الأحد، 26 أكتوبر 2014

طبيعة المجتمع المسلم


جاء الإسلام لا ليكون تجمعاً قومياً أو وطنياً  تحت قيادة زعيم يُنْشئُ دولةً ، ذات كيانٍ وحدود  ولكنه جاء لينشئ أمةَ العقيدة ، التي استحقت من الله وصفها بهذا الوصف . {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }آل عمران 110 .
فكان هذا المجتمعُ ، لا مثيل له في كل المجتمعات المعاصرة والقديمة .
تجمعٌ التفاضلُ فيه بين الناس ، على القيم التي يلتقون عليها ، ويجتمعون من أجلها ، ويحرصون عليها ، ويجاهدون في سبيلها ، هذه القيم التي يمكن أن تُكوِّن الأمة ، لأنها القيمة التي تستحق  أن تقوم عليها حياة الإنسان . ومن ثم تكونُ العقيدة ، وهي أغلى ما يمكن ، أن تقوم عليه حياةُ الإنسان .
إن المجتمع الذي تتمثل فيه واقعيةُ الإسلام ومثاليتُةُ  هو مجتمعٌ لازمٌ لإقامة الوجود الإسلامي الصحيح في الأرض ، والناس محاسبون إن قصّروا في ذلك  ومطلوبٌ من المسلمين أن يَرْقَوا لمستواه .
إنه مجتمعٌ  يَعْتَبِرُ التوجُهَ بتوجيهات الإسلام ، على أنه أمرٌ ونهيٌ ملزم ، أمرٌ بمنهج لا إله إلا الله   ونهيٌ عما هو خلاف ذلك ، مجتمعٌ يتوهجُ الحق في قلوب أبنائه ، إلى الحد الذي يعيشون فيه مع رسول الله في سيرته وسنته ،كأنهم يعايشونه ويتلقون منه التعاليم عن قرب ،كالجيل الأول  جيلُ النبوة ، الذين قاموا بتحقيق الخصائص الأساسية ، للوجود الإسلامي في عالم الواقع   بعد قيامهم بتحقيقها في ذوات أنفسهم .
إنها درجةٌ لم بفرضها الله فرضاً على الناس ، إنما فرض عليهم الحدَّ الأدنى ، الذي لا تستقيمُ الحياة بدونه ، وترك الدرجات العلا للتطوع النبيل  الذي تقدر عليه النفوس ، حين تتربى التربية الصحيحة على الإسلام ، وتستضئ بنور الحق  وتعبد الله كأنها تراه ، وتقتدي بالرسول كأنها تعايشه  لذا لم تكن لا اله إلا الله ، منفصلةً في حسِّهم عن الحياة الإسلامية ، التي دعاهم إليها باسم الإيمان ، كما هي في الواقع من مقتضيات لا إله إلا الله .
فهل نعجب إذن ؟ حين نعرفُ الطريقةَ التي كانوا يتلقون بها توجيهات القرآن ، وتوجيهات رسول الله ، إذا رأينا تلك النماذج الفذةَ ، التي تُحدثنا عنها كتبُ السيرة ، بتلك الوفْرةِ التي وعاها التاريخ .
وهل نعجب من الذين باتوا على الطوى   ليقدموا اللقمة القليلة ، التي يملكونها إلى ضيفهم  وأطفأوا السراج حتى لا يرى الضيفُ ، أنهم لا يملكون إلا ما قدموا له ، فانزل الله فيهم {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}الحشر 9 .
وهل نعجب من الذي خرج من بيته وبيده تمرات  فلما رأى القتال قال : لئن عشت حتى أنتهي من هذه إنها لحياةٌ طويلة ، فألقى التمرات وأقتحم المعركة ، شوقاً إلى الجنة فاستشهد .
أو ممن كان في ليلة عرسه ، فسمع الهيعة فقام يطلب الجنة ، فلما استشهد غسلته الملائكة .
أو ممن يقدم له رسول الله حصته من الفيء فيرده قائلاً ، ما على هذا بايعتك ، لأنه يبحث عن متاع من نوع آخر ، ويصدق الله فيصدقه  ويُدْخله الجنة شهيداً في سبيل الله .
أو من عمر بن الخطاب يبكي ، حين رأى العجوز تلهى أبناءها ليناموا ، فيذهب بنفسه فيحمل الدقيق على ظهره ، ويعود يصنع للأطفال الطعام بيده ، ولا ينصرف حتى يعلم أنهم شبعوا أو ناموا  وهل نعجب من ماعز تؤرقه نفسه ، يُلح على رسول الله حتى يقيم عليه الحد .
ومن الغامدية تلح لإقامة الحد عليها ، وتظل على عزيمتها لا تفارقها حتى تفطم ولدها ، تريد أن تلقى الله خالية من الذنوب .
وهل نعجب من ربعي بن عامر ، يدخلُ على رستم ، كما دخل مستعلياً على كل ما يملك من السلطان والجاه ، يصدعُ بكلمة الحق لا يرهبه ذلك ، ولا يقيم له وزناً فيدوسُ الفُرشَ بأقدام فرسه ، ويمزقها بطرف رمحه ، ويملي على صاحبها أمر الله .
وهل نعجب من عمر بن العاص ، يطلب المدد من الخليفة ، لأن الروم يشدّون على جيشه  فيرسل إليه أربعة من أصحاب رسول الله    فينتصر الجيش بالأربعة ،كأنهم مدد يبلغ الألوف 
وهل نعجب من عمر بن عبد العزيز ، الذي بعث يحى بن سعيد على صدقات أفريقية ، فلما جمعها وطلب الفقراء ليعطيها لهم ، لم يجد فقيراً ، ولم يجد من يأخُذْها منه  .
والعجبُ كلُ العجب ، من انتشار الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض ، في تلك الفترة القصيرة من الزمن ، فيبلغ من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً ، في نصف قرن من الزمان ، على أيدي أولئك الأفذاذ من الرجال ، الذين لا مثيل لهم من قبل ولا من بعد ، والذين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه ، لتفوق في العدد أو العدة أو الخبرة العسكرية  ولكن بضخامة الحقِّ ، الذي آمنت به تلك الأمة  والتقت عليه ، وضخامة المنطق الذي تنطلق منه   فتُحطم كلَّ ما تجد في طريقها ، من صور الباطل وأشكاله .إنهم بشرٌ كباقي البشر ، ولكنهم كانوا كما وصفهم الله {والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم  ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم  ومن يغفر الذنوب إلا الله ، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون }آل عمران 126 .
وفي المقابل أصبحنا اليوم ، نعيش في مجتمع وصل إلى حدٍ من الضياع ، والذل والهوان ، والهبوط المسف ، إلى حدٍ لا تكاد تدانيه أمةٌ في الواقع المعاصر ، إن هبوط هذه الأمة من الذروة العليا  إلى الحضيض السحيق الذي تعيشه اليوم .
مما يجعلنا نتسائل كيف هبطت ؟ ولماذا ؟ وأين الدين الإسلامي؟
لا يختلفْ أحدٌ مع نفسه ، أن العصر الذي نعيش فيه ، عصرُ طغيان المادة واستحكام أمرها  وسيطرة نوازعها على تقاليد الحياة وقوانينها  ونعني بالمادة تغليب البدن على الروح ، وتغليب الدنيا على الآخرة . عصرٌ فيه الإيمان بالله ، لا ينطوي على الجدِّ ولا يرتقى إلى الحدِّ الذي تهتم فيه الدول .
وأما الإيمان باليوم الآخر ، إيماناً يقذفُ في النفوس  أن العمران البشري إلى انقراض ، فهذا أيضاً لا يكترث العالم به ، ولا يستعد له لا بل يهزأ به ويسخرُ منه .
إن الدنيا تسيرُ اليوم ، بقوة خارقة إلى غير غاية  وهي مشغولةٌ أعظم الشغل ، بالوقود الذي تستهلكه في هذا السير ، من غذاءٍ وكساءٍ ومتاعٍ وشهوة ، وذهبٍ وفضة ، وما يستتبعهُ الحصول على هذا الوقود من خصام وسلام ، واغتيال واحتيال ، وانقسام وانسجام . وقد فرغتْ كثيرٌ من الأفئدة  من الأيمان بالله واليوم الآخر ، ومتى اختفى الإيمان بالحق ، ظهر الإيمان بالباطل ، حتى ظهر جبلٌ ضل سبيل الإيمان الصحيح ، واستنفذ قواه في الباطل .
 ومن هنا فإن قوانين المنفعة، وانتهاز الذائذ ، واشترائها بأي ثمن ، قد كسبتْ المعركة ، دون أن تجد أمامها ، مقاومة تذكر من المسلمين ، مع من لا يرعون في مؤمنٍ  إلا ولا ذمة .
إن من الظلم القبيح للمسلمين ، ومن الإساءة لهذا العالم ، أن يُحْرَمَ من وجود أمة ، تحترم كتاب ربها وسنة نبيها ، لتحتكم إليهما فيما يُعرضُ لها من أحداث وشؤون ، وتعتبرُ التدين شرفاً لا عارا  والإيمان بالله واليوم الآخر ، جداً لا لغوا .
إنه يوجدُ بيننا أناس ، يضيقون ذرعاً بحكم الله  ويحتكمون إلى الطاغوت ، حتى أننا نلاحظ أن السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين ، في أيدي هؤلاء فعلا ، مما أضرّ بالإسلام والمسلمين  وجعلنا بحاجة ماسة ، إلى سياسة حكم وسياسة مال  تخضع لتعاليم الإسلام ، خضوعاً تاماَ مهما اختلطت الأجناس والألوان ، لأن الفساد الذي أصاب سياسة الحكم ، هو نفسه الذي أصاب سياسة المال ، كما أن الأزمات المتلاحقة على أهل الإسلام ، هي التي أوصلتنا إلى ما نرى ونسمع  من سوء التصرفات ، وإدبار أسباب العافية والقوة ، مما شلَّ حركة الأمة الإسلامية .
لقد وصلت بنا في هذا العصر ، مراحل الأمراض الاجتماعية والسياسية ، إلى أقصى حدود الهوان والفوضى ، مما أوجب على المخلصين من الأمة  من المفكرين والدعاة ، أن يشقوا طريقهم وسط العقبات والصعاب ، لأن الذين تؤذيهم اليقظة الإسلامية كثيرون ، فكم من كبراء سيصغرون  ومن محتلّين سيزولون ، حين يحتشد المخلصين لله ورسوله جبهةً واحدة ، تستميت في المحافظة على المنهج  واسترجاع ما ضاع ، وتركزُ ضغطها على مصدر الخطر ، النابع من دول الكفر، التي أجرمت في حق الإسلام والمسلمين .
إن أهل الإسلام بحاجة ماسة ، إلى من يجاهد لإعلاء كلمة الإسلام وحكمه ، في عصرٍ فقد فيه مظلة الإسلام ، وعليه فالذين يكتمون الحق ، ولا يجهرون به مقصرون ، والذين يقومون بطائفة من العبادات الفردية ، ويحسبون أنهم أدوا رسالتهم  مقصرون ، لأن الإسلام لا ينجو من لوثاث القاصرين ، وتراخي المقصّرين .
 إننا نأمل من الله أن يقوم للإسلام رجال ، لا يخافون في الله لومه لائم ، يردون عادية الإلحاد والبغي والفسوق ، ويرفعون أعلام اليقين والرحمة 
ويوم يعودُ المسلمون إلى دينهم الحق ، فإنَّ التخلُّفَ المزري ، اللاصق بهم اليوم ، ستنجلي غُمتُهُ   وتنكشفُ ظُلْمتُهُ ، وسيأخذون طريقَهُمْ مرةً أخرى ، إلى الصدارة والتقدم . {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم } .                     




              
    









         

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق