشيوعيه ، وما صنعته الصليبية يوم احتلت بلاد الشام ، ووصلت
الى مَعَرّةِ الْنُعمان ، وأعلنت الأمان للمسلمين فصدَّقوا وأمَّنوا ، ثم استدارت
عليهم تقَتِّل وتُذَبِّحُ ، حتى أبادت
الالوف ، وعمليات الإبادة التي قام بها الصهاينة منذ أن احتلوا فلسطين ،
وما يجري هنا وهناك الكثيرالكثير...هذا الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون ،
ويعيشونه حتى يومهم هذا من القتل الجماعي والإبادة من القوى الكافرة واضطهادهم للعقيدة في الدرجة الاولى وهو ما كان يدفع المسلمين في اغلب الاحيان
الى الهجرة لتسلم عقيدتهم .
إن
الهجرة ضربٌ من الجهاد الشاق في سبيل الله ، ضد مطامع النفس وشهواتها وليعلم المهاجر بانه مجاهد في سبيل الله بهجرته
، له أجر المجاهدين وله شرف التضحية من أجل العقيدة ، فالجهاد والهجرة تحركهما في
النفس البشريه حوافز واحدة ، وكل منهما درع تحتمي به العقيدة من أعدائها ،
فكلٌ من المجاهد والمهاجر ، يعرِّض نفسه للمخاطرة
وكل منهما يحتسب أجره عند الله ، وكلٌ من الجهاد والهجرة ، لا بد أن يكون
في سبيل الله ، لتكون كلمة الذين كفروا السلفى ، قال تعالى في حق المجاهدبن : {يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} وقال رسول الله (ص ) : (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل
الله ) وفي حق الهجره قال : { ومن
يهاجر في سبيل الله} . وقال ﷺ
: ( من كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته
لدنيا يصيبها أو امرأه ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه )
إنها
الهجرة في سبيل الله وكفى ، ما دام في الدنيا ظلم وظالمون ، وهذه هجرة مفتوحة كلما
وُجدت أسبابها ، وقد عبر النبي ﷺ عنها أبلغ تعبير فقال : ( لا تنقطع
الهجرة حتى تنقطع التوبة ) .
وهناك
هجرة قلما يلتفت اليها أحد ، انها ههجرة النفوس الى الخير ، والقلوب الى الطهر ،
والضمائر الى الحق والواجب ، وإذا كانت الهجرة المألوفه ، رحله ماديه على أرض
الوجود ، فإن هذا النوع من الهجرة نقلة
معنوية في عالم النقس ، تهدف الى خَلْقِ جوٍّنظيفٍ ، يعيش فيه المؤمن مع فضائله
ومع ربه وإيمانه ، بعيداً عن الشرور والآثام
وعن كل ما نهى عنه الله ، انها انتقال من السئ الى الحسن ، ومن الشر الى
الخير ، ومن الفساد الى الصلاح ، ومن الرجس الى الطهر ولعلّ سرَّ شقاء المسلمين ، يرجع الى أنهم غيَّروا
ما بأنفسهم فغَّير الله ما بهم ، ولن يرجعوا الى مجدهم إلا يوم يرتفعون بنفوسهم عن
الدنايا والشهوات ، ولن نأخذ مكاننا في قيادة أمتنا وقيادة العالم ، إلا يوم نصعد
بأنفسنا ونهاجر بقلوبنا وضمائرنا الى مستوى حَمَلَةِ الرسالة الاوائل ، ايماناً
وصدقا ، وعلما ووعيا ، وجهاداً وبذلا . فلا يجوز أن يصبح القرآن كتاباً يُدَرّسُ
وكفى ، بل يجب أن يتحول الى مبادئ تُغْرَسْ ، لأن النفوس الطيبة الكريمة ، هي التي
تنقل المعاني القرآنية من قلب المصحف الى قلب الحياة ، وتبلغ بالتطبيق السلوكي
ذروته ، فيصبح القرآن بها حياةً تُمارَسْ
، وواقعاً تعيشه الأفراد والجماعات ، ولهذا الهدف نزل القرآن .
إن
التضارب بين القول والعمل ، يجب أن يزول من حياتنا ، وهو ما يرفضه الاسلام ويعلن
الحرب عليه قال تعالى :{ أتأمون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون
الكتاب }البقره . وقال تعالى على لسان شعيب :{ إن أريد إلا الاصلاح ما
استطعت} . مما يدل على أن النفاذ الى الاصلاح والمنطلق لحمل الرسالة ، إنما
يكون بإخلاص الداعية لمبادئه ، وذلك بائتماره بما يأمره به وانتهائه عما ينهى عنه
. وإن منطق التغيير الذي ينتهجه الاسلام ، يأبى بقاء المسلمين على هذا الوضع من البعد عن الله
والإغراق في الآثام والشهوات ، لذا يجب أن نبدأ التحول من أنفسنا ، ثم ننطلق منها
الى غيرنا استجابه الى قوله تعالى : {ذلك بأنَّ الله لم يكُ مُغيِّراً نعمةً
انعمها على قومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم} .
إن
الهجرة المعنوية في حياة المسلمين ، تجعلهم دائماً سادة انفسهم وسادة الحياة ، ولو
أنهم عاشوا حياةً مهاجرةً الى ربهم ، لما استعبدتهم الشهوات ، ولما استذلتهم النظم
، ولما تفشت فيهم الانحرافات ، ولما تمكن منهم العالمُ الكافرُ يعدُهم ويمنيهم ،
وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
إن
الهجرة التي نعيش ذكراها ، لم تتم بضغط من أية جهة ، كما أن المسلمين لم يذهبوا
الى يثرب ليحتلوها بالقوة ، وانما مهدوا لتلك الهجرة بفتح القلوب قبل استيطان
البلاد فقد تم التفاهم الحرُّ في مؤتمر
هادئ ، ودار حوار مقنع بين الرسول وبين قيادات أهل المدينه في بيعه العقبه الكبرى
، فلم يُفرض فيه قبول أفواج المهاجرين من مكة ، بل هم الذين كانوا يتعجلون استقبال
إخوانهم ويتنافسون في استضافتهم ، ويشاطرونهم الدور والأرض والمال ، ولم يوزع
عليهم الرسول المال ، ولم يعدهم بالوعود
الخادعه ولا منّاهم بشئ ، بل على العكس
ألزمهم من التكاليف الشاقه ماتنوء من حمله الجبال
فقد أخذ عليهم مسؤولية الحرب دفاعاً عن الحق والعقيدة ، هذه العقيدة التي
جعلت أهل يثرب يفتحون قلوبهم للمهاجرين قبل أن يفتحوا بلادهم .
وعندما
حدثت الهجرة ، وتم استيطان الصحابة وهاجر اليهم الرسول ، لم يتخذوا من المدينه
منطلقاً للبغي ، ولا من النصر سبيلاً الى قهر الشعوب ، وانما كوَّنوا الدولة في
مدينتهم الفاضلة ، بإيمانهم وقرآنهم وجهودهم ، فلم ينتدبوا خبيراً أجنبياً ، ولا
استعانوا بجيرانهم ... بل برزت منهم الكفايات التي أكملت كل فراغ وسدت كل عوز ،
وكانت مدينتهم منارة تُضيء للناس أجمعين .
لقد
كانت الهجرة من أجل المبدأ والعقيدة ومن
أجل عالم أفضل كان الجهاد ، وقد عبر المهاجرون بالهجرة عن عظمة المبادئ وسمو
الأيمان ، وإذا كانت الهجره بالنسبه لهم شديدة قاسية ومحفوفة بالأخطار ، لكنها في
سبيل المبدأ تهون ، ومن أجل الحق تتحمل .
لقد
كانت الهجرة بذلاً وتضحيةً وعطاءً وكانت
صبراً وصدقاً واحتمالاً وأملا ، ولم تكن جزعاً ولا استسلاماً ، بل كانت تعببراً عن
أعنف المقاومة ، ورفضاً لمعاني الذل والاستسلام ، كما أن الهجرة تمنحنا الصبر
والأمل في نصر الله ، حيث سبقها جهاد مرير ، وكانت في النهايه تعبيراً عن انتصار الأرادة المؤمنه ، التي لم تقْعِدْها
الشهوات عن الانطلاق لبناء عالم أفضل ، لذا ينبغي ألا نستطيل الوقت أو نَضيق
بالظروف ، أو نَرْهب الباطل المسلح الذي يحتلُ بلادنا ولا نيأس ، والا يتسرب الوهن
الى قلوبنا مادمنا مع مبادئنا وحقنا ،
وأن نستفيد من دروس الهجرة التي نجدد بها انفسنا ونحدد مسارنا ، ونعقد عليها
قلوبنا وضمائرنا وبذلك ينصرنا الله {
ولينصرنَّ الُلهُ من يَنْصُرَه إن الله لقوىٌ عزيز} .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق