الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

مشكلة الغذاء


إن جميع المشكلات والأزمات التي تعاني منها البشرية ، هي في الحقيقة من صنع الإنسان نفسه  وهو الجاني وهو الضحية في الوقت نفسه ، وأية معالجة لهذه المشكلات بعيدة عن التفكير ، وإعادة صياغة الإنسان وتحصينه بالعقيدة الصحيحة ، التي تمنحه الثقافة والرؤية للكون والحياة ، وتشعره بالرقابة والمسؤولية عن تصرفاته فيما يفعل ويدع فسوف تبوء بالفشل لأنها تعالج الآثار وتغفل الأسباب .
 إن العقيدة الإسلامية ركزت على الإنسان  وإعادة صياغته ، وبناء رؤيته للحياة ، وتنظيم مسالكه في التعامل معها ، أكثر من التركيز على أشيائه ، بل إن الإهتمام الأكبر ، إنصب على أخطر المشكلات الإنسانية ، التي تساهم بقلق الإنسان وشقوته ، وفي مقدمة هذه المشكلات مشكلة الرزق أو الغذاء ومشكلة الحياة ، حيث جعل الله الإيمان بأنها قدر مكتوب ، ومستقبل مضمون ، من أركان الإيمان وبناء الإسلام قال تعالى:{وفي السماء رزقكم وما توعدون}الذاريات 22
وأقسم الله تعالى أن هذا الرزق المخزون يقين وحق ، سوف يتحقق بشكل محس ، كمثل النطق الذي أمكن الله الإنسانية منه بقدر ، فقال تعالى :{فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون}الذاريات 23 .
فالفهم الإسلامي ، أن النطق لا يتحصل إلا بتشغيل جهازه ، وأن الرزق لا يكسب إلا بفعل صاحبه .
وقد جاءت السنة النبوية لتؤكد هذه الرؤية لقضية الرزق ، فقال الرسول : ( إن روح القُدُس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها ، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلُبَهُ بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينالُ ما عنده إلا بطاعته ) رواه أبو نعيم في الحلية .
فالرزق مضمون من الله ، والسعي لتحصيله مرتبط بالإنسان ، فإذا تحرَّك لتحقيق ذلك فقد جعل الله ذلك عبادة وتكليفاً شرعياً ، كما أن الإسلام يحض على العمل ، ويعتبره أفضل الكسب ، ويحذِّر من العبث والهدر والعدوان  وأن المعاناة التي تعانيها البشرية ، من أزمة الغذاء في أكثر مناطق العالم ترجع الى سوء التوزيع .
فقد كانت حصيلة الفترة الماضية ، من هيمنة الغرب بحريته الإقتصادية ، كارثة على مستوى الكون بأسره ، ففي عام 1992 لوحظ أن 80 % من الخيرات الطبيعية في العالم ، يتم استهلاكها من قبل 20 % من سكان العالم ، وكان نتيجة هذا التوزيع الجائر ، أن يموت سنوياً 25 مليوناً من البشر  بسبب أنموذج التنمية المفروض من الغرب 
وقد أعلن صندوق الامم المتحدة للتنمية ، أن الفرق الشاسع بين البلدان الأكثر غنىً والأكثر فقرا ً تضاعف خلال ثلاثين سنة .
ففي فرنسا عام 1992 يتصرف 6 % من الشعب في 50 % من الثروات .
وفي الولايات المتحدة يمسك 5 % من الشعب بحوالي 90 % من الثروات الطبيعية .
 إذن المشكلة هي في الفلسفة التي تحكم المسالك  والتي ينتج عنها سوء التوزيع والظلم الاجتماعي  وليست في نضوب الموارد ، وبعبارة أخرى  ليست المشكلة في عجز الطبيعة ، وإنما هي في مسؤولية الإنسان نفسه .
إن الأزمة الغذائية والاقتصادية ، هي أحد منعكسات أنظمة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي  التي ساهمت بطرد العقول والسواعد والخبرات والأموال ، ويكفي أن نشير في هذا المقام ، في مجال الأموال إذ تفيد المعطيات بشأنها  أن كل دولار استثمر في الوطن العربي ، استثمر مقابله 56 دولار في الاسواق الدولية ، وأن رؤوس الأموال العربية المستثمرة في الخارج  وصلت الى حدود 850 مليار دولار ، إذ أن حجم استثمار أقطار الخليج العربي بالولايات المتحدة لوحدها ، ما بين أفراد وحكومات بلغ 250 مليار دولار في شكل وداءع وعقارات واسهم ، وبلغ مجموع الفوائض العربية المهاجرة الى الاسواق المالية الدولية 670 مليار دولار .
 أما في مجال هجرة العقول والسواعد والخبرات فحدث ولا حرج .. فمن  أين  تتحقق التنمية وكيف تعالج  الأزمة ؟ إذا كان الذين يقومون على أمر السياسات ، لا يعانون من الأزمة أصلاً  كما أن فلسفة صناعة الهزائم والأزمات ، تسوغ وتحقق لهم الالتجاء والإرتماء في أحضان أسيادهم
وإن كثيراً من الأنظمة التي جاءت باسم معالجة الأزمة الأقتصادية ، ورفعت شعارات تحسين أوضاع العامل والفلاّح ، أنتهت إلى واقع أكثر حزناً . فقد  خربت الأراضي الزراعية بل وعطلتها ، وسمحت بأستغلالها لبناء العمارات بدل زراعة المثمرات ، واستغل العمال والفلاحين  للمساندة والمناصرة والتأييد ، وتسخيرهم عيوناً للسلطان ، مما أدى إلى إرهاق الأمة وبؤس خدماتها ، وإقفار القرى  والمزارع من الإنتاج  واليد العاملة ، ووجود طاقات هائلة معطلة   تنتظر خبر السلطان ، كما أدى ذلك إلى تقديم أهل الولاء وإبعاد أهل الخبرة ، مما جعلهم بحاجةٍ الى المساعدات والخبرات الخارجية لصالحح التنمية ومعالجة الأزمات .
فتحولت إلى تنمية االتخلف والعطالة ، وعدم الإعتماد على الذات ، ثم إنتهت إلى الإرتماء عند أقدام الغرب الكافر ، وفتح الأسواق لمنتجاته وبضائعه ، والعيش عالةً عليه ، واستمرار الحاجة إليه ، بالإضافة إلى أن محاولات تحويل المجتمع   من مجتمع زراعي  إلى مجتمع صناعي ، أدت إلى ذهاب الأموال لشراء المصانع ، واستقدام العمالة والخبراء ، واستيراد المواد المعدة للصناعة في كثير من الأحيان ، مما أدى إلى تكديس منتجاتها  ففشل التصنيع وفشلت الزراعة ، مما أوصل الى حالة الوهن التي ذكرها رسول الله في الحديث الذي رواه أبو داود في باب الملاحم عندما قال :( وليقذفنَّ الله في قلوبكم  الوهن فقال قائل : يا رسول الله ؟ وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت) .
وقد يكون الوهن أن تعيش الأمة عالة على الأمم  وسوقاً لأستهلاك منتجاتها ، وعجزاً عن الإنتاج وتحقيق الإكتفاء الذاتي .
إن المساعدات أو الدعم أو المعونات التي تقدمها دول الكفر ، هي في حقيقتها لتصريف فوائض انتاجها ، ومراقبة البلاد التي أصبحت خاضعة لها من أجل لقمة العيش ، كما تملي عليها شروطها  حتى أن البلاد الإسلامية أصبحت تعتمد على ما يقدم اليها من التبرعات ، وتلهث وراء مساعدة المستشارين ، والعمل على جلب الشركات الاحتكارية العالمية ، سعياً وراء سراب الانطلاق الاقتصادي ، كما تهدف هذه الدول الى إبعاد الإسلام فكراً وثقافةً ومنهج حياة . 
ولن تخرج  الأمة مما هي فيه ، إلا بإنسان الإسلام الحق ، في إيمانه ومنهجه ونظرته المتوازنة ، في مركب يجمع إنسجام الأرض والسماء في نظام الكون ، والدنيا والآخرة في نظام الدين   والعقيدة والروح والجسد في نظام الإنسان  والعبادة والعمل في نظام الحياة ، والشورى والعدالة في نظام الحكم والإدارة ، والعمل والإنتاج في نظام الإقتصاد ، والأمن واليقين بتوفر الرزق وانقضاء الأجل .
ولا يمكن أن تتحقق هذه المهام الجسام ، إلا إذا تمسكنا بعقيدتنا ، وانطلقنا من الغايه المثلى وهي توحيد الله عز وجل ، حيث تقترن الممارسة بالوعي ، والوعي بالمسؤولية ، والمسؤولية بالآخرة  ويمتزج الإيمان بالاخلاص ، والاخلاص بالتقوى  والتقوى بالعمل . قال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }  

     







               
            معاناة المسلمين في البلقان
قال تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } البقرة 251 .
تشير الآية القرآنية ، الى أن أي مجتمع لا تقوم فيه هيئة قويةٌ رادعةٌ ، لا بد أن تسوده الفوضى والانحلال ، حيث تتصارع القوى ، وتتنافس الطاقات في تدافع وتسابق ، إلى تحقيق المصالح والغايات ، وما يجري في البلقان وإبقاءه جرحاً تنزف منه دماء المسلمين ، من أجل تحقيق أهداف معينة ، باللجوء إلى أسلوب القوة والحروب المدمرة ، والصدامات الوحشية ، والكيد المتوالي على الإسلام والمسلمين .
إننا في ظلِّ هذه الظروف ، نأمل من الله أن نرى الحق ينتصر ، وينتصف  المظلوم ، وترتفعُ راياتُ الإيمان خفاقةً ، ويعم الخيرُ على كل المسلمين  لأن يد الله الحكيمة المدبرة ، هي القادرة على أن    تقود هذه المواكب المتصارعة ، إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف .
وذلك بقيام الجماعة الخيَّرة المهتدية ، التي تعرف الحق وتسلك الطريق الموصل اليه ، وتؤمن بأنها مكلفةٌ بدفع الباطل ، وإقرار الحق في الأرض   وأنه لا نجاة لها من عذاب الله ، إلا أن تنهض الأمة بالدور المطلوب منها لهداية البشرية إلى المنهج الرباني ، وأن تحتمل في سبيل ذلك ما تتطلبه هذه المهمة ابتغاء مرضاة الله . ليمضي أمرُ الله ، ويكون النصرُ حليف الفئة المؤمنة في نهاية المطاف ، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض .
إن ما يجري في كوسوفا وما جرى في فلسطين يعيد إلى الأذهان الأوجاع الإنسانية ، التي نشبت في الربع الأول والثاني من هذا القرن .
مما يدعو للتسائل أي الحضارات أرحم بالإنسانية؟  حضارةٌ أنتجها الإسلام ثم شوهها الغرب ، أم حضارةٌ قامت على أشلاء الملايين من البشر .
إن ملامح المأساةِ واحدة ، وقصة النازحين والمهجّرين متشابهة ، فالعنصرية والتطهر العرفي في إسرائيل ، أقدم وأسوأ مما هو عليه في البلقان   فما انتهكت حقوق الإنسان في مكان مثلما انتهكت في فلسطين ، وإن عشرات الفيتوالتي حصدتها إسرائيل لصالحها من أمريكا ، هو الذي دفع بإسرائيل إلى العمل الحثيث لتهويد القدس  وإلى بناء المزيد من المستوطنات اليهودية على أراضي فلسطين ، كما أن تهويدَ القدس كصربنة كوسوفا ، ذاك ظلم وقهر وتشريد ، وهذا ظلم وقهر وتشريد ، وفي كلا الحالين يُستهدف الإسلام ، وتهدر الكرامة وتضيع الحقوق   وتتكررُ هذه الصورة في بلاد الإسلام ، وإن تعدد الفاعلون .
كما أن ردة فعلنا تكاد تكون واحدة ، تصريحات وبيانات واستنكاراتٌ ليس إلا .
وعندما نطالب المسلمين بالتصدي لما أصاب الأمة من ضعف في فهم المبدأ الذي قامت على أساسه دولة الإسلام ، نسمع الجواب المتكرر وحتى من المتحمسين لنشر الدعوة ، لا نستطيع ، الله المستعان ، خلَّينا نأكل خبز ، وما شابه ذلك من الإعتذارات الواهية التي تتردد على ألسنة الكثيرين
إننا نتوجه إلى هؤلاء بهذه التساؤلات .
هل يستقسم فهم الأمة لمبدئها وهي تطلقُ العنان للهوى في التشريع ؟
وهل يستقيمُ لها ذلك وهي تمعن في موالاة أهل الكفر ، وإدخال أفكار الكفر بدل أفكار الإسلام وهل يمكن أن يطبق الإسلام إلا بدولةٍ تحمل دعوته إلى العالم بالحجة والجهاد ؟
ولماذا لا يغارُ المسلمون من أصحاب الأفكار الهدامة ، الذين يسترخصون كلَّ غالٍ ويستسهلون كلَّ صعب في سبيل تحقيق أهدافهم ، وإلا من سيعيد للأمة أمجادها ، هل هم الكافرون أم العَلْمانيون ؟ إنه لا هذا ولا ذاك ، لأن ذلك لا يكون إلا بالاقتداء بمن سبق من الدعاة ، الذين بذلوا كلَّ غال ورخيص من أجل دينهم وعقيدتهم
إنه الطريق الوحيد لرجوع الأمة إلى الإسلام  الذي جاء ليحقق الخير ويبسط العدل ويرفع الظلم عن كلِّ بني البشر .
إن الظلم يستحيل أن يبقى مستمراً في استعلائه على الحق ، لأن الله لا يريد للأمة أن تذل وتخزى  فما جاء الإسلام إلا ليمنع الظلم والقهر الذي يصيب المسلمين ، كما حدث في فلسطين ويحدث في كوسوفا ، حيث يَحْرِقُ الصربُ قرى المسلمين ، فيقتلون من يقتلون ويجبرون الباقي على النـزوح من بلادهم .
إننا ونحن نعاني هذا النـزيف المستمر في الجسد الإسلامي ، لندرك أن واجباتنا حيال أزمات العالم كثيرة ، مما يدعو للتساؤل من يوقف هذا النزيف وكيف ؟ وهل ما يجري من حرب هو للدفاع عن المسلمين في البلقان ؟ أم هو العمل على تصفية الحسابات الإستراتيجية بين شطري أوروبا ؟ وما فائدة العالم الإسلامي والمسلمين من هذا الذي يجري ؟
 إننا في هذا الوضع الذي نعيش ، لا نملك إلا أن نقول في غياب الموقف الإسلامي ، حيال هذه الأزمة بأن قوى الكفر تخطط لتمرير رؤيتها في رسم تسوية نهائية للمسألة البلقانية ، وستتبعها تسويات جغرافية وسياسية أخرى في أجزاء أخرى  الأمر الذي يدعو كل مسلم مخلص في هذا العالم إلى الرجوع إلى الله قولاً وعملاً ، وإلا فالنهاية لن تكون مرضية من وجهة نظر الإسلام ، الذي يدعونا للعمل بكل ما وسعنا من طاقات فكرية وجسدية ، حتى تنشأ أجيالٌ تندفع تحت راية التوحيد وعقيدتها قال تعالى : {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
     





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق