الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

مؤتمر القمة وذكرى الهجرة دروس وعبر


إن هجرة رسول الله e وغيرها من أحداث السيرة  أصبحت واضحةً للناس ، وكثر الحديث عنها وتعددت الكتابة حولها ، وما يهمنا أن نأخذ منها العبر والعظات ، وأن نحدد على ضوئها معالم الطريق ، وأن نستمد منها المنهج القويم ، وأن نهتدي بها على الصراط المستقيم ، وأن نضيء أمامنا مشاعل النور والهدى والإيمان ، وأن نلمس فيها أحكام الله في خير التطبيق والتنفيذ ، لأن رسول الله e كان ترجمة عملية للقرآن الكريم  وهجرته ﷺ لقد كانت الهجرة نتيجة إيمان قوم بالإسلام فهاجروا من أجله ، أما اليوم فهجرتنا تكون بالعودة إلى تعاليمه والمجاهدة في سبيل تحكيمها في حياتنا ،حتى نستعيد المجد والقوة والدولة والعدالة ، مصداقاً لحديث رسول الله  الذي رواه مسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ) . يعني إذا طُلبتم لحماية الدعوة ، ونصرة الدولة الإسلامية ، فلبوا ولا تكسلوا ، والنفير ركيزة تجمع القوة ، والقوة أساسها الإيمان بالعقيدة   وحتى ننجوا من عذاب الله  علينا أن ننفر ونترك الدعة والخمول والترف والفرقة قال تعالى :)إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير ( . إن ما نرجوه من دراسة سيرة رسول الله ﷺ ، ليس التسلي بها أو التبرك بأخبارها ، وإنما السير على خطاها فقد كانت إيذاناً بتأسيس الدولة ، وبداية إلى استعلاء العقيدة ، وسمو المبادئ وانتصار الحق على الباطل ، وتحقيق العزة لله ورسوله والمؤمنين ، وكانت حداً فاصلاً لانتقال الدعوة من تربية الأفراد وغرس الإيمان في القلوب ، إلى بناء الدولة وتربية المجتمع الكامل ، وبناء المؤسسات الحكومية من جميع أطرافها  لأن الأمة بحاجة إلى دولة تسوسها وتحرس حدودها وتدافع عنها وتتولى التشريع والتنظيم لها ، كما تحتاج إلى مبادئ تحكمها وشريعة تطبقها ، ولا يمكن لأمة أن تقوم لها قائمة إلا بقيام دولة فيها وإلا أصبحت لقمة سائغة للطامعين ، كما أنه لا وجود لحق ولا لحياةٍ تشريعيهٍ إذا لم تقم سلطة الدولة بالسهر على تنفيذها . إن الإسلام الذي رضيه الله لعباده وختم به رسالاته وأكمل شريعته وجعلها دائمة خالدة  لا بد أن يؤمن الوسائل الكفيلة لهذه المبادئ والقيم ، فكان عقيدة وشريعة وديناً ودولة في وقت واحد ، فلا يمكن أن تنفصل العقيدة عن الشريعة ، ولا يصح أن ينحصر أمر العقيدة في الخلق والإيجاد والحياة والرزق ، ثم يترك أمر التشريع بيد البشر حسب الأهواء والشهوات وبالتالي لا يقبل الإسلام فصل الدين عن الدولة  ولا يتفق مع كماله تعدد السيادة والسلطة ، ولا ينسجم مع عزته أن يخضع أتباعه لغير سلطة الشرع وسيادة القرآن والسنة ، ولا يسلم قطعاً بالمبدأ القاتل "دع ما لقيصر لقيصر  وما لله لله ". بل يعلن القرآن منهجه فيقول :) هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل إن الأمر كله لله ( آل عمران 54 .
 ويقول : )إن الحكم إلا لله ( يوسف 40 . ووصف المؤمنين بأنهم يردون السيادة والسلطة والحكم لله قال تعالى :)إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ( النور 51 . وصرح بالنص على الاحتكام لله وللرسول فقال :)فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم( النساء 65 
ثم بين القرآن الكريم حكم من أعرض عن شريعة الله ورضي بالشرائع الوضعية قال تعالى : )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون(وفي الآيتين التي بعدها) الظالمون والفاسقون ( المائدة 44 . تأكيداً على أن الحاكمية لله تعالى ، وأن السلطة والسيادة في الدولة الإسلامية لا تكون إلا إلى شريعة الله وأحكامه  وأن مقام النبي  كان لتنفيذ حكم الله ، وكذا كانت وظيفة الخليفة من بعده ، فقد أعد رسول الله  الفئة المؤمنة التي لبت نداء ربها من أول البعثة  وتحملت الأذى وصبرت على البلاء ، لتكون قاعدة متينة فكان كل صحابي معداً ليكون ركناً من أركان الأمة ، التي تولت نشر الدعوة في أرجاء المعمورة  فكان كل واحد منهم أمةً في نفسه ودولة في كيانه   هذه هي النخبة التي رباها رسول الله  وهاجر معها لإقامة الدولة في المدينة ، فلا عجب أن تكون الهجرة أعظم حدث في تاريخ الإسلام .
تأتي ذكرى الهجرة في الوقت الذي قرر حكام العرب اجتماع القمة ، وهو لقاء خطير وهام وعظيم ، لأن أي قرار يتخذه لا يدعو إلى التمسك بالدين عقيدة وشريعة لا فائدة منه ، لأنه لا نصر ولا توفيق بدون العودة إلى الله والتمسك بمبادئ الدين ، هذا بالإضافة إلى أن يصدق العمل القرارات التي تتخذ ، لأن علامة الصدق في القول أن يتبعه العمل ، ونحن بحاجة ماسة إلى أن يفي الحكام بالواجب الذي رسمه الله لعباده في شريعته التي جاء بها رسول الله e ، والمسؤولية في هذا الاتجاه كبيرة وحاسمة ، وهم يعلمون ذلك ولا ينقصهم إلا التطبيق العملي .
فما أحوجهم لأن يتماسكوا ويسيروا على طريق الحق  طريق القوة والمنعة طريق الإسلام  الذي دعا الله إلى التمسك به ديناً ومنهج حياة ، وإنا لنرجو الله أن يعودوا إلى شريعة الله  ويعملوا على تطبيقها في كل شؤون الحياة   فكم هو جميل اللقاء الأخوي ، ولكن الأجمل اتخاذ القرارات الحازمة التي تتبعها الأعمال الجادة ، بعيداً عن  الوقوف عند الوعود والأقوال  قرارات تعمل على رفع العار والذل ، الذي تعاني منه الشعوب التي تتطلع بشوق ولهفة إلى اتخاذ القرارات التي تحقق للأمة النصر .
لقد سئمت الأمة الكلام والخطب ، وهي تنادي كل ذي قلب يعي أن لا حاجة الآن لأقوال مجردة عن الأفعال لأن الأمة بحاجة إلى أعمال إيجابية ، تلبية لنداء الله : ) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ( .
ففي كل اجتماع أو مؤتمر يعقد ، يذاع البيان الختامي  والذي يطمئن على أن اللقاءات كانت مثمرة للغاية وهادفة وناجحة ، تساعد على وحدة الصف والهدف  ولكن الشعوب في كل مرة يسمعون كلاماً ووعوداً لا يلمسون لها حقيقة في واقع التطبيق العملي .
 لقد نسوا أو تناسوا الذين اجتمعوا وجوب الالتزام بكتاب الله وسنة رسول الله شريعةً ومنهج حياة  والذي خلا منه البيان الختامي ، كما هو الحال في كل قمة عقدت من قبل  وبوجوب إلزام إسرائيل بالكف عما يعاني منه شعب فلسطين ، والتزامها بالقرارات الدولية وإلا فالحرب والمقاطعة ، ولأن البيان خلا من قرارٍ كهذا فقد كانت رسالة إسرائيل للمؤتمر القصف المدفعي والصاروخي لشعبنا في فلسطين .
هذه المواقف تذكرني بقصة أبي جعفر المنصور حين وقف يوماً خطيباً في جماعة من الأعراب فقال : أيها الناس احمدوا الله على أن وهبني لكم ، فإنني منذ وليت أموركم أبعد الله عنكم الطاعون ، فقال له أحد الحاضرين " إن الله اكرم من أن يجمع علينا الطاعون والمنصور ". وبقصة ذلك الوالي الذي وقف يخطب الناس فأرْتِجَ عليه فمكث ساعة ثم قال : والله لا أجمع عليكم عيّاً ولؤماً ، من أخذ شاةً من السوق فهي له وثمنها علي . ما أكثر ما يجمع على الأمة الإسلامية هذه الأيام ، من عيّ ولؤم وفساد وإلحاد وعمالة وخيانة ، والمخفي أعظم والله المستعان .
إنا لنرجوا الله أن لا تكون القرارات هراء ، وتظل الحقيقة تائهة ضائعة ، ولو وجد من يقول للمجتمعين عودوا إلى دينكم وضمنوا بيانكم الختامي ضرورة الالتزام بالإسلام نظاماً ومنهج حياة ، والعودة إلى الجهاد لاسترداد ما فقد من الأرض ، أقول لو وجد من يقول ذلك   لأداروا له ظهورهم وقلبوا له شفاههم ، وجعلوه سخرية الاجتماع وأخذوه مأخذ الهزل واستخفوا بما قال ، علماً بأننا إن لم نتخذ منهج ربنا دستوراً لحل قضايانا ، فإن معالجة ما تعاني منه الأمة داخلياً وخارجياً هو حلم حالم .   
 إن من بين العرب والمسلمين من يؤيدون السياسة الإسرائيلية . وهم كثرٌ لا أستطيع حصرهم وبالمناسبة تذكرت قصة الرجل الذي حلف بالطلاق أن الحجاج في النار ، فأتي ابن شيرمه يستفتيه فقال : يا ابن أخي امضي فكن مع أهلك ، فإن الحجاج إن لم يكن من أهل النار فلا يضرّك أن تزني  .
تأتي ذكرى الهجرة وقد تخلينا عن قرآننا ، فأصبحنا أضحوكة الأمم ومهزلة التاريخ ، فلا نعيش إلا تابعين ولا نحيا إلا موجهين ، تُرسم لنا الطريق ونبحث عن سند وصديق ، متناسيين أن الأقوياء لا صداقة عندهم  لأن همهم مصلحتهم وما يحقق مجد أمتهم ، نعيش حياة الذل بدل مجد ضيعناه ، ونهوى الهزيمة بدل النصر الذي فقدناه يتفاوض على قضايانا الأقوياء ، حتى غدونا سلعاً تباع في الأسواق ، أسواق السياسة الدولية . إن عزتنا وقوتنا لن تكون إلا بالإسلام ، لأنه عماد صمودنا وباعث مقاومتنا ، ومكون حضارتنا وحافز تقدمنا  وذخيرتنا التي لا تنفذ مع الأيام ، إننا بالإسلام نتحرر من اليأس ولاستسلام ، لأنه يولد فينا الثقة بالنصر والتصميم على الجهاد ، ويدفعنا إلى الأخذ بما يحقق النصر وأسبابه ، ويرتفع بنا إلى ذروة التضحية .
إن الأوضاع العالمية التي عايشها المسلمون بعد الهجرة  تشبه الأوضاع العالمية هذه الأيام ، كان الروم يومئذٍ يمثلون الدولة الأولى في العالم ، صحيح أن الفرس نازعوهم السيادة ، غير أن حرباً نشبت بين القوتين العظميين انتهت بانهزام الفرس انهزاماً ساحقا ، فانفرد الرومان بالسطوة في أرجاء العالم كله ، تماماً كأمريكا هذه الأيام ، وقد قام الرومان بمطاردة الدعاة الإسلاميين ومنعهم من نشر الدعوة .
وعندما قرَّر النبي e محاربة الروم والتصدي لعدوانهم  فزع الكثيرون وتثاقلوا عن الخروج ، وقال بعضهم لبعض : أنى لنا مقاومة هذه الدولة العظمى ؟ فنـزل الوحي يقطع دابر الضعف ، ويستأصل روح الهزيمة  ويطلب إلى المؤمنين آن يسارعوا إلى النفير ، وان يسيروا إلى الروم حيث كانوا دون أي تهيب . وذكَّر المتثاقلين عن الجهاد بأن النصر من عند الله وحده ، لا تمنعه قلة عدد أو عدة ، وساق إليهم درساً من الهجرة النبوية ، وكيف كان العزاء الوحيد للرسول وصاحبه في الغار ، إزاء الأعداء المتربصين : ) لا تحزن إن الله معنا ( ، فماذا كانت النتيجة ؟ إن الله لم يخذل من تعلق به واستند إليه ، وها هو ذا رسول الله e يبلغ المدينة ، ويبقى بها سنين معدودة ، ثم يعود إلى مكة فاتحا رافعاً راية الحق .  إن الذي دبَّر هذا الفوز قادر على أن يصنع مثله لدولة فتية ناشئة ، تشتبك مع أعتى دول الأرض وأوسعها سلطانا  قادر على أن ينصر المسلمين وهم قلَّة تعتز بالإيمان على الروم وهم كثرة تريد الطغيان بباطلها .
إننا في هذه الأيام من المفرِّطين ، والله لا ينصر المفرِّطين ، تماماً إذا تكاسل الواحد منا عن أداء ما عليه وهو قادر   فكيف يرجو من الله أن يساعده وهو لم يساعد نفسه ؟
هذا درس من دروس الهجرة ، يُساق إلى المتواكلين  الذين ينتظرون من الله أن يُقدِّم لهم كل شيء ، وهم لم يقدِّموا شيئا . في الوقت الذي يهب فيه الأعداء لاجتياح الإسلام ، والإتيان عليه من القواعد ، فهل نستحضر من معاني الهجرة ما يخزي أعداء الله ويرد كيدهم في نحورهم ، وما يساعدنا على استئناف رسالتنا ودعم حضارتنا في الوقت الذي يترنح فيه الوضع الدولي في هذه الفترة ، والدواء عندنا وحدنا  فهل ننقذ أنفسنا وننقذ العالمين ؟ .     
 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق