إن أول حق على الإنسان ، هو حق ربه الذي خلقه ,
وأول ما يتمثل هذا الحق ، إنما هو في عبادته والسعي في مرضاته .
أما مفهوم
العبادة الصحيح ، وسرُّ التكليف بها فهو
ما جاء به الإسلام من هداية وإصلاح .
والعبادة : اسم
جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .
وهي حق الله
على عباده . روى البخاري عن معاذ قال (
كنت رديف رسول الله ﷺ فقال : يا معاذ أتدري ما حق الله
على العباد ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : حق الله على العباد ، أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئا ) .
إن إظهار العبودية لله وامتثال أمره ، هو عمادُ العبادات
كلها , وإن صلاح النفس واستقامة الأخلاق
والتقوى ، هي ثمرة لازمة للعبادة . لقوله تعالى : ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين
من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة 21 . وبين ثمرة ذلك في آخر الآية بقوله لعلكم تتقون .
والعبادات منها
ما يتمثل في القول , كالدعاء وذكر الله , ومنها ما يتجلى في الفعل بدنياً كالصلاة
أو مالياً كالزكاة ، أو جامعاً بينهما كالحج والجهاد في سبيل الله ومنها ما ليس قولاً ولا فعلاً ، ولكنّه كف
وامتناع كالصوم ، الذي هو : الامتناع عن الأكل والشرب ، ومباشرة النساء ، من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس .
والإمساك عن
المفطرات ، عنوانٌ لإمساك حقيقي عن كل عمل
يتنافى مع مبادئ الإسلام , وإلا فأي غناء ؟ أن يدع المسلم طعامه وشرابه ، ويقعَ في
المعاصي والمخالفات ، وإعداد أشهى المأكولات وكأنه شهر أكلٍ وشرب , وكأنهم أهملوا أرواحهم ، واهتموا بأجسادهم ، يعملون من أجلها لإشباع غرائزهم
وبطونهم وفروجهم ولسان حالهم قول القائل .
إنما الدنيا طعـام وشراب ومنـام
فإذا فاتك هذا
فعلى الدنيا السلام
وقد وصفهم الله
بقوله :{إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل
سبيلا}الفرقان 44 .
فرض الله الصوم
، ليحرر الإنسان من سلطان غرائزه ، وليتغلب الإنسان على نزعات شهوته ويتحكم في مظاهر حيوانيته ، وفيه تقوية للإرادة
والتعويد على الصبر . روى ابن ماجة أن رسول الله
(ص ) قال : (لكل شيءٍ
زكاه ، وزكاة الجسد الصوم ، والصوم نصف الصبر ) . لذا يعتبر شهر رمضان شهر الجهاد
، ومن لم ينتصر على نفسه ، فهيهات أن بصبر في ميدان المعارك .
وفي الصوم كذلك
، تعريف للمرء بقيمة نعم الله على الإنسان ، والتذكير بجوع الجائعين . روي أن
النبي ﷺ قال (عرض عليّ
ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذَهَبا ، قلت لا يا رب ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوما ،
فإذا جعت تضرَّعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك) رواه الترمذي
وفي الصوم تمام
التسليم لله ، وكمال العبودية له لذا نسب الله الصوم إلى نفسه في معرض الجزاء
فقال الحديث
القدسي : (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام
فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه من أجلي ، ويدع
شرابه من أجلي ، ويدع لذته من أجلي ، ويدع زوجته من أجلي ) . رواه ابن
خزيمة فكل إنسان يمكنه أن يتظاهر بالصيام لابساً لبوس العابد ، ولكن الله يعلم ذلك فكانت نسبة الصوم إلى الله ، وعندما سأل رسول
الله ﷺ جبريل عليه
السلام عن الإحسان قال له ( أن تعبد الله
كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك ) رواه البخاري .
إن الصيام طريق للشّعور بأمانة الرسالة ، التي
يحملها المسلم ، فيستقبل رمضان ، مدركاً بأنه شهر القرآن والصبر والعبودية ، وأنه شهر الجهاد وبناءً عليه فانه حرام على المسلمين ، أن يولوا
ظهورهم ويطمئنوا لما هم عليه ، من ضياع وفرقة
وبعد عن الوعي الإسلامي ، فيهونوا على أنفسهم ويتبلد منهم الحس ، وتتداعى عليهم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها .
حرام على
المسلمين أن يكون هذا موقفهم ، وقد خصهم الله بشهر رمضان ، يعاودهم مرة كل عام
بحقيقته الشرعية , وهي لا تنحصر في الإمساك عن الطعام والشراب ، وإنما تشمل
الإمساك عن كل ما يتجافى مع دعوة الإسلام
، التي يتآمر عليها أعداء الأمة لما تحمل من روح المعرفة والعمل والجهاد . والصيام طريق للشعور بأمانة الرسالة التي يحملها المسلم للعمل الى عودة الحياة
الإسلامية ، فما أحوجنا ونحن نعاني ما نعاني ، إلى روح جديده متوثبة ، تدفع
بالقافلة المُؤمنة إلى الأمام غير عابئةٍ بعثرات الطريق .
إن علينا في
هذا الشهر ، أن نذكر ما قد نغفل أو نتغافل عنه ، في كثيرٍ من الأحيان ، ولولا ذلك
لكان لنا شأنٌ آخر ، من حيث علاقتنا بهذه العبادة ، إنه امتحانٌ للفرد ، من
حيث الإعراض عن الإثم ، دونما رقيبٌ ظاهري
أو حارس قريب .
وهنا سؤال : هل
فقه المسلمون أسرار الصيام ؟ وهل نقتدي بأسلافنا الذين جنوا ثماره وتفيئوا ظلاله
واستمدوا منه روح القوه ؟ لقد كان نهارهم
نشاطاً وإنتاجاً واتقانا , وكان ليلهم تزاورا وتهجداً وقرآنا ، وكانت ألسنتهم
صائمة لا تلغو برفث أو جهل ، وآذانهم
صائمة فلا تسمع لباطل وأعينهم صائمة ،
فلا تنظر إلى حرام أو فحش ، وقلوبهم صائمة ، فلا تعزم على خطيئة أو إثم وأيديهم
صائمة ، فلا تمتد بسوء أو أذى ، لأنهم فقهوا قول رسول الله ﷺ : (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع
ورب قائم ليس له من قيامه إلا
السهر) : وقوله ﷺ :( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه ) .
أما حال كثير
من الناس هذه الأيام مع رمضان فبئس الحال وموقفهم منه ، جعله الله للقلب والروح فجعلوه للبطن والمعدة ، جعله الله
للحلم والصبر ، فجعلوه للغضب والبطش ،
جعله الله للسكينة والوقار ، فجعلوه للسباب والشجار جعله الله لنغيِّر فيه من صفات أنفسنا ، فما
غيرنا إلا مواعيد أكلنا ، فهل آن لنا أن نُؤدَّي هذه الفريضة كما ينبغي ، لنفوز
برضا الله ، اللهم آمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق