الأحد، 26 أكتوبر 2014

عبادة الصوم


                                
  إن  أول حق على الإنسان ، هو حق ربه الذي خلقه , وأول ما يتمثل هذا الحق ، إنما هو في عبادته والسعي في مرضاته .
أما مفهوم العبادة الصحيح ، وسرُّ التكليف بها  فهو ما جاء به الإسلام من هداية وإصلاح .
والعبادة : اسم جامع لكل ما  يحبه الله ويرضاه  من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
 وهي حق الله على عباده . روى  البخاري عن معاذ قال ( كنت رديف رسول الله فقال : يا معاذ  أتدري ما حق الله على العباد ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : حق الله على العباد ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ) .
إن إظهار  العبودية لله وامتثال أمره ، هو عمادُ العبادات كلها , وإن صلاح النفس واستقامة  الأخلاق والتقوى ، هي ثمرة لازمة للعبادة . لقوله تعالى : ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة 21 . وبين ثمرة ذلك في آخر الآية بقوله لعلكم تتقون .
والعبادات منها ما يتمثل في القول , كالدعاء وذكر الله , ومنها ما يتجلى في الفعل بدنياً كالصلاة أو مالياً كالزكاة ، أو جامعاً بينهما كالحج والجهاد في سبيل الله  ومنها ما ليس قولاً ولا فعلاً ، ولكنّه كف وامتناع كالصوم ، الذي هو : الامتناع عن الأكل والشرب ، ومباشرة النساء ، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
والإمساك عن المفطرات ، عنوانٌ لإمساك حقيقي  عن كل عمل يتنافى مع مبادئ الإسلام , وإلا فأي غناء ؟ أن يدع المسلم طعامه وشرابه ، ويقعَ في المعاصي والمخالفات ، وإعداد أشهى المأكولات وكأنه شهر أكلٍ  وشرب , وكأنهم أهملوا أرواحهم ، واهتموا  بأجسادهم ، يعملون من أجلها لإشباع غرائزهم وبطونهم وفروجهم  ولسان حالهم قول القائل .
                      إنما الدنيا طعـام     وشراب  ومنـام
               فإذا  فاتك  هذا      فعلى الدنيا السلام
وقد وصفهم الله بقوله :{إن هم إلا  كالأنعام بل هم أضل سبيلا}الفرقان 44 .
فرض الله الصوم ، ليحرر الإنسان من سلطان غرائزه ، وليتغلب الإنسان على نزعات شهوته  ويتحكم في مظاهر حيوانيته ، وفيه تقوية للإرادة والتعويد على الصبر . روى ابن ماجة أن رسول الله  (ص ) قال : (لكل شيءٍ زكاه ، وزكاة الجسد الصوم ، والصوم نصف الصبر ) . لذا يعتبر شهر رمضان شهر الجهاد ، ومن لم ينتصر على نفسه ، فهيهات أن بصبر في ميدان المعارك .
وفي الصوم كذلك ، تعريف للمرء بقيمة نعم الله على الإنسان ، والتذكير بجوع الجائعين . روي أن النبي قال (عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذَهَبا ، قلت لا يا رب ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوما ، فإذا جعت تضرَّعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك) رواه الترمذي       
وفي الصوم تمام التسليم لله ، وكمال العبودية له  لذا  نسب الله الصوم إلى نفسه في معرض  الجزاء 
فقال الحديث القدسي : (كل عمل ابن آدم له  إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه من أجلي ، ويدع  شرابه من أجلي ، ويدع لذته من أجلي ، ويدع زوجته من أجلي ) . رواه ابن خزيمة  فكل  إنسان يمكنه أن يتظاهر بالصيام  لابساً لبوس العابد ، ولكن الله يعلم ذلك   فكانت نسبة الصوم إلى الله ، وعندما سأل رسول الله جبريل عليه السلام عن الإحسان   قال له ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك ) رواه البخاري .
 إن الصيام طريق للشّعور بأمانة الرسالة ، التي يحملها المسلم ، فيستقبل رمضان ، مدركاً بأنه شهر القرآن والصبر والعبودية ، وأنه شهر الجهاد  وبناءً عليه فانه حرام على المسلمين ، أن يولوا ظهورهم ويطمئنوا لما هم عليه ، من ضياع وفرقة  وبعد عن الوعي الإسلامي ، فيهونوا على أنفسهم ويتبلد  منهم الحس ، وتتداعى عليهم الأمم  كما تداعى الأكلة على قصعتها .
 حرام على المسلمين أن يكون هذا موقفهم ، وقد خصهم الله بشهر رمضان ، يعاودهم مرة كل عام بحقيقته الشرعية , وهي لا تنحصر في الإمساك عن الطعام والشراب ، وإنما تشمل الإمساك  عن كل ما يتجافى مع دعوة الإسلام ، التي يتآمر عليها أعداء الأمة لما تحمل من روح المعرفة والعمل  والجهاد . والصيام طريق للشعور بأمانة الرسالة  التي يحملها المسلم للعمل الى عودة الحياة الإسلامية ، فما أحوجنا ونحن نعاني ما نعاني ، إلى روح جديده متوثبة ، تدفع بالقافلة المُؤمنة إلى الأمام غير عابئةٍ بعثرات الطريق .
إن علينا في هذا الشهر ، أن نذكر ما قد نغفل أو نتغافل عنه ، في كثيرٍ من الأحيان ، ولولا ذلك لكان لنا شأنٌ آخر ، من حيث علاقتنا بهذه العبادة ، إنه امتحانٌ للفرد ، من حيث  الإعراض عن الإثم ، دونما رقيبٌ ظاهري أو حارس قريب .
 وهنا سؤال : هل فقه المسلمون أسرار الصيام ؟ وهل نقتدي بأسلافنا الذين جنوا ثماره وتفيئوا ظلاله واستمدوا منه روح القوه ؟  لقد كان نهارهم نشاطاً وإنتاجاً واتقانا , وكان ليلهم تزاورا وتهجداً وقرآنا ، وكانت ألسنتهم صائمة  لا تلغو برفث أو جهل ، وآذانهم صائمة فلا تسمع لباطل   وأعينهم صائمة ، فلا تنظر إلى حرام أو فحش ، وقلوبهم صائمة ، فلا تعزم على خطيئة أو إثم وأيديهم صائمة ، فلا تمتد بسوء أو أذى ، لأنهم فقهوا قول رسول الله : (رب صائم ليس له من صيامه إلا  الجوع  ورب قائم ليس له من قيامه إلا  السهر) : وقوله :( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فلا حاجة لله في  أن يدع طعامه وشرابه ) .

أما حال كثير من الناس هذه الأيام مع رمضان فبئس الحال وموقفهم منه ، جعله الله  للقلب والروح فجعلوه للبطن والمعدة ، جعله الله للحلم والصبر ،  فجعلوه للغضب والبطش ، جعله الله للسكينة والوقار ، فجعلوه للسباب والشجار  جعله الله لنغيِّر فيه من صفات أنفسنا ، فما غيرنا إلا مواعيد أكلنا ، فهل آن لنا أن نُؤدَّي هذه الفريضة كما ينبغي ، لنفوز برضا الله ، اللهم آمين .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق