قال
تعالى :)ذلك بأن الله لم يك
مغيِّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم(
. الأنفال 53
كانت
الأمة الإسلامية مكرَّمةٌ وممكنةُ في الأرض بنعمة من الله وفضل ، واليوم وصلت إلى
ما وصلت إليه من الذل والمهانة والاستعباد في الأرض ، فلماذا غيّر الله لها هذه
النعمة التي كان قد أنعم بها عليها ؟
ذلك
لأن المسلمين غير مستقيمين على الطريق
وغير مقدّرين للنعمة الربانية ، ولا موفين لها بحق شكرها فكانت العقوبة هي حرمانهم من التمكين
والاستخلاف والتأمين ، التي وعد الله بها عباده الصالحين في قوله تعالى :)وعد
الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ، ليستخلفنكم في الأرض كما استخلف الذين من
قبلهم ، وليمنكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً(.
فلما
تغبرت الأمة وابتعدت عن منهج الله , غيّر الله النعمة التي أنعم بها عليها ، وما
أصابها لم يكن جزافاً ولا اعتباطاً ، فكل شيء يسير بحسب سنةٍ معينة وبقدر من الله
، والقدر يجري من خلال السنة والسنة تقول
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم في جميع الأحوال .
فما
الذي غيره المسلمون حتى انحسر نفوذهم وتكالب الأعداء عليهم ؟ حتى استولوا في
النهاية على مقدرات العالم الإسلامي وأذلوه تحت سلطانهم كما نرى الآن؟
فقد
روى التاريخ أن أشد ما أصاب المسلمين من نكبات ، ابتداءاً من نكبة الأندلس والتتار
والصليبين وانتهاءاً بفلسطين . وأن ذلك ليس جوهر القضية التي عانى ويعاني منها
المسلمون فالقضية هي قضية العباد مع ربهم
وكيف حالهم مع الله ، لأن الذي يقدِّر المقادير ليس الغرب أو الشرق ، بل ليس أحد
من البشر كائناً من كان فالذي يقدر المقادير هو الله ولكنه يقدرها من خلال أعمال البشر ، فلو أن
الأمة الإسلامية ظلت مستقيمة على الطريق ، لظل الوعد الإلهي بالاستخلاف والتمكين
والتأمين ، ولما استطاعت أي قوة أن تفرض سيطرتها على المسلمين . ولكن المسلمين
ضعفوا وزادوا ضعفاً ، فجاء الصليبيون واليهود ، واحتلوا الأرض الإسلامية وعاثوا
فيها فساداً وعملوا على هدم الخلافة وتنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في بلاد
المسلمين .
ولم
يتخلَّ الغرب الكافر عن الروح العدائية للإسلام
وهو ما يقول به الصرحاء منهم ، فقد ذكر دولفرد سميث في كتابه الإسلام في
التاريخ الحديث " إن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الفزع الذي ظلت تزاوله خمسة
قرون متوالية والإسلام يغزوها من الشرق والغرب والجنوب ، ويقتطع كل يومٍ جزءا من أجمل أجزاء
الإمبراطورية الرومانية . لقد كان انتصار الإسلام كاسحا ، لا في الحرب فقط لكن في
عالم القيم أيضا ، ويقول في نهاية كلامه : ذلك الفزع الذي لا تستطيع أوروبا أن تنساه"
.
بهذه الروح الصليبية ، انطلقت أوروبا تستذل
العالم الإسلامي , وكان أول إذلال لها هو تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في
بلاد الإسلام ، لأنهم يريدون تنصير المسلمين ، ولا يمكن لهم ذلك ما دامت الشريعة
قائمة فعملوا على إبعادها ، لإرواء الحقد الصليبي الذي لا يطيق أن يرى شرع الله
مطبقاً في الأرض ومن أجل أمر آخر أخبر
عنه الرسول e في الحديث الذي رواه أحمد والطبراني قال : (
لتنقضنَّ عُرى هذا الدين عروة عروة ، كلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي بعدها ،
فأولها نقضاً الحكم ، وآخرهن نقضاً الصلاة ) . وهكذا نجحوا في نقض العروة
الأولى ، فعملوا على إلغاء الخلافة العثمانية ، وتفتيت العالم الإسلامي وإنشاء
إسرائيل والتمكين لليهود في داخل الأرض الإسلامية .
والسؤال
هنا : ما الذي يجب على المسلمين فعله ؟
يجب
عليهم إعداد العدة دائماً ، واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة ، لتكون قوة
الإسلام هي القوة العليا في الأرض , ثم تجاهد أعداء الله ، بغض النظر عن عدَّة
وعدد أعداء الله ، فالنصر حليفهم بعون الله
لأن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم ، فحسب
المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى
وأن يثقوا بالله ، وأن يثبتوا في المعركة ويصبروا عليها والبقية على الله ،
وإن الصحوة الإسلامية هي قدر الله الغالب قال تعالى:)
والله
غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (
يوسف 21 .
ومن
قدر الله الغالب ألا تخلو الأرض من دين الله أبداً إلى يوم القيامة ، ففي الحديث
الذي رواه أبو داود ( لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة
... ) فمهما حدث في الأرض من أحداث فلن ينتهي هذا الدين لأن الله هو الذي تكفَّل بحفظه فقال تعالى : )
يريدون
ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل
رسوله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون
(
الصف 8-9
أتم
الله نوره وأكمل للمسلمين دينهم ، وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا ،
يحبونه ويجاهدون في سبيله وما تزال هذه
الحقيقة تنبعث بين الحين والحين بالرغم
من الحرب والكيد والتنكيل والبطش الشديد
لأن نور الله لا يطمسه الحديد والنار في أيدي العبيد وإن خُيِّل للطغاة الجبارين المصنوعين على
أعين الصليبين واليهود أنهم بالغوا هذا الهدف ، ناسين أنه جرى قدر الله أن يظهر
هذا الدين فكان من الحتم أن يكون ، وجاء قوله تعالى: )
ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (
شاهداً على ذلك .
إن
لهذا الدين أدوارٌ في تاريخ البشرية سيؤديها تحقيقاً لوعد الله ، وها هي الأمة
الإسلامية تنحرف وتشرف على الهاوية ، وإيماننا بالله أن قدره سيغلب ، وتعود الأمة
إلى الطريق مرةً أخرى ، وإن ظن البعض أنها انتهت إلى غير رجعة ، فهي لا بد وأن
تعود ، كما انحرفت فيما مضى وأعادها الله بقدره الغالب .
والسؤال هنا : هل ننتظر حتى تستيقظ الأمة
كلها وتتربى كلها ؟
لا
عاقل يقول بذلك بل إن هذا غير معقول ، لأن مجتمع الرسول e
لم يكن كله على مستوى أبي بكر وعمر ، بل كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان الذين
ذكرهم الله بقوله )
وقالوا
ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا
إلى أجلٍ قريب (
النساء 77 . وكان فيهم المثّاقلون والمثبطون الذين قال الله فيهم : )
ما
لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض
(
التوبة 38 . وكان فيهم الذين يتبعون الإشاعات الذين قال فيهم )
وإذا
جاءهم أمر
من الأمن أو الخوف أذاعوا به (
النساء 83 . ولكن كانت هناك قاعدة صلبة مؤمنة ، حملت هؤلاء جميعاً وسارت إلى
أهدافها وهو ما لا بد من حدوثه هذه الأيام
، فلا بد أن تقوم هذه القاعدة المؤمنة المجاهدة الصلبة ، فتحمل المتخاذلين
والمتقاعسين وتسير بهم إلى أهدافها ، وهذا الذي تشير إليه الآية )هو
الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (
. فلو قال: ) هو الذي أيدك بنصره (
لاختلف الأمر لأنه ليس بعد تأييد الله بالنصر شيء لقوله :)
إن ينصركم الله فلا غالب لكم (
وإذا تقرر النصر من عند الله ، فلا غالب يستطيع أن يغلب المؤمنين ، لذا كانت هناك
لفتة تربوية ودرساً في قوله تعالى : )
وبالمؤمنين
(
لكي نعلم أنه لا بد من وجود مؤمنين يكونون ستاراً لقدر الله يجري قدره من خلالهم .
مؤمنين ليسوا من الناس الذين يتصورون الدين ذلك التصور المسكين ، وذلك بالاقتصار
على العبادات والشعائر أو الآداب والأخلاق المستمدة من كتاب الله ، بينما القوانين
التي تحكمنا وتصرف بقية شئون حياتنا من موضع آخر ، فهذا إيمان ناقص ، لأن الذين
يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان ولم
يعترفوا بعد بأركان الإسلام وفي أولها : شهادة أن لا إله إلا الله التي ينشأ منها
أن لا حاكم إلا الله ولا مشرِّع إلا الله . وهل يعجز الله عن نصرة دينه بغير
المؤمنين ؟ إنه لا يعجز ، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون . ولكن سنة الله اقتضت أن
يبتلى بعض الناس ببعض : )ذلك
ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض(
محمد 4 . وأن لا ينصر المؤمنين إلا إذا استقاموا على طريقه ، واتخذوا الأسباب
تعبدا له دون أن يتكلوا على الأسباب
وعندما يجري اللقاء بينهم وبين الكفار على هذه الصورة ، يجري الله
سنته فينصر الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة
الضالة ويمكن لدينه في الأرض .
لقد
لعن الله اليهود لحقدهم على الإسلام ، فكان مصيرهم الطرد من رحمة الله وفقدان
النصير قال تعالى : )
أولئك
الذين لعنهم الله ، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (
النساء 52 .وقد يستغرب قارئ الآية لتغلب
اليهود علينا ومناصرة دول الكفر لهم ، فيسأل كيف يجدون النصير والله يقول ومن يلعن
الله فلن تجد له نصيرا ؟ ليعلم كل ذي علم ، أن الناصر الحقيقي ليس الناس ولا الدول
، وحتى مع امتلاكها أفتك الأسلحة وأكثرها تطورا
ولكن الناصر الحق هو الله القاهر فوق عباده ، ومن هؤلاء العباد من يملكون
القنابل الذرية والصواريخ ، ولكن النصر من عند الله لقوله تعالى :
) ولينصرنَّ الله من
ينصره
(
وذلك يحققه الله لمن يؤمن به حق الإيمان ، ويتبع منهجه حق الإتباع ويتحاكم إلى منهجه في رضا وتسليم . والدارس
للتاريخ الإسلامي يوم تمسك المسلمون بدينهم
يجد أن الله كان يُهَوِّنُ من شأن عدوهم وناصريهم ، وكان حليفهم النصر
عليهم تحقيقاً لوعد الله .
إن
ما نشاهده من نصرة الغرب الكافر لليهود ، ليس بغريب ولا مستغرب لأنهم في الحقيقة
ينصرونهم على الإسلام والمسلمين ، وليجرب المسلمون أن يكونوا مسلمين ولو لمرة ، ثم
يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصيرا ، أو حتى ينفعهم هذا النصير ، والتاريخ خير
شاهد على ما نقول ، فقد كان أعداء المسلمين دائماً اكثر عدداً وأقوى عدَّةً وأغنى
مالاً طيلة الفتوحات الإسلامية ، ورغم ذلك
كان التفوق للمسلمين ، بما ملكوه من رصيد العقيدة والتصور والبناء الروحي والعقلي
والخلقي والاجتماعي ، الذي انشأ المنهج الإسلامي في فترة وجيزة ، وأمد الإسلام
وجيوشه بسلطانٍ لا يُقاوم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق