جاء الإسلام لا ليكون
تجمعاً قومياً أو وطنياً تحت قيادة زعيم
يُنْشئُ دولةً ، ذات كيانٍ وحدود ولكنه
جاء لينشئ أمةَ العقيدة ، التي استحقت من الله وصفها بهذا الوصف . {كنتم خير
أمةٍ أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }آل عمران
110 .
فكان هذا المجتمعُ ،
لا مثيل له في كل المجتمعات المعاصرة والقديمة .
تجمعٌ التفاضلُ فيه
بين الناس ، على القيم التي يلتقون عليها ، ويجتمعون من أجلها ، ويحرصون عليها ،
ويجاهدون في سبيلها ، هذه القيم التي يمكن أن تُكوِّن الأمة ، لأنها القيمة التي
تستحق أن تقوم عليها حياة الإنسان . ومن
ثم تكونُ العقيدة ، وهي أغلى ما يمكن ، أن تقوم عليه حياةُ الإنسان .
إن المجتمع الذي
تتمثل فيه واقعيةُ الإسلام ومثاليتُةُ هو
مجتمعٌ لازمٌ لإقامة الوجود الإسلامي الصحيح في الأرض ، والناس محاسبون إن قصّروا
في ذلك ومطلوبٌ من المسلمين أن يَرْقَوا
لمستواه .
إنه مجتمعٌ يَعْتَبِرُ التوجُهَ بتوجيهات الإسلام ، على
أنه أمرٌ ونهيٌ ملزم ، أمرٌ بمنهج لا إله إلا الله ونهيٌ عما هو خلاف ذلك ، مجتمعٌ يتوهجُ الحق
في قلوب أبنائه ، إلى الحد الذي يعيشون فيه مع رسول الله ﷺ في سيرته وسنته
،كأنهم يعايشونه ويتلقون منه التعاليم عن قرب ،كالجيل الأول جيلُ النبوة ، الذين قاموا بتحقيق الخصائص
الأساسية ، للوجود الإسلامي في عالم الواقع
بعد قيامهم بتحقيقها في ذوات أنفسهم .
إنها درجةٌ لم بفرضها
الله فرضاً على الناس ، إنما فرض عليهم الحدَّ الأدنى ، الذي لا تستقيمُ الحياة
بدونه ، وترك الدرجات العلا للتطوع النبيل
الذي تقدر عليه النفوس ، حين تتربى التربية الصحيحة على الإسلام ، وتستضئ
بنور الحق وتعبد الله كأنها تراه ، وتقتدي
بالرسول ﷺ
كأنها تعايشه لذا لم تكن لا اله إلا الله
، منفصلةً في حسِّهم عن الحياة الإسلامية ، التي دعاهم إليها باسم الإيمان ، كما
هي في الواقع من مقتضيات لا إله إلا الله .
فهل نعجب إذن ؟ حين
نعرفُ الطريقةَ التي كانوا يتلقون بها توجيهات القرآن ، وتوجيهات رسول الله ﷺ
، إذا رأينا تلك النماذج الفذةَ ، التي تُحدثنا عنها كتبُ السيرة ، بتلك الوفْرةِ
التي وعاها التاريخ .
وهل نعجب من الذين
باتوا على الطوى ليقدموا اللقمة القليلة
، التي يملكونها إلى ضيفهم وأطفأوا السراج
حتى لا يرى الضيفُ ، أنهم لا يملكون إلا ما قدموا له ، فانزل الله فيهم {ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}الحشر 9 .
وهل نعجب من الذي خرج
من بيته وبيده تمرات فلما رأى القتال قال
: لئن عشت حتى أنتهي من هذه إنها لحياةٌ طويلة ، فألقى التمرات وأقتحم المعركة ،
شوقاً إلى الجنة فاستشهد .
أو ممن كان في ليلة
عرسه ، فسمع الهيعة فقام يطلب الجنة ، فلما استشهد غسلته الملائكة .
أو ممن يقدم له رسول
الله ﷺ
حصته من الفيء فيرده قائلاً ، ما على هذا بايعتك ، لأنه يبحث عن متاع من نوع آخر ،
ويصدق الله فيصدقه ويُدْخله الجنة شهيداً
في سبيل الله .
أو من عمر بن الخطاب
يبكي ، حين رأى العجوز تلهى أبناءها ليناموا ، فيذهب بنفسه فيحمل الدقيق على ظهره
، ويعود يصنع للأطفال الطعام بيده ، ولا ينصرف حتى يعلم أنهم شبعوا أو ناموا وهل نعجب من ماعز تؤرقه نفسه ، يُلح على رسول
الله ﷺ
حتى يقيم عليه الحد .
ومن الغامدية تلح
لإقامة الحد عليها ، وتظل على عزيمتها لا تفارقها حتى تفطم ولدها ، تريد أن تلقى
الله خالية من الذنوب .
وهل نعجب من ربعي بن
عامر ، يدخلُ على رستم ، كما دخل مستعلياً على كل ما يملك من السلطان والجاه ،
يصدعُ بكلمة الحق لا يرهبه ذلك ، ولا يقيم له وزناً فيدوسُ الفُرشَ بأقدام فرسه ،
ويمزقها بطرف رمحه ، ويملي على صاحبها أمر الله .
وهل نعجب من عمر بن
العاص ، يطلب المدد من الخليفة ، لأن الروم يشدّون على جيشه فيرسل إليه أربعة من أصحاب رسول الله فينتصر الجيش بالأربعة ،كأنهم مدد يبلغ
الألوف
وهل نعجب من عمر بن
عبد العزيز ، الذي بعث يحى بن سعيد على صدقات أفريقية ، فلما جمعها وطلب الفقراء
ليعطيها لهم ، لم يجد فقيراً ، ولم يجد من يأخُذْها منه .
والعجبُ كلُ العجب ،
من انتشار الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض ، في تلك الفترة القصيرة من
الزمن ، فيبلغ من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً ، في نصف قرن من الزمان ، على أيدي
أولئك الأفذاذ من الرجال ، الذين لا مثيل لهم من قبل ولا من بعد ، والذين لم يصلوا
إلى ما وصلوا إليه ، لتفوق في العدد أو العدة أو الخبرة العسكرية ولكن بضخامة الحقِّ ، الذي آمنت به تلك
الأمة والتقت عليه ، وضخامة المنطق الذي
تنطلق منه فتُحطم كلَّ ما تجد في طريقها
، من صور الباطل وأشكاله .إنهم بشرٌ كباقي البشر ، ولكنهم كانوا كما وصفهم الله {والذين
إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا
الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب
إلا الله ، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون }آل عمران 126 .
وفي المقابل أصبحنا
اليوم ، نعيش في مجتمع وصل إلى حدٍ من الضياع ، والذل والهوان ، والهبوط المسف ،
إلى حدٍ لا تكاد تدانيه أمةٌ في الواقع المعاصر ، إن هبوط هذه الأمة من الذروة
العليا إلى الحضيض السحيق الذي تعيشه
اليوم .
مما يجعلنا نتسائل
كيف هبطت ؟ ولماذا ؟ وأين الدين الإسلامي؟
لا يختلفْ أحدٌ مع
نفسه ، أن العصر الذي نعيش فيه ، عصرُ طغيان المادة واستحكام أمرها وسيطرة نوازعها على تقاليد الحياة
وقوانينها ونعني بالمادة تغليب البدن على
الروح ، وتغليب الدنيا على الآخرة . عصرٌ فيه الإيمان بالله ، لا ينطوي على الجدِّ
ولا يرتقى إلى الحدِّ الذي تهتم فيه الدول .
وأما الإيمان باليوم
الآخر ، إيماناً يقذفُ في النفوس أن
العمران البشري إلى انقراض ، فهذا أيضاً لا يكترث العالم به ، ولا يستعد له لا بل
يهزأ به ويسخرُ منه .
إن الدنيا تسيرُ
اليوم ، بقوة خارقة إلى غير غاية وهي
مشغولةٌ أعظم الشغل ، بالوقود الذي تستهلكه في هذا السير ، من غذاءٍ وكساءٍ ومتاعٍ
وشهوة ، وذهبٍ وفضة ، وما يستتبعهُ الحصول على هذا الوقود من خصام وسلام ، واغتيال
واحتيال ، وانقسام وانسجام . وقد فرغتْ كثيرٌ من الأفئدة من الأيمان بالله واليوم الآخر ، ومتى اختفى
الإيمان بالحق ، ظهر الإيمان بالباطل ، حتى ظهر جبلٌ ضل سبيل الإيمان الصحيح ،
واستنفذ قواه في الباطل .
ومن هنا فإن قوانين المنفعة، وانتهاز الذائذ ،
واشترائها بأي ثمن ، قد كسبتْ المعركة ، دون أن تجد أمامها ، مقاومة تذكر من
المسلمين ، مع من لا يرعون في مؤمنٍ إلا
ولا ذمة .
إن من الظلم القبيح
للمسلمين ، ومن الإساءة لهذا العالم ، أن يُحْرَمَ من وجود أمة ، تحترم كتاب ربها
وسنة نبيها ، لتحتكم إليهما فيما يُعرضُ لها من أحداث وشؤون ، وتعتبرُ التدين
شرفاً لا عارا والإيمان بالله واليوم
الآخر ، جداً لا لغوا .
إنه يوجدُ بيننا أناس
، يضيقون ذرعاً بحكم الله ويحتكمون إلى
الطاغوت ، حتى أننا نلاحظ أن السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين ، في أيدي هؤلاء
فعلا ، مما أضرّ بالإسلام والمسلمين
وجعلنا بحاجة ماسة ، إلى سياسة حكم وسياسة مال تخضع لتعاليم الإسلام ، خضوعاً تاماَ مهما
اختلطت الأجناس والألوان ، لأن الفساد الذي أصاب سياسة الحكم ، هو نفسه الذي أصاب
سياسة المال ، كما أن الأزمات المتلاحقة على أهل الإسلام ، هي التي أوصلتنا إلى ما
نرى ونسمع من سوء التصرفات ، وإدبار أسباب
العافية والقوة ، مما شلَّ حركة الأمة الإسلامية .
لقد وصلت بنا في هذا
العصر ، مراحل الأمراض الاجتماعية والسياسية ، إلى أقصى حدود الهوان والفوضى ، مما
أوجب على المخلصين من الأمة من المفكرين
والدعاة ، أن يشقوا طريقهم وسط العقبات والصعاب ، لأن الذين تؤذيهم اليقظة
الإسلامية كثيرون ، فكم من كبراء سيصغرون
ومن محتلّين سيزولون ، حين يحتشد المخلصين لله ورسوله جبهةً واحدة ، تستميت
في المحافظة على المنهج واسترجاع ما ضاع ،
وتركزُ ضغطها على مصدر الخطر ، النابع من دول الكفر، التي أجرمت في حق الإسلام
والمسلمين .
إن أهل الإسلام بحاجة
ماسة ، إلى من يجاهد لإعلاء كلمة الإسلام وحكمه ، في عصرٍ فقد فيه مظلة الإسلام ،
وعليه فالذين يكتمون الحق ، ولا يجهرون به مقصرون ، والذين يقومون بطائفة من
العبادات الفردية ، ويحسبون أنهم أدوا رسالتهم
مقصرون ، لأن الإسلام لا ينجو من لوثاث القاصرين ، وتراخي المقصّرين .
إننا نأمل من الله أن يقوم للإسلام رجال ، لا
يخافون في الله لومه لائم ، يردون عادية الإلحاد والبغي والفسوق ، ويرفعون أعلام
اليقين والرحمة
ويوم يعودُ المسلمون
إلى دينهم الحق ، فإنَّ التخلُّفَ المزري ، اللاصق بهم اليوم ، ستنجلي
غُمتُهُ وتنكشفُ ظُلْمتُهُ ، وسيأخذون
طريقَهُمْ مرةً أخرى ، إلى الصدارة والتقدم . {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم
} .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق