الأحد، 26 أكتوبر 2014

الحج رحلة عبادة مباركة


لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء الكعبة هو وولده إسماعيل ، أمره الله أن ينادي بالناس بالحج   قال تعالى :  {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍ عميق  ليشدوا منافع لهم }الحج 27 . 
والحج مفروض على التراخي ، ولكنه يستحب للمكلف المستطيع أن يعجِّل بأداء الحج لقوله  (ص ) : ( من أراد الحج فليعجل ، فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتكون الحاجة ) .
والاستطاعة تتحقق بالقدرة الصحيحة التي تمكنه من السفر ، والانتقال وأداء الأعمال ، والقدرة المالية التي تكفل له الزاد والراحلة ، زيادة عن حاجة من يعولهم أتناء غيابه ، وأمن الطريق  بحيث يأمن الحج على نفسه وماله ، وعدم وجود مانع من الذهاب إلى الحج ، كالحبس والاعتقال  أو المنع الذي تمارسه الدول لغاياتٍ تنظيمية .
والمسلمون الذين يتمكنون من أداء هذه الفريضة  على موعد مع الحج إلى بيت الله الحرام   وذلك يكون بالنية والإحرام من مواقيته ، مع التجرد من لبس المخيط ، ومن كل صنوف الزينة والترف   والطواف بالبيت ، والسعي بين الصفا والمروة وهما من شعائر الله ، وعلى موعد مع مناجاة ربهم وهم واقفون بجبل عرفات ، يدعونه ويستغفرونه  ثم الوقوف بالمشعر الحرام بالمزدلفة ، ورمي الجمرات ، وسوق الهدي ، وهذه المناسك   تلقاها المسلمون جيلاً بعد جيل عن الرسول   حيث أُخذت عنه المناسك ، وكلها تحقق معنى العبودية لله ، فقد روي عنه ( ص ) أنه قال : (خذوا عني مناسككم ) .
إن على الحج أن يؤدي المناسك استجابةً لأمر الله  وتفانياً في الخضوع والطاعة له ، لأن الله احتفظ بسرِّ بعض التكاليف ، فلم يبينه ولم يشر إليه بأي إشارة تظهره أو تدل عليه ، ليمحص مدى الإيمان والتصديق في النفوس .
إن لفريضة الحج بالذات ، أركان وسنن ليس للنفوس حظ فيها ، ولا للعقل تفسير سوى الانقياد لأمر الله ، لإظهار الرق والعبودية له  وامتثالاً لطاعة الله لما أمر به .
أعجبني ما قاله الغزالي في الإحياء ، وقد لفت الأنظار إلى منهج الحج ، في التربية النفسية في رمي الجمار قائلاً : " أقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرق والعبودية ، وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظٍ للعقل والنفس فيه ، ثم أقصد التشبيه بإبراهيم عليه السلام ، حيث عرض له إبليس في ذلك الموضع ليفتنه بمعصية ، فأمره الله أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله ، فإن خطر لك أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه ، أما أنا هذه الأيام فليس يعرض لي الشيطان ، إن مجرد هذا الخاطر من الشيطان ، وهو الذي ألقاه في القلب ، ليخيل إليَّ ، أن رمي الحصى فعلٌ لا فائدة منه ، وأنه يضاهي اللعب ، فاطرده بالرمي رغم أنفه ، مع العلم انك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة ، وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان  وتقصم به ظهره ، إذ لا يحصل إرغام أنفه ، إلا بامتثالك أمر الله ، تعظيماً له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه " .
إن في تكليف الحج بأركانه وسننه ، والاستجابة المطلقة من النفس في أدائها ، دون استفسار لفحوى أمرٍ أو استكشافٍ لمعنى شعيرة ، أو استوضاحٍ للغرض من ركن أو سنة ، إن في ذلك مثلٌ للصدق والإخلاص وكمال الأخلاق . 
إن الحج على موعد لزيارة رسول الله ( ص ) ، ثم المثول تلقاء الحجرة النبوية بخشوع وتأمل فيما لا يحصى من مآثره وفضائله وآثار جهاده ، التي أنارت جزيرة العرب ثم عمت الدنيا .
وإنه على موعد مع جهاد النفس ، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، يفد المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها للقاء في البقاع المقدسة  والأماكن المطهرة ، يأتون إليها رجالاً وركباناً ليشهدوا منافع لهم ، ويتدارسوا شؤونهم   ويرسموا خطوط مستقبلهم ، علماً بأن واقع المسلمين خلاف ذلك  .
إن على الحجاج أن يؤدوا هذه الفريضة في رفق  ويتوافدوا عليها في شوق ، وقد امتلأت نفوسهم بالإيمان ، وأجسامهم بالقوة والنشاط ، ففي الحج عمل كلُّه نشاط يجدد القوة ، فمن الطواف إلى السعي إلى الهرولة ، عمل يبعث الهمة ويعود الإنسان على الامتثال والصبر والطاعة ، والخشونة وتقوية العزيمة ، وحط الرحال وسرعة الترحال  وضبط النفس ، والتخلص من زخارف الدنيا ومتاعها وزينتها إلى حين .
وما من شك أن رحلة الحج ، لأفضل ما عرف الإنسان من رحلات ، لما فيها من متع روحية   وذكريات عزيزة تقوى الإيمان ، وتصل الحاضر بالماضي البعيد ، فيها يشاهد الحجاج الأماكن المقدسة ، التي مشى فيها رسول الله ( ص )  وعاش فيها الصحابة والتابعون ، وشهدت انتصارات الإسلام في أيامه الأولى ، كما يطأ الحاج الأرض التي وطأها المسلمون الأوائل ، ويمر بالبقاع التي مروا بها ، ويقطع المسافات التي قطعوها متخيلاً مقدار تحملهم لمشقة الطريق  فيدرك أنهم فتيةً آمنوا بربهم ، فصنع الإيمان في نفوسهم المعجزات ، وجعل منهم طاقة فعّالة وقوة لا تقهر ، ويا ليتهم  يسلكوا الطريق الذي سلكه أولئك الأبطال الأطهار ، لرفع كلمة التوحيد وإعزاز دين الله .
إن الحج يعطي معنىً واضحا ، للمساواة بين المسلمين أمام الخالق سبحانه ، وهل يمكن أن نجد مظهراً لوحدة العقيدة ، أبهى من مظهر الحجاج وهم يجتمعون على الحب والإخاء في الله  والتعاون على الخير ، لا فرق بين جنس وجنس  ولا بين غنيٍ وفقير ؟؟ .
إن الملفت للنظر في أمر مواطن الحج ، الرجولة والزي البسيط المشعر بالمساواة الشاملة ، فلا كبير ولا صغير ، ولا تفاوت في اللباس بين أمير وحقير
وفي هذا رد للناس إلى البساطة ، ليعزفوا عن السرف ، والتفاضل بالأموال والجاه العريض .
وفي الحج منافع كثيرة أشارت إليها الآية القرآنية { ليشهدوا منافع لهم } إن هذه المنافع ليست التجارة وحدها كما توهم البعض ، ولكنها كل ما يهم المجتمعات الإسلامية ، التي ينبغي لها أن تجعل من الحج مؤتمر اجتماع وتعارف وتعاون  والتي جعلت منه فريضة تتميز بأن تلتقي فيها الدنيا والآخرة ، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة  علماً بأن الناحية الاقتصادية جزء بارز من أعمال ذلك المؤتمر الإسلامي الكبير .      
وأخيراً ما هي علاقة الحج بالقدس ؟ في الحديث الذي أخرجه البيهقي أن رسول الله ( ص ) قال :  (من أهل بالحج والعمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام ، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة ) . معلومٌ أن الرسول  (ص ) حينما قال ذلك لم تكن القدس في سلطان المسلمين ، ولم يكن المسجد الأقصى متعبد للمسلمين ، ولكنه في مخطط العليم الخبير ، أن تدخل القدس في حوزة المسلمين ، وقد مهد لذلك بإسراء الرسول إليها ، ثم الإعلام بأن المسلمين سيحرمون بالحج أو العمرة من المسجد الأقصى ، يوم تكون القدس عزيزة بسلطانهم .
إن القصد ليس مجرد الترغيب في الإحرام بالحج أو العمرة من المسجد الأقصى ، بل إن القصد أبعد من ذلك واعمق ، إنه ضرورة تكتيل الجهود والكفاءات ، والقوى والعقول الإسلامية للتخطيط والعمل على تخليص القدس من أيدي الأعداء .
إذا كان الحجاج صادقين مخلصين ، فليغتنموا الفرصة ، ويتشاوروا في شئون المسلمين ، وما أصاب ديار الإسلام من الغزو والاغتصاب  والذِلَّة والمهانة والاحتقار ، والعمل على تخليص القدس والأقصى من الاغتصاب .
لقد كان المسلمون أمة واحدة ، يوم أن كان يقودها دينها ، وكان حكامها هم المنفذين لشريعة الإسلام ، ولكن الأمر اختلف في عصر الفساد والتدّجيل ، حيث تفرقت الكلمة  وانتهكت الحرمات ، ودنست الكرامات   فأصبح المسلمون يعيشون في ظلال المهانة  والإذلال والضياع والمتاهات ، وكأن آيات الله نزلت للقراءة على الأموات لا للتقيد بأحكامها والالتزام بها .

قال تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم }.        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق