إن جميع المشكلات
والأزمات التي تعاني منها البشرية ، هي في الحقيقة من صنع الإنسان نفسه وهو الجاني وهو الضحية في الوقت نفسه ، وأية
معالجة لهذه المشكلات بعيدة عن التفكير ، وإعادة صياغة الإنسان وتحصينه بالعقيدة
الصحيحة ، التي تمنحه الثقافة والرؤية للكون والحياة ، وتشعره بالرقابة والمسؤولية
عن تصرفاته فيما يفعل ويدع فسوف تبوء بالفشل لأنها تعالج الآثار وتغفل الأسباب .
إن العقيدة الإسلامية ركزت على الإنسان وإعادة صياغته ، وبناء رؤيته للحياة ، وتنظيم
مسالكه في التعامل معها ، أكثر من التركيز على أشيائه ، بل إن الإهتمام الأكبر ،
إنصب على أخطر المشكلات الإنسانية ، التي تساهم بقلق الإنسان وشقوته ، وفي مقدمة
هذه المشكلات مشكلة الرزق أو الغذاء ومشكلة الحياة ، حيث جعل الله الإيمان بأنها
قدر مكتوب ، ومستقبل مضمون ، من أركان الإيمان وبناء الإسلام قال تعالى:{وفي
السماء رزقكم وما توعدون}الذاريات 22
وأقسم
الله تعالى أن هذا الرزق المخزون يقين وحق ، سوف يتحقق بشكل محس ، كمثل النطق الذي
أمكن الله الإنسانية منه بقدر ، فقال تعالى :{فورب السماء والأرض إنه لحق مثل
ما أنكم تنطقون}الذاريات 23 .
فالفهم
الإسلامي ، أن النطق لا يتحصل إلا بتشغيل جهازه ، وأن الرزق لا يكسب إلا بفعل
صاحبه .
وقد
جاءت السنة النبوية لتؤكد هذه الرؤية لقضية الرزق ، فقال الرسول ﷺ
: ( إن روح القُدُس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب
رزقها ، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن
يطلُبَهُ بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينالُ ما عنده إلا بطاعته ) رواه أبو
نعيم في الحلية .
فالرزق
مضمون من الله ، والسعي لتحصيله مرتبط بالإنسان ، فإذا تحرَّك لتحقيق ذلك فقد جعل
الله ذلك عبادة وتكليفاً شرعياً ، كما أن الإسلام يحض على العمل ، ويعتبره أفضل
الكسب ، ويحذِّر من العبث والهدر والعدوان
وأن المعاناة التي تعانيها البشرية ، من أزمة الغذاء في أكثر مناطق العالم
ترجع الى سوء التوزيع .
فقد
كانت حصيلة الفترة الماضية ، من هيمنة الغرب بحريته الإقتصادية ، كارثة على مستوى
الكون بأسره ، ففي عام 1992 لوحظ أن 80 % من الخيرات الطبيعية في العالم ، يتم
استهلاكها من قبل 20 % من سكان العالم ، وكان نتيجة هذا التوزيع الجائر ، أن يموت
سنوياً 25 مليوناً من البشر بسبب أنموذج
التنمية المفروض من الغرب
وقد
أعلن صندوق الامم المتحدة للتنمية ، أن الفرق الشاسع بين البلدان الأكثر غنىً
والأكثر فقرا ً تضاعف خلال ثلاثين سنة .
ففي
فرنسا عام 1992 يتصرف 6 % من الشعب في 50 % من الثروات .
وفي
الولايات المتحدة يمسك 5 % من الشعب بحوالي 90 % من الثروات الطبيعية .
إذن المشكلة هي في الفلسفة التي تحكم المسالك والتي ينتج عنها سوء التوزيع والظلم
الاجتماعي وليست في نضوب الموارد ،
وبعبارة أخرى ليست المشكلة في عجز الطبيعة
، وإنما هي في مسؤولية الإنسان نفسه .
إن
الأزمة الغذائية والاقتصادية ، هي أحد منعكسات أنظمة الاستبداد السياسي والظلم
الاجتماعي التي ساهمت بطرد العقول
والسواعد والخبرات والأموال ، ويكفي أن نشير في هذا المقام ، في مجال الأموال إذ
تفيد المعطيات بشأنها أن كل دولار استثمر
في الوطن العربي ، استثمر مقابله 56 دولار في الاسواق الدولية ، وأن رؤوس الأموال
العربية المستثمرة في الخارج وصلت الى
حدود 850 مليار دولار ، إذ أن حجم استثمار أقطار الخليج العربي بالولايات المتحدة
لوحدها ، ما بين أفراد وحكومات بلغ 250 مليار دولار في شكل وداءع وعقارات واسهم ،
وبلغ مجموع الفوائض العربية المهاجرة الى الاسواق المالية الدولية 670 مليار دولار
.
أما في مجال هجرة العقول والسواعد والخبرات فحدث
ولا حرج .. فمن أين تتحقق التنمية وكيف تعالج الأزمة ؟ إذا كان الذين يقومون على أمر
السياسات ، لا يعانون من الأزمة أصلاً كما
أن فلسفة صناعة الهزائم والأزمات ، تسوغ وتحقق لهم الالتجاء والإرتماء في أحضان
أسيادهم
وإن
كثيراً من الأنظمة التي جاءت باسم معالجة الأزمة الأقتصادية ، ورفعت شعارات تحسين
أوضاع العامل والفلاّح ، أنتهت إلى واقع أكثر حزناً . فقد خربت الأراضي الزراعية بل وعطلتها ، وسمحت
بأستغلالها لبناء العمارات بدل زراعة المثمرات ، واستغل العمال والفلاحين للمساندة والمناصرة والتأييد ، وتسخيرهم عيوناً
للسلطان ، مما أدى إلى إرهاق الأمة وبؤس خدماتها ، وإقفار القرى والمزارع من الإنتاج واليد العاملة ، ووجود طاقات هائلة معطلة تنتظر خبر السلطان ، كما أدى ذلك إلى تقديم
أهل الولاء وإبعاد أهل الخبرة ، مما جعلهم بحاجةٍ الى المساعدات والخبرات الخارجية
لصالحح التنمية ومعالجة الأزمات .
فتحولت
إلى تنمية االتخلف والعطالة ، وعدم الإعتماد على الذات ، ثم إنتهت إلى الإرتماء
عند أقدام الغرب الكافر ، وفتح الأسواق لمنتجاته وبضائعه ، والعيش عالةً عليه ،
واستمرار الحاجة إليه ، بالإضافة إلى أن محاولات تحويل المجتمع من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي ، أدت إلى ذهاب الأموال لشراء
المصانع ، واستقدام العمالة والخبراء ، واستيراد المواد المعدة للصناعة في كثير من
الأحيان ، مما أدى إلى تكديس منتجاتها
ففشل التصنيع وفشلت الزراعة ، مما أوصل الى حالة الوهن التي ذكرها رسول
الله ﷺ
في الحديث الذي رواه أبو داود في باب الملاحم عندما قال ﷺ :( وليقذفنَّ
الله في قلوبكم الوهن فقال قائل : يا رسول
الله ؟ وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت) .
وقد
يكون الوهن أن تعيش الأمة عالة على الأمم
وسوقاً لأستهلاك منتجاتها ، وعجزاً عن الإنتاج وتحقيق الإكتفاء الذاتي .
إن
المساعدات أو الدعم أو المعونات التي تقدمها دول الكفر ، هي في حقيقتها لتصريف
فوائض انتاجها ، ومراقبة البلاد التي أصبحت خاضعة لها من أجل لقمة العيش ، كما
تملي عليها شروطها حتى أن البلاد
الإسلامية أصبحت تعتمد على ما يقدم اليها من التبرعات ، وتلهث وراء مساعدة
المستشارين ، والعمل على جلب الشركات الاحتكارية العالمية ، سعياً وراء سراب
الانطلاق الاقتصادي ، كما تهدف هذه الدول الى إبعاد الإسلام فكراً وثقافةً ومنهج
حياة .
ولن
تخرج الأمة مما هي فيه ، إلا بإنسان
الإسلام الحق ، في إيمانه ومنهجه ونظرته المتوازنة ، في مركب يجمع إنسجام الأرض
والسماء في نظام الكون ، والدنيا والآخرة في نظام الدين والعقيدة والروح والجسد في نظام الإنسان والعبادة والعمل في نظام الحياة ، والشورى
والعدالة في نظام الحكم والإدارة ، والعمل والإنتاج في نظام الإقتصاد ، والأمن
واليقين بتوفر الرزق وانقضاء الأجل .
ولا
يمكن أن تتحقق هذه المهام الجسام ، إلا إذا تمسكنا بعقيدتنا ، وانطلقنا من الغايه
المثلى وهي توحيد الله عز وجل ، حيث تقترن الممارسة بالوعي ، والوعي بالمسؤولية ،
والمسؤولية بالآخرة ويمتزج الإيمان بالاخلاص
، والاخلاص بالتقوى والتقوى بالعمل . قال
تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }
معاناة المسلمين في البلقان
قال
تعالى : { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض } البقرة 251 .
تشير
الآية القرآنية ، الى أن أي مجتمع لا تقوم فيه هيئة قويةٌ رادعةٌ ، لا بد أن تسوده
الفوضى والانحلال ، حيث تتصارع القوى ، وتتنافس الطاقات في تدافع وتسابق ، إلى
تحقيق المصالح والغايات ، وما يجري في البلقان وإبقاءه جرحاً تنزف منه دماء
المسلمين ، من أجل تحقيق أهداف معينة ، باللجوء إلى أسلوب القوة والحروب المدمرة ،
والصدامات الوحشية ، والكيد المتوالي على الإسلام والمسلمين .
إننا
في ظلِّ هذه الظروف ، نأمل من الله أن نرى الحق ينتصر ، وينتصف المظلوم ، وترتفعُ راياتُ الإيمان خفاقةً ،
ويعم الخيرُ على كل المسلمين لأن يد الله
الحكيمة المدبرة ، هي القادرة على أن
تقود هذه المواكب المتصارعة ، إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف .
وذلك
بقيام الجماعة الخيَّرة المهتدية ، التي تعرف الحق وتسلك الطريق الموصل اليه ،
وتؤمن بأنها مكلفةٌ بدفع الباطل ، وإقرار الحق في الأرض وأنه لا نجاة لها من عذاب الله ، إلا أن تنهض
الأمة بالدور المطلوب منها لهداية البشرية إلى المنهج الرباني ، وأن تحتمل في سبيل
ذلك ما تتطلبه هذه المهمة ابتغاء مرضاة الله . ليمضي أمرُ الله ، ويكون النصرُ
حليف الفئة المؤمنة في نهاية المطاف ، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد
عن الأرض .
إن
ما يجري في كوسوفا وما جرى في فلسطين يعيد إلى الأذهان الأوجاع الإنسانية ، التي
نشبت في الربع الأول والثاني من هذا القرن .
مما
يدعو للتسائل أي الحضارات أرحم بالإنسانية؟
حضارةٌ أنتجها الإسلام ثم شوهها الغرب ، أم حضارةٌ قامت على أشلاء الملايين
من البشر .
إن
ملامح المأساةِ واحدة ، وقصة النازحين والمهجّرين متشابهة ، فالعنصرية والتطهر
العرفي في إسرائيل ، أقدم وأسوأ مما هو عليه في البلقان فما انتهكت حقوق الإنسان في مكان مثلما انتهكت
في فلسطين ، وإن عشرات الفيتوالتي حصدتها إسرائيل لصالحها من أمريكا ، هو الذي دفع
بإسرائيل إلى العمل الحثيث لتهويد القدس
وإلى بناء المزيد من المستوطنات اليهودية على أراضي فلسطين ، كما أن تهويدَ
القدس كصربنة كوسوفا ، ذاك ظلم وقهر وتشريد ، وهذا ظلم وقهر وتشريد ، وفي كلا
الحالين يُستهدف الإسلام ، وتهدر الكرامة وتضيع الحقوق وتتكررُ هذه الصورة في بلاد الإسلام ، وإن
تعدد الفاعلون .
كما
أن ردة فعلنا تكاد تكون واحدة ، تصريحات وبيانات واستنكاراتٌ ليس إلا .
وعندما
نطالب المسلمين بالتصدي لما أصاب الأمة من ضعف في فهم المبدأ الذي قامت على أساسه
دولة الإسلام ، نسمع الجواب المتكرر وحتى من المتحمسين لنشر الدعوة ، لا نستطيع ،
الله المستعان ، خلَّينا نأكل خبز ، وما شابه ذلك من الإعتذارات الواهية التي
تتردد على ألسنة الكثيرين
إننا
نتوجه إلى هؤلاء بهذه التساؤلات .
هل
يستقسم فهم الأمة لمبدئها وهي تطلقُ العنان للهوى في التشريع ؟
وهل
يستقيمُ لها ذلك وهي تمعن في موالاة أهل الكفر ، وإدخال أفكار الكفر بدل أفكار
الإسلام وهل يمكن أن يطبق الإسلام إلا بدولةٍ تحمل دعوته إلى العالم بالحجة
والجهاد ؟
ولماذا
لا يغارُ المسلمون من أصحاب الأفكار الهدامة ، الذين يسترخصون كلَّ غالٍ ويستسهلون
كلَّ صعب في سبيل تحقيق أهدافهم ، وإلا من سيعيد للأمة أمجادها ، هل هم الكافرون
أم العَلْمانيون ؟ إنه لا هذا ولا ذاك ، لأن ذلك لا يكون إلا بالاقتداء بمن سبق من
الدعاة ، الذين بذلوا كلَّ غال ورخيص من أجل دينهم وعقيدتهم
إنه
الطريق الوحيد لرجوع الأمة إلى الإسلام
الذي جاء ليحقق الخير ويبسط العدل ويرفع الظلم عن كلِّ بني البشر .
إن
الظلم يستحيل أن يبقى مستمراً في استعلائه على الحق ، لأن الله لا يريد للأمة أن
تذل وتخزى فما جاء الإسلام إلا ليمنع
الظلم والقهر الذي يصيب المسلمين ، كما حدث في فلسطين ويحدث في كوسوفا ، حيث
يَحْرِقُ الصربُ قرى المسلمين ، فيقتلون من يقتلون ويجبرون الباقي على النـزوح من
بلادهم .
إننا
ونحن نعاني هذا النـزيف المستمر في الجسد الإسلامي ، لندرك أن واجباتنا حيال أزمات
العالم كثيرة ، مما يدعو للتساؤل من يوقف هذا النزيف وكيف ؟ وهل ما يجري من حرب هو
للدفاع عن المسلمين في البلقان ؟ أم هو العمل على تصفية الحسابات الإستراتيجية بين
شطري أوروبا ؟ وما فائدة العالم الإسلامي والمسلمين من هذا الذي يجري ؟
إننا في هذا الوضع الذي نعيش ، لا نملك إلا أن
نقول في غياب الموقف الإسلامي ، حيال هذه الأزمة بأن قوى الكفر تخطط لتمرير رؤيتها
في رسم تسوية نهائية للمسألة البلقانية ، وستتبعها تسويات جغرافية وسياسية أخرى في
أجزاء أخرى الأمر الذي يدعو كل مسلم مخلص
في هذا العالم إلى الرجوع إلى الله قولاً وعملاً ، وإلا فالنهاية لن تكون مرضية من
وجهة نظر الإسلام ، الذي يدعونا للعمل بكل ما وسعنا من طاقات فكرية وجسدية ، حتى
تنشأ أجيالٌ تندفع تحت راية التوحيد وعقيدتها قال تعالى : {وقل اعملوا فسيرى
الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق