رمضان واستقبال المودعين
إذا عمل الإنسان عملاً ، أو زار مكاناً ، أو
اجتمع إلى شخص ، واستشعر أثناء ذلك أنه لن يعود إليه مرة أخرى ، فإن هذا
الشعور يضاعِفُ في نفسه شعوراً آخر ،
بضرورة اغتنام تلك الفرصة التي قد لا تتكرر؛ ولهذا فإن الصحابة رضوان الله عليهم .
لما استمعوا من النبي ﷺ إلى موعظة ذرفت منها العيون ، ووجلت
منها القلوب ، قالوا : (كأنها موعظة مودع ) أخرجه الترمذي . ومن هنا نستطيع
أن ندرك السرَّ في نصيحته ﷺ لأحد أصحابه عندما قال له : ( إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودع ) أخرجه
ابن ماجة . تعالوا نتصور..رجلاً مخلصاً يصلي ركعات ، يعلم أنه يودع بها الدنيا
.. كيف ستكون في تمامها .. في خشوعها.. في شدَّةِ إخلاصها وصدق دعاءها
إن الرسول ﷺ
يعلمنا بهذا الهدي والله أعلم . كيف نتخلص من آفة تحوُّل العبادة إلى عادة ؟
ولماذا لا نستحضر روح الوداع في عبادتنا كلها .. خاصة وأننا إلى وداع في كل حال..
؟
وخاصةً أن صلاتنا ليست مهددة وحدها بالتحول من
عبادة إلى عادة ؟
إن رمضان يحل علينا
ضيفاً مضيافاً ، يكرمنا إذا أكرمناه ، فتحل بحلوله البركات والخيرات ، يُقدِم
علينا ، فيقدِّم هو إلينا أصنافاً من الإتحافات والنفحات .. فينعش نفوس المسلمين
ويجدد نشاطهم ويفجر طاقاتهم ، ويصلهم
بأجمل ذكرياتهم ، ويدفع بهم إلى العمل الصالح
ويتسامى بنفوسهم إلى أبهج صورها وأسمى كمالاتها ، يشير إلى ذلك ما ورد في
الحديث من أنه لو علم المسلمون ، ما لهم من الفضل والكرامة في رمضان ، لتمنوا أن
تكون السنة كلها رمضان
إنه ضيف ، وربما يكون
الواحد منا في ضيافته للمرة الأخيرة .. فلماذا لا نخرج بصيامنا من إلف العادة إلى
روح العبادة ، في شهرٍ يعتبر فرصةً للخطائين ، يتطهرون فيه من ذنوبهم ، وللطائعين
يرتفعون إلى أعلى الدرجات بطاعتهم ، شهرٌ تكثر فيه الخيرات ، وتزداد الطاعات ، إنه
شهر صومٍ وصلاةٍ وعبادة ، وذكرٍ ودعاء ، وأملٍ في الله في أن يُعْطي المحروم ،
ويتوب على العاصي ويملأ حياتنا بالخير
والبركة ، يستيقظ فيه النائمون ويتنبه
الغافلون ، ويعودُ الآبقون
شهرٌ نصومه وهم
أكثرنا ، أن يبريء الذمة ويؤدي الفريضة ، فلم لا يكن صومنا إيماناً واحتسابا ،
ليغفر الله لنا ذنوبنا وهي كثيرة . شهرٌ يحرص الكثيرون فيه على ختم القرآن مراتٍ
عديدة ، فلم لا يكون ختمه بتدبرٍ وتأمل
وتجديد العزم على إقامة حدوده ، والتزام منهجه ، قبل قراءته . نسعى فيه إلى
اختيار الصوت الأجمل في قراءة الإمام ، والحرص على الجماعة ، فلم لا يكن سعينا إلى
الصلاة الأكمل .
نخصُ رمضان بالتوسعة
على النفس والأهل بأطيب الأطعمة والألبسة ، فلم لا تشمل هذه التوسعة الأسر
المحتاجة ؟ لعظم فضلها في هذا الشهر . لحديث انس قال : سُئلَ رسول الله ( ص ) أي
الصدقة أفضل ؟ قال:(صدقةٌ في رمضان) رواه الترمذي
وقد دعا رسول الله (
ص ) إلى إكثار النفقة والتوسعة على الفقراء ، وأخبر أن ثوابها كثواب النفقة في
سبيل الله ، من حيث تكثير الأجر وتكفير الوزر ، روى ابن أبي الدنيا أن رسول الله (
ص ) قال : (انبسطوا في النفقة في شهر رمضان
) فإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله )
لقد جعل الله لبغض
الأزمنة حرمةً ، كما جعل لبعض الأماكن حرمةً ، وكما ينبغي ألا تهتك حرمةٌ المكان ،
فكذلك حرمةُ الزمان ، ولرمضان حرمةٌ ، ولأيامه منزلة ، وللياليه قدسيةٌ ، فمن
أخلَّ بتلك الحرمة ، والمنزلة القدسية ، في الزمان المحرم كرمضان ، كان كمن أخلَّ
بها في المكان المحرَّم كالمسجد الحرام ، قال عليه السلام : (رمضان شهر الله الحرام ) أخرجه مسلم .
فلرمضان حرّمةً في ليله ونهاره
ولكنَّ كثيراً من الغافلين
المحرومين ، يصومون عن المباح في نهاره
ويسهرون على الحرام في لياليه .
وأبرز الأمثلة على
ذلك الحرمان ، من يُضيِّعون صلاة القيام في هذا الشهر المبارك ، حتى لا تضيع عليهم
الحلقات ، والمسلسلات التلفزيونية كغيرهم
من الغافلين والغافلات ، فلا يكتفون بفقدان الثواب ، بل يفقدون معه المروءة يلتهون
عن التشمر للشهر ، بالتسمر أمام ما يبث من أنواع الخلاعة والعهر ، التي يُخَصُّ
بها هذا الشهر الكريم ، وكأن الشياطين تنتهي من حشد تلك المسلسلات قبل أن تسلسل في
رمضان فتنصرف إلى محابسها ، تاركةً
لشركائها من شياطين الإنس ، أن يُضَيِّعوا على الناس فضيلة هذا الشهر ، والثواب
الذي أعده الله لمن صامه وقامه ، ومن حرم فضيلة هذا الشهر ، فقد حرم الخير والأجر
، وصدق رسول الله ( ص ):(لا يُحْرَمُ خيرها إلا محروم) رواه ابن ماجة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق