الأحد، 26 أكتوبر 2014

استقبال شهر الرحمة


شرع الله مواسم لجني الحسنات ، والتخفيف من السيئات ، ومن هذه المواسم ، شهر رمضان المبارك  فكم من الناس من ينتظره بلهفة وشوق ، لينهل من بركاته ، ويغترف من خيراته ، فكان على كل مسلم منَّ الله عليه ببلوغ شهر رمضان ، أن يغتنم الفرصة  ليقطف ثمارة ، كيف لا وقد قال r في محاورته مع جبريل عليه السلام : ( من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له ، فدخل النار ، فأبعده الله ، قل آمين   فقلت آمين ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان والترمذي والطبراني بإسناد حسن . إن من الناس اليوم من لا يرحب برمضان ، لأنه يزجره عن المعاصي العظام ، ويحجزه عن الذنوب والآثام ، مع أن بلوغه كان أمنية رسول الله r فكان يقول : ( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان ، وبلغنا رمضان ) لقد كان السلف رحمهم الله يدعون ربهم ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان الماضي ، ويدعونه ستة أشهر أخرى أن يبلغهم رمضان الحالي ، فأين الامتثال والاتباع والاقتداء ، أم أن أكثر الناس في غواية وغفلة وجفاء ؟
كان رسول الله r يقول في استقبال رمضان : ( أتاكم رمضان سيد الشهور ، فمرحباً به وأهلاً ) أخرجه البيهقي . فيه تسمو النفوس ، وتصفو القلوب ، ويدع الناس ما يشتهون ، ويصبرون عما يرغبون ، استجابة لربهم  وامتثالاً لخالقهم ، فيه تعويد على التحمل والصبر  وتقبل للإساءة والزجر ، قال r : ( إذا كانت أول ليلة من رمضان ، فُتحت أبواب الجنة ، فلم يُغلق منها باب ، وغُلقت أبواب جهنم ، فلم يُفتح منها باب ، وصُفدت الشياطين ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ) أخرجه البخاري ومسل
وفيه سنّ النبي r القيام ( من صامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ) فجدير بشهر هذه بعض أسراره ، أن يفرح به المتعبدون .
من الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد  وصنوف المطاعم ، وأشكال المشارب ، يقضي نهاره نائماً ، ويقطع ليله هائماً ، فجهلوا الحكمة التي من أجلها شُرع الصيام وهي التقوى ، قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ فالإيمان والتقوى ميزان الأعمال ، يجوع الصائم وهو قادر على الطعام ، ويعطش وهو قادر على الشراب ، لا رقيب عليه إلا الله ، فيتحقق الإيمان ، وتظهر التقوى ، قال r : قال الله عز وجل : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة (حجاب) ، فإذا كان صوم يوم أحدكم ، فلا يرفث  ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم ، إني صائم ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ، للصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه ) البخاري ومسلم .
 فأي خسارة يخسرها المرء عندما يدخل عليه رمضان ثم يخرج ولم يزدد فيه حسنة ، ولم يتقرب فيه من الله درجة ، إنه الخسران المبين ، قال r : ( إن في الجنة باباً يقال له الريان ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أُغلق ، فلم يدخل منه أحد ) أخرجه البخاري ومسلم . ما أعظم رمضان ، وما أروع هباته وعطاياه ، أخرج ابن أبي الدنيا وغيره بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أن رسول الله r قال : ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة ، فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل ، فشفعني فيه ، قال : فيُشفعان ) فاجتهدوا في تلاوة كتاب الله ، آناء الله وأطراف النهار ، فالقرآن إما شاهد لك أو عليك ، قال تعالى : ] وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً [  واعلموا أن من أفطر يوماً من رمضان بلا عذر فقد تعرض للوعيد الشديد ، والعذاب الأكيد  فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله r يقول : ( بينما أنا نائم أتاني رجلان ، فأخذا بضبعي ،فأتيا بي جبلاً وعراً ، فقالا : اصعد ، فقلت : إني لا أطيقه ، فقال : إنا سنسهله لك ، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة ، قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار ، ثم أُنطلق بي ، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دماً ، قلت : من هؤلاء ؟ قال : الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ) أي الذين يفطرون قبل غروب الشمس . أخرجه النسائي وابن حبان وابن خزيمة وصححه الألباني . إن في الصومُ حِكَم وأسرار، أنّه حِرمان مشروع وتأدِيبٌ بالجوع وخُشوع لله وخضوع، يستثير الشَّفَقةَ ويحضُّ على الصّدقة، يكسِر الكِبر، ويعلِّم الصبر  ويسنُّ خِلالَ البرّ ، حتى إذا جاعَ مَن ألِفَ الشِّبَع وحُرِم المترَف أسبابَ المُتَع عرَف الحرمانَ كيف يقع والجوعَ كيفَ ألمُه إذا لذع .
وقد جهل البعض هذه الحقيقة ؛ فقصروا الصيام على الإمساك عن الطعام والشراب ؛ فترى من لا يمنعه صومه من إطلاق الكذب والبهتان ، ويطلقون للأعين والآذان الحبل والعنان ؛ لتقع في الذنوب والعصيان   وقد قال : ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)  رواه البخاري . ولله درّ القائل :
إذا لم يكن في السّمع مني تصاون   وفي بصري غضّ وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوعُ والظمأ   فإن قلتُ إني صُمتُ يوماً فما صُمتُ
يأتي رمَضانَ والأمة مثخَنَة بالجراح مثقَلَة بالآلام ، يأتي ومسرَى رسولِ الله بيد الاحتلال ، يأتي والمؤمنين يقتَلون ويشرَّدون وتهدَم منازلهم وتجرَف أراضيهم وتبَادُ جماعتهم من قبل أهل الظلم والطغيان ، يأتي ليدع الأمة لأن تجعل من هذا الشهر نقطة تحوُّل ، من حياة الفرقة والاختلاف ، إلى الاجتماع على كلمة التوحيد والائتلاف ، وأن يكون هذا الشهر مرحلة تغيّر في المناهج والأفكار والسير على منهج سيد الأبرار . يأتي وأمّتنا الإسلامية لا زالت تعاني جراحات ومصائب عُظمى . فبأي حال يعيش المبعدون المشرّدون عن ديارهم وأهليهم وأموالهم؟! وبأي حال يستقبل المسلمون في أماكن كثيرة من العالم هذا الشهر الكريم ، وهم يعانون أبشع حرب الإبادة التي في التاريخ المعاصر؟! أضف إلى المعاناة من حياة الجوع والتقتيل والتشريد؟!
إن شهر رمضان ، شهر الخير والبر ، شهر الجود والكرم والعطاء والنماء ، فلا تنسوا إخوانكم الفقراء والمساكين ، والأرامل والمعوزين ، والأيتام والمحتاجين   فمنهم من تمر عليه الليالي لا يجد لقمة يفطر عليها ، أو شربة يمسك بها ، وأنتم تتقلبون في نعم وخيرات  وعطاياً وهبات ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، آتوهم من مال الله الذي آتاكم ، ولا تبخلوا ، فإنه من يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، يأتي رمضان ليزكي النفوس وليزودها بالإيمان والتقوى والاستعداد للدار الأخرى ] والدار الآخرة خير للذين يتقون [ الأعراف 169 .
يأتي رمضان ليروض النفوس على الصبر والمصابرة  والخضوع والخشوع وترك المكابرة ، فيه يزيد عفو الرحمن ، فيفتح أبواب الجنان ، ويغلق أبواب النيران ويصفد الشياطين ومردة الجان .
أتى رمضان مزرعة العباد    لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقـه قولا وفعلا     وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها   تأوه نادماً يوم الحصاد
روى ابن ماجه أن رجلين قَدِما على رسول الله r وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفى ، قال طلحة : فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما ، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفى الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، ثم رجع إلي فقال : ارجع فإنك لم يأْنِ لك بعد ، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله r وحدثوه الحديث، فقال:( من أي ذلك تعجبون ؟ ) فقالوا : يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخِر الجنةَ قبله ! فقال رسول الله r :( أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ " قالوا : بلى قال : ( وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة ؟ ( قالوا : بلى قال رسول الله r : ( فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض ) صحيح كما قال الألباني عن طلحة بن عبيد الله 
أخي المسلم ! بادر في الصيام على تربيةُ النّفس على طاعةِ الله وتزكيتُها بالصّبر واستعلاؤها على الشّهوات   وكما يُمنع الجسَد عن بعض المباحات حالَ الصيام   فمن باب أولى منعُ الجوارح عن الحرام  ، وإنّ وقتَ رمضان أثمن مِن أن يضيعَ أمام مشاهدَ هابطة ، لو لم يكن فيها إلاّ إضاعةُ الوقت لكان ذلك كافيًا في ذمّها   كيف وقنواتها في سِباق محمومٍ مع الشّيطان في نشرِ الفساد والفتنة والصّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة؟! فهل أنتم منتهون؟! .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق