قال
تعالى : ) قل اللهم مالك الملك
تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير
إنك على كل شيء قدير (
آل عمران .
إن
الله مالك الملك بلا شريك وهو يُمَلِّك من يشاء ما يشاء من ملكه ، يُمَلِّكُه إياه
تمليك عارية يستردها ممن يشاء عندما يشاء
، و ليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه ، إنما هي ملكية معارة له ، خاضعة
لشروط المملك الأصلي وتعليماته ، فإذا تصرَّف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط
المالك ، وقع هذا التصرف باطلا ، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا ، أما في
الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملِّك صاحب الملك الأصيل .
إن
الله يؤتي الملك من يقوم به ، ولا ينـزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه يقول تعالى : )
لا
ينال عهدي الظالمين (
البقرة 124
. فالملك لله سبحانه وتعالى ، ولا يظن إنسان انه ملك شيئاً أو جاهاً في هذه الدنيا
بغير مراد الله ، فإذا انحرف العباد فلا بد أن يولى الله عليهم ملكاً ظالماً .
لماذا ؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس قـال تعالى : )
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون (
الأنعام
126
. وكأن الله يقول سوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير لينتقم منه فالله هو المتصرف في ملكه ، وحين يخرج الناس
عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم
ولا يظن ظانٌ أن أحداً قد أخذ الملك غصباً من الله ، إنما الملك يريده الله
لمن يؤدب به العباد وإن ظلم المَلِكُ في
التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه ، ومن رأى ظلم هذا المَلِك أو ذاك الحاكم فمن الجائز أن يريه الله هذا أو ذاك مظلوما :
قال تعالى : ) وتنـزع الملك ممن
تشاء
(
، ينبهنا الله إلى أن هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم نسو أن الله قادر على أن ينـزع
ملكهم متى شاء .
وقف أبو عبدالله آخر ملوك غرناطة بعد انكساره
أمام جيوش فرديناند وايزابيلا على شاطئ الخليج الرومي ، وهي تحت ذيل جبل طارق قبل
نزوله إلى السفينة المعدة لحملة إلى إفريقيا ، وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء
قومه من بني الأحمر فألقى على ملكه
الذاهب نظرةً طويلة ، وأنشأ يبكي بكاءً مرّاً ، حتى بكى كلُّ من حوله لبكائه وقد أحس هاتفاً يهتف باسمه ، فرفع رأسه فإذا
شيخ ناسك متكئ على عصاه ، واقف على باب مغارة من مغارات الجبل المشرف عليه ينظر
إليه ويقول : نعم لك أن تبكي أيها الملك الساقط على ملكك بكاء النساء ، فإنك لم
تحتفظ به احتفاظ الرجال ، لقد ضحكت بالأمس كثير
فابك اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس ، فالسرور نهار الحياة والحزن ليلها ولا
يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم ، لو أن ما ذهب من يدك من ملك ذهب بصدمة
من صدمات القدر ونازلةٍ من نوازل القضاء ، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة ،
لهان أمره عليك ، أما وقد أضعته بيدك فابك عليه بكاء النادم المتفجِّع الذي لا يجد
له من مصابه عزاء ولا سلوى ، لي سبعة أعوام انتظر فيها هذا المصير الذي صرتم إليه
وأترقب الساعة التي أرى فيها آخر ملك من ملوك بني الأحمر ، يرحل عن هذه الديار
رحلة لا رجعه بعدها ، لأن المُلْك الذي يتولى أمره الجاهلون الظالمون لا دوام له
ولا بقاء .
وكان
مما قاله ... ستقفون غداً بين يدي الله يا ملوك الإسلام ، وسيسألكم عن الإسلام
الذي أضعتموه ، وهبطتم به من علياء مجده حتى ألصقتم أنفه بالرغام ، وسيسألكم عن
المسلمين الذين أسلمتموهم بأيديكم إلى أعدائكم ، ليعيشوا بينهم عيش البائسين
المستضعفين ، وسيسألكم الله عن الأولاد الذين سقتموهم إلى ميادين القتال ليقاتلوا
إخوانهم المسلمين قتالاً لا شرف فيه ولا فخار " .
وها
نحن نرى الأعداء بقوتهم وغطرستهم وباطلهم الذي صنعوه ، يحاكمون ويحكمون ويتوعدون
رجالاتنا بلا خوف ولا وجل ، فلهم الحق أن يفعلوا ما يشاءون ، فقد خلا لهم وجهُ
البلاد وأصبحوا أصحاب القوة والسلطان
فيها وللسلطان عزة لا يبالي بعهد ولا وفاء
، إنهم يتعاملون مع شعوبنا تعامل الأقوياء مع الضعفاء إنه سيف قاطع ، وغلٌّ ملتف على الأعناق لأنهم الأقوياء ونحن الضعفاء ، فليصنعوا ما
يشاءوا لأنه الحق الذي خولته لهم قوتهم ، فملكوا علينا مشاعرنا وعقولنا ، حتى لا
ندين إلا بما يدينون لأنا عجزنا عن أن نكون أقوياء ، فنالنا ما ينال الضعفاء ،
ظلمنا أنفسنا وقد تعهد الله أن ييُسَّر الله للظالم من يؤدبه ، قال تعالى : )
وكذلك
نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون(
الأنعام
129
. فإذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي
له بواحدٍ من أهل الخير ليؤدبه ، فالله سبحانه بتكريمه لأهل الخير ، لم يجعل منهم
من يكون في مقام من يؤدب الظالم ، إنها إرادة الله أن يجعل أهل الخير في موقف
المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم ببعض ، وعلى مدار التاريخ فقد صنع الظالمون
بعضهم في بعض الكثير ، بينما لو تمكن منهم أعداهم الحقيقيون ، لرحموهم لأن قلوبهم
مملوءة بالرحمة , فكان على الطاغية أو الحاكم المستبد أن لا يظن أنه أخذ الحكم
بذكائه أو بقوته ، بل إن الله جاء به ليؤدب الظلمة ، بدليل أنه ساعة يريد الله أن
تنتهي هذه المسألة ، فالله بجلاله ينـزع المهابة من قلوب حرّاسه ، وبدلا من أن
يدافعوا عنه بالبندقية يصوبها عليه ، فلا يظن ظان أن مَلِكا يأخذ الُمْلك قهراً عن
الله ، والعباد إذا ظلموا وطغوا ، يسلط الله عليهم من يظلمهم وقد قيل "الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به
وينتقم منه " فكأن ما سلَّطه الله
على الناس من شر إنما هو نتيجة لأعمالهم ، وقديماً قيل : " وما من ظالمٍ إلا
سيبلى باظلم " .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق