قال رسول الله ﷺ
في خطبة له آخر شعبان من السنة الثانية للهجرة : ( أيها الناس لقد أظلكم شهر
عظيم مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليلة
تطوعاً …؟!
لقد فُرِضَ الصيام في
المدينة بعد هجرة المسلمين إليها، لأن العهد المكي كان عهد تأسيس العقائد وترسيخ أصول التوحيد ، وتدعيم القيم الإيمانية
والأخلاقية ، في العقول والقلوب ، وتطهيرها من رواسب الجاهلية ، في العقيدة والفكر
والخلق والسلوك .
أما بعد الهجرة إلى
المدينة ، فقد أصبح للمسلمين كيان وجماعة متميزة ، تنادى بـ( يا أيها الذين
أمنوا …) فشرعت عندئذٍ الفرائض . وحدت الحدود ،
وفصلت الأحكام ، ومنها الصيام ، ولم يُشرع في مكة إلا الصلوات الخمس ، لما لها من
أهمية خاصة ، وكان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج قبل الهجرة .
إن علينا أن نحافظ
على هذه العبادات ، لأن الله سبحانه شرعها لتهذيب الأخلاق ، وترقيق العواطف لذا
يمكن أن نقول ، بأن العبادات تغير عادات الإنسان ، من الأسوأ إلى الأحسن ، أي أنها
تسمو بالإنسان ، وترقى به إلى مدارج الكمال ، وتنزله في الآخرة منازل الأبرار
الصالحين .
وشهر رمضان له لون فريد ، يميزه عن بقية
العبادات الأخرى ، وذلك لأن الصيام يقوي الإرادة كما أن الإنسان وهو صائم ، يستطيع
أن يُغَيِّرَ من العادات السيئة ، التي تعود عليها في غير رمضان . والصيام لم يُفْرضْ ليكون سبباً في عذاب
النفس ، وإنما فرض لتكون أيامه خيراً تسكن
فيها ثائرة النفس ، ويهدأ توتر الأعصاب
وينضم العبد مع جند الله الصالحين ، ليكون مع الأطهار الأبرار فيصلي صلاة
القيام ، ويقرأ القرآن ويخشع لله ، ويذكر
لله ليذكره .
أما الصائم الذي يلوك بلسانه عرض المسلمين ويتتبع بعيونه حرمات المؤمنين ، فهذا نذكره
بقول الصادق الأمين: ( كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ).
إن الصيام مدرسة
منهجها تقوية العزيمة ، وتغيير السلوك من السيئ إلى الأحسن ، وربط الإنسان بخالقه
، وحسن صلته بالناس ، لينعم بأجر الصائمين ، وبفوز برضا رب العالمين . والصوم
فريضة لها قدر كبير بين الفرائض ، إنها العبادة الوحيدة التي يترك فيها الصائم
حظوظ نفسه وشهواتها الكثيرة التي جبلت
عليها ، ولا يتحقق ذلك في عبادة أخرى .
والأمل من الله أن
يكون هذا الشهر مباركاً بإحياء معاني
الإسلام في النفوس ، وإعمار القلوب بالإيمان . وأن يكون منا سبة عظيمة لتحريك
الهمم ، والشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتق هذه الأمة لتدفع عن هذا الدين ، ما أحاط به من الشرور
والفتن . وتعمل على الدفاع عن مبادئ
الإسلام والمسلمين ، من المؤامرات التي تحاك خيوطها في ظلمه الليل ووضح النهار .
قال تعال: {وما لكم لا تقاتلوا في سبيل الله }النساء 75 .
فلم لا ندافع عن
مقدساتنا ومبادئنا الإسلامية ولم لا
نهب جميعاً للدفاع عن وجودنا وكرامتنا ومصادر رزقنا ، ولم لا يكون هذا الشهر شهر
الجهاد ، عسى أن يشملنا الله برحمته ، ويحوطنا بعنايته وينقذنا مما ألم بنا من
نكبات وويلات ويتقبل منا ما نقدم من صوم
وقيام ، وبذل وإحسان وعمل للخير في كل ميدان ، حتى نكون من الفائزين .
يلتقي المسلمون في
شهر رمضان بثلاثة معالم اختصهم الله تعالى
بها ، وهذه المعالم هي : القرآن وليلة القدر وأمة القرآن .
أما القرآن : فإن
الذين يتِّصلون به ، تلاوة أو استماعا في رمضان وغير رمضان ، هم في حالة ذكر
وصلاةٍ ودعاء ، وليس شهر رمضان وحده المعنى بذلك ، بل إن تلاوة القرآن أو الاستماع
إليه مطلوبٌ في أيِّ وقت ، بشرط التذكر والتدبر
لقوله تعالى {كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو
الألباب}ص 29 . والذي يقرأ أو يستمع إلى القرآن ، بدون تدبر وتذكر ، ليس بقارئ
وإن قرأ أو استمع ، قال تعالى {وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وانصفوا لعلكم
ترحمون}. فالرجاء في رحمة الله ، رهن بالاستماع والإنصات لما يتلى .
أما من يفتحون
المذياع والتلفاز أو المسجل ، على قراءة القرآن ، ولا يجلسوا مجلس القرآن في
الاستماع إليه ، فإن هؤلاء بخسوا القرآن حقه
وظلموا أنفسهم ، ولو حوَّلوا مؤشر المذياع أو التلفاز إلى غير القرآن ،
لكان ذلك على ما به أصون لمقام القرآن
واحفظ لجلاله .
أما ليلة القدر : وهي
من ليالي هذا الشهر ، الذي أنزل فيه القرآن ، إنها ليلة العاملين الذين
يصومون شهر رمضان ، فيمسكون ألسنتهم عن الفحش والسوء ، ويفطرون على الحلال الطيب ،
مما كسبت أيديهم . إنها ليلة القرآن وأهل القرآن
وهي ليلة من ليالي شهر رمضان ، فمن طلبها فليطلبها فيه صائماً نهاره ، قائماً ليلة ، ومن فترت همته ،
فليطلبها في العشر الأواخر من الشهر الكريم ، حيث أشار إليها الرسول ﷺ
بقوله " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ".
ومن ضعف عن ذلك ،
فليقم لها في الليالي الفردية من العشر الأواخر ، حيث تظاهرت الأخيار بأنها واحدة
من تلك الليالي ، فمن عجز عن هذا ، فليقم لها ليلة السابع والعشرين ، حيث وردت
أحاديث كثيرة تشير إلى ذلك ، منها ما رواه ابن عباس عندما سئل عنها فقال ( إني
أراها أي أظنها ليله السابع والعشرين. فقيل له : أعندك من خبر بهذا ؟ فقال : لا ،
ولكن نظرت فوجدت أن الله تعالى خلق الإنسان من سبعة أطوار … ) .
وفي رمضان كان ميلاد
دولة الإسلام ، وكان القرآن الكريم ، هو الروح السارية في كيانها فكانت كما نوة الحق سبحانه وتعالى في كتابه
الكريم بقوله تعالى :{كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر وتؤمنون بالله }.
فيا أمة الإسلام هذا
هو القرآن ، فكوني أمة القرآن ، تلاوةً وتدبراً وتذكراً وعملا .
وهذا شهر رمضان ،
فكوني أمة هذا الشهر صياماً وقياماً
واستقامة وإحسان .
وهذه ليلة القدر ،
فكوني أمة ليلة القدر … صفاء روح ، وطهارة نفس .
إنها مسئولية كل مسلم
عن نفسه ، وعن أمته وعن كتاب ربه، يأتمر بما أمر ، وينتهي عما نهى كما قال تعالى
{وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون }الزخرف
44.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق