إن
هجرة رسول الله e
وغيرها من أحداث السيرة أصبحت واضحةً
للناس ، وكثر الحديث عنها وتعددت الكتابة حولها ، وما يهمنا أن نأخذ منها العبر
والعظات ، وأن نحدد على ضوئها معالم الطريق ، وأن نستمد منها المنهج القويم ، وأن
نهتدي بها على الصراط المستقيم ، وأن نضيء أمامنا مشاعل النور والهدى والإيمان ،
وأن نلمس فيها أحكام الله في خير التطبيق والتنفيذ ، لأن رسول الله e
كان ترجمة عملية للقرآن الكريم وهجرته ﷺ لقد
كانت الهجرة نتيجة إيمان قوم بالإسلام فهاجروا من أجله ، أما اليوم فهجرتنا تكون
بالعودة إلى تعاليمه والمجاهدة في سبيل تحكيمها في حياتنا ،حتى نستعيد المجد
والقوة والدولة والعدالة ، مصداقاً لحديث رسول الله ﷺ الذي رواه مسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا
) . يعني إذا طُلبتم لحماية الدعوة ، ونصرة الدولة الإسلامية ، فلبوا ولا تكسلوا ،
والنفير ركيزة تجمع القوة ، والقوة أساسها الإيمان بالعقيدة وحتى ننجوا من عذاب الله علينا أن ننفر ونترك الدعة والخمول والترف
والفرقة قال تعالى :)إلا
تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل
شيء قدير ( . إن ما نرجوه من دراسة سيرة رسول الله ﷺ ، ليس التسلي بها أو التبرك بأخبارها ، وإنما السير على خطاها فقد كانت إيذاناً
بتأسيس الدولة ، وبداية إلى استعلاء العقيدة ، وسمو المبادئ وانتصار الحق على
الباطل ، وتحقيق العزة لله ورسوله والمؤمنين ، وكانت حداً فاصلاً لانتقال الدعوة
من تربية الأفراد وغرس الإيمان في القلوب ، إلى بناء الدولة وتربية المجتمع الكامل
، وبناء المؤسسات الحكومية من جميع أطرافها
لأن الأمة بحاجة إلى دولة تسوسها وتحرس حدودها وتدافع عنها وتتولى التشريع
والتنظيم لها ، كما تحتاج إلى مبادئ تحكمها وشريعة تطبقها ، ولا يمكن لأمة أن تقوم
لها قائمة إلا بقيام دولة فيها وإلا أصبحت لقمة سائغة للطامعين ، كما أنه لا وجود
لحق ولا لحياةٍ تشريعيهٍ إذا لم تقم سلطة الدولة بالسهر على تنفيذها . إن الإسلام
الذي رضيه الله لعباده وختم به رسالاته وأكمل شريعته وجعلها دائمة خالدة لا بد أن يؤمن الوسائل الكفيلة لهذه المبادئ
والقيم ، فكان عقيدة وشريعة وديناً ودولة في وقت واحد ، فلا يمكن أن تنفصل العقيدة
عن الشريعة ، ولا يصح أن ينحصر أمر العقيدة في الخلق والإيجاد والحياة والرزق ، ثم
يترك أمر التشريع بيد البشر حسب الأهواء والشهوات وبالتالي لا يقبل الإسلام فصل
الدين عن الدولة ولا يتفق مع كماله تعدد
السيادة والسلطة ، ولا ينسجم مع عزته أن يخضع أتباعه لغير سلطة الشرع وسيادة
القرآن والسنة ، ولا يسلم قطعاً بالمبدأ القاتل "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله ". بل يعلن القرآن منهجه
فيقول :) هل لنا من الأمر من
شيء ؟ قل إن الأمر كله لله (
آل
عمران 54 .
ويقول : )إن
الحكم إلا لله (
يوسف
40 . ووصف المؤمنين بأنهم يردون السيادة والسلطة والحكم لله قال تعالى :)إنما
كان قول المؤمنين إذا دعوا الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك
هم المفلحون (
النور
51 . وصرح بالنص على الاحتكام لله وللرسول فقال :)فلا
وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم(
النساء
65
ثم
بين القرآن الكريم حكم من أعرض عن شريعة الله ورضي بالشرائع الوضعية قال تعالى : )ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون(وفي
الآيتين التي بعدها)
الظالمون والفاسقون (
المائدة
44 . تأكيداً على أن الحاكمية لله تعالى ، وأن السلطة والسيادة في الدولة
الإسلامية لا تكون إلا إلى شريعة الله وأحكامه
وأن مقام النبي ﷺ كان لتنفيذ حكم الله ، وكذا كانت وظيفة الخليفة من بعده ، فقد أعد رسول الله ﷺ الفئة المؤمنة التي لبت نداء ربها من أول البعثة
وتحملت الأذى وصبرت على البلاء ، لتكون قاعدة متينة فكان كل صحابي معداً
ليكون ركناً من أركان الأمة ، التي تولت نشر الدعوة في أرجاء المعمورة فكان كل واحد منهم أمةً في نفسه ودولة في
كيانه هذه هي النخبة التي رباها رسول
الله ﷺ وهاجر معها لإقامة الدولة في المدينة ، فلا عجب أن تكون الهجرة أعظم حدث في تاريخ
الإسلام .
تأتي
ذكرى الهجرة في الوقت الذي قرر حكام العرب اجتماع القمة ، وهو لقاء خطير وهام
وعظيم ، لأن أي قرار يتخذه لا يدعو إلى التمسك بالدين عقيدة وشريعة لا فائدة منه ،
لأنه لا نصر ولا توفيق بدون العودة إلى الله والتمسك بمبادئ الدين ، هذا بالإضافة
إلى أن يصدق العمل القرارات التي تتخذ ، لأن علامة الصدق في القول أن يتبعه العمل
، ونحن بحاجة ماسة إلى أن يفي الحكام بالواجب الذي رسمه الله لعباده في شريعته
التي جاء بها رسول الله e
، والمسؤولية في هذا الاتجاه كبيرة وحاسمة ، وهم يعلمون ذلك ولا ينقصهم إلا
التطبيق العملي .
فما
أحوجهم لأن يتماسكوا ويسيروا على طريق الحق
طريق القوة والمنعة طريق الإسلام
الذي دعا الله إلى التمسك به ديناً ومنهج حياة ، وإنا لنرجو الله أن يعودوا
إلى شريعة الله ويعملوا على تطبيقها في كل
شؤون الحياة فكم هو جميل اللقاء الأخوي ،
ولكن الأجمل اتخاذ القرارات الحازمة التي تتبعها الأعمال الجادة ، بعيداً عن الوقوف عند الوعود والأقوال قرارات تعمل على رفع العار والذل ، الذي تعاني
منه الشعوب التي تتطلع بشوق ولهفة إلى اتخاذ القرارات التي تحقق للأمة النصر .
لقد
سئمت الأمة الكلام والخطب ، وهي تنادي كل ذي قلب يعي أن لا حاجة الآن لأقوال مجردة
عن الأفعال لأن الأمة بحاجة إلى أعمال إيجابية ، تلبية لنداء الله : )
وقل
اعملوا فسيرى الله عملكم (
.
ففي
كل اجتماع أو مؤتمر يعقد ، يذاع البيان الختامي
والذي يطمئن على أن اللقاءات كانت مثمرة للغاية وهادفة وناجحة ، تساعد على
وحدة الصف والهدف ولكن الشعوب في كل مرة
يسمعون كلاماً ووعوداً لا يلمسون لها حقيقة في واقع التطبيق العملي .
لقد نسوا أو تناسوا الذين اجتمعوا وجوب الالتزام
بكتاب الله وسنة رسول الله شريعةً ومنهج حياة
والذي خلا منه البيان الختامي ، كما هو الحال في كل قمة عقدت من قبل وبوجوب إلزام إسرائيل بالكف عما يعاني منه شعب
فلسطين ، والتزامها بالقرارات الدولية وإلا فالحرب والمقاطعة ، ولأن البيان خلا من
قرارٍ كهذا فقد كانت رسالة إسرائيل للمؤتمر القصف المدفعي والصاروخي لشعبنا في
فلسطين .
هذه
المواقف تذكرني بقصة أبي جعفر المنصور حين وقف يوماً خطيباً في جماعة من الأعراب
فقال : أيها الناس احمدوا الله على أن وهبني لكم ، فإنني منذ وليت أموركم أبعد
الله عنكم الطاعون ، فقال له أحد الحاضرين " إن الله اكرم من أن يجمع علينا
الطاعون والمنصور ". وبقصة ذلك الوالي الذي وقف يخطب الناس فأرْتِجَ عليه
فمكث ساعة ثم قال : والله لا أجمع عليكم عيّاً ولؤماً ، من أخذ شاةً من السوق فهي
له وثمنها علي . ما أكثر ما يجمع على الأمة الإسلامية هذه الأيام ، من عيّ ولؤم
وفساد وإلحاد وعمالة وخيانة ، والمخفي أعظم والله المستعان .
إنا
لنرجوا الله أن لا تكون القرارات هراء ، وتظل الحقيقة تائهة ضائعة ، ولو وجد من
يقول للمجتمعين عودوا إلى دينكم وضمنوا بيانكم الختامي ضرورة الالتزام بالإسلام
نظاماً ومنهج حياة ، والعودة إلى الجهاد لاسترداد ما فقد من الأرض ، أقول لو وجد
من يقول ذلك لأداروا له ظهورهم وقلبوا له
شفاههم ، وجعلوه سخرية الاجتماع وأخذوه مأخذ الهزل واستخفوا بما قال ، علماً بأننا
إن لم نتخذ منهج ربنا دستوراً لحل قضايانا ، فإن معالجة ما تعاني منه الأمة
داخلياً وخارجياً هو حلم حالم .
إن من بين العرب والمسلمين من يؤيدون السياسة
الإسرائيلية . وهم كثرٌ لا أستطيع حصرهم وبالمناسبة تذكرت قصة الرجل الذي حلف
بالطلاق أن الحجاج في النار ، فأتي ابن شيرمه يستفتيه فقال : يا ابن أخي امضي فكن
مع أهلك ، فإن الحجاج إن لم يكن من أهل النار فلا يضرّك أن تزني .
تأتي
ذكرى الهجرة وقد تخلينا عن قرآننا ، فأصبحنا أضحوكة الأمم ومهزلة التاريخ ، فلا
نعيش إلا تابعين ولا نحيا إلا موجهين ، تُرسم لنا الطريق ونبحث عن سند وصديق ،
متناسيين أن الأقوياء لا صداقة عندهم لأن
همهم مصلحتهم وما يحقق مجد أمتهم ، نعيش حياة الذل بدل مجد ضيعناه ، ونهوى الهزيمة
بدل النصر الذي فقدناه يتفاوض على قضايانا الأقوياء ، حتى غدونا سلعاً تباع في
الأسواق ، أسواق السياسة الدولية . إن عزتنا وقوتنا لن تكون إلا بالإسلام ، لأنه
عماد صمودنا وباعث مقاومتنا ، ومكون حضارتنا وحافز تقدمنا وذخيرتنا التي لا تنفذ مع الأيام ، إننا
بالإسلام نتحرر من اليأس ولاستسلام ، لأنه يولد فينا الثقة بالنصر والتصميم على
الجهاد ، ويدفعنا إلى الأخذ بما يحقق النصر وأسبابه ، ويرتفع بنا إلى ذروة التضحية
.
إن
الأوضاع العالمية التي عايشها المسلمون بعد الهجرة تشبه الأوضاع العالمية هذه الأيام ، كان الروم
يومئذٍ يمثلون الدولة الأولى في العالم ، صحيح أن الفرس نازعوهم السيادة ، غير أن
حرباً نشبت بين القوتين العظميين انتهت بانهزام الفرس انهزاماً ساحقا ، فانفرد
الرومان بالسطوة في أرجاء العالم كله ، تماماً كأمريكا هذه الأيام ، وقد قام
الرومان بمطاردة الدعاة الإسلاميين ومنعهم من نشر الدعوة .
وعندما
قرَّر النبي e محاربة الروم والتصدي لعدوانهم فزع الكثيرون وتثاقلوا عن الخروج ، وقال بعضهم
لبعض : أنى لنا مقاومة هذه الدولة العظمى ؟ فنـزل الوحي يقطع دابر الضعف ، ويستأصل
روح الهزيمة ويطلب إلى المؤمنين آن
يسارعوا إلى النفير ، وان يسيروا إلى الروم حيث كانوا دون أي تهيب . وذكَّر
المتثاقلين عن الجهاد بأن النصر من عند الله وحده ، لا تمنعه قلة عدد أو عدة ،
وساق إليهم درساً من الهجرة النبوية ، وكيف كان العزاء الوحيد للرسول وصاحبه في
الغار ، إزاء الأعداء المتربصين : )
لا
تحزن إن الله معنا (
، فماذا كانت النتيجة ؟ إن الله لم يخذل من تعلق به واستند إليه ، وها هو ذا رسول
الله e
يبلغ المدينة ، ويبقى بها سنين معدودة ، ثم يعود إلى مكة فاتحا رافعاً راية الحق
. إن الذي دبَّر هذا الفوز قادر على أن
يصنع مثله لدولة فتية ناشئة ، تشتبك مع أعتى دول الأرض وأوسعها سلطانا قادر على أن ينصر المسلمين وهم قلَّة تعتز
بالإيمان على الروم وهم كثرة تريد الطغيان بباطلها .
إننا
في هذه الأيام من المفرِّطين ، والله لا ينصر المفرِّطين ، تماماً إذا تكاسل
الواحد منا عن أداء ما عليه وهو قادر
فكيف يرجو من الله أن يساعده وهو لم يساعد نفسه ؟
هذا
درس من دروس الهجرة ، يُساق إلى المتواكلين
الذين ينتظرون من الله أن يُقدِّم لهم كل شيء ، وهم لم يقدِّموا شيئا . في
الوقت الذي يهب فيه الأعداء لاجتياح الإسلام ، والإتيان عليه من القواعد ، فهل
نستحضر من معاني الهجرة ما يخزي أعداء الله ويرد كيدهم في نحورهم ، وما يساعدنا
على استئناف رسالتنا ودعم حضارتنا في الوقت الذي يترنح فيه الوضع الدولي في هذه
الفترة ، والدواء عندنا وحدنا فهل ننقذ
أنفسنا وننقذ العالمين ؟ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق