قال تعالى : { ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون } المنافقون 8
.
نفهم من هذه الآية أن الله يضمُ رسوله
والمؤمنين الى جانبه ، ويضفي عليهم من عزته ، وهذا تكريمٌ هائل لا يكرمه الا
الله وأي تكريم بعد أن يوقف الله سبحانه
رسوله والمؤمنين معه الى جواره ، و يقول هذا لواء الأعزاء ، وهذا هو الصف
العزيز وقد
جعل الله العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن العزه التى لا تهون ولا تهن ، ولا تنحني ولا
تلين إنها لله ولدينه بالذات بهما يكون الإنسان عزيزا
وبغيرهما يذل ، وما ذل المسلمون في هذه الأيام إلا
لأنهم اعتزوا بغير الله ربا وبغير الإسلام دينا .
ومن طلب العزة فليطلبها من الله وسيجدها عنده
ولن يجدها عند الناس من أرباب الحكم والجاه أو القبائل والعشائر لأن هؤلاء ليسوا مصدراً للعزة
ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها
"فإن العزة لله جميعا". وإن كانت لديهم قوة فإن مصدرها الأول هو
الله وإن كانت لهم منعةً ، فإن الله واهبها ، فمن أراد العزة إذن فليطلبها من
مصدرها الأول لا من الآخذ المستمد من هذا المصدر . ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده
العزة ، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم وهم مثله طلاب
محاويج ضعاف إنها حقيقةٌ أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية ، حقيقة كفيلة بتعديل
القيم والموازين ، وتعديل الحكم والتقدير ،وتعديل النهج والسلوك والوسائل
والأساليب ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب ليقف بها أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً لا يتزعزع ما دام
على طريق العزة ، الطريق الذي لا عزة بسواه . ومن التزم هذا الطريق لا يحني رأسه
لمخلوق متجبر ، ولا لعاصفة طاغية ، ولا لوضع شاذ ولا لحكم منحرف ، ولا لدولة ظالمة ولا لمصلحة طاغية ، ولا لقوة من قوى الأرض
جميعا لماذا ؟ لأن العزة لله جميعا ، وليس لأحدٍ منها شيء إلا برضاه وقد اشار الله إلى أسباب العزة ووسائلها لمن
يطلبها عند الله فقال تعالى :{اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه}.
بالقول الطيب والعمل الصالح يكرم الله الإنسان ويمنحه العزة والإستعلاء ، العزة
الحقيقية التي تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والإنحناء لغير الله
، حقيقة يستعلي بها على نفسه قبل كل شيء ، يستعلي بها على شهواته المُذلة ورغائبه
القاهرة ، ومخاوفه ومطامعة من الناس وغير الناس ، ومتى استعلى الإنسان على هذه فلن
يملك أحد وسيلة إذلاله واخضاعه ، لأن الذي يذل الناس في دنياهم ، شهواتهم ورغباتهم
ومخاوفهم ومطامعهم ، ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل
إنسان ، وهذه هي العزةُ الحقيقية ذات القوة والسلطان . إن العزة ليست عناداً أو
استكباراً على الحق وليست طغياناً فاجراً ، وليست اندفاعاً باغياً يذل للشهوة ،
وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ، كلا ! إنها استعلاء على شهوة النفس استعلاء على القيد والذل ، استعلاء على الخضوع
الخانع لغير الله ، انها خضوع وخشوع وخشية وتقوى ومراقبة لله في السراء
والضراء ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه ومن
هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه ، ومن هذه المراقبة لله التي لا تحظى إلا برضاه
. أما الذين يمكرون السيئات طلبا للعزة الكاذبةً والغلبة الموهومة ، فيبدو ظاهراً
أنهم أعزاء وأقوياء ناسين أن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح هو
الذي يرفعه الله اليه ، وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل .
أما المكر السيء قولاً وعملاً فليس
سبيلاً إلى العزة ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان لأن
نهايته إلى البوار والعذاب الشديد ، ذلك وعد الله ولن يخلف الله وعده وإن أمهل
الماكرين بالسوء ، حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله .
إن معاني العزة
والكرامة التي تغرسها العقيدة في قلب المؤمن ، تُشْعِره أنه في ولاية الله وحمايته
لا يحني رأسه لمخلوق . قال تعالى : { الله ولي الذين آمنوا }البقرة
257
فلا عجب إذا رأينا عبداً أسود كبلال حين يشرب قلبه الإيمان ، فيرفع رأسه عالياً
وينظر الى أمية بن خلف وأبي جهل وغيرهما من زعماء قريش نظرة البصير للأعمى ، ولا
غرو إذا رأينا اعرابياً مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه عقيدة الإسلام ، وأضائت
فكره آيات القرآن يقف أمام رستم قائد الفرس
في ابهته وسلطانه غير مكترثٍ ولا عابيء به وبما حوله من خدمٍ وحشم ، حتى إذا سأله
من أنتم ؟ أجابه إجابةً خلَّدها التاريخ قال : " نحن قومٌ ابتعثنا الله لنخرج
الناس من عبادة العباد الى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا الى سعتها ، ومن جور
الأديان الى عدل الإسلام " ، ولا عجب أن نقرأ لشاعرٍ مؤمن يناجي ربه في
عبودية عزيزة بالله فقيرة الى الله قائلاً :
وما زادني شرفاً وعزّا وكدت باحمصي أطأ الثـريا
تحت قولك يا عبادي وأن أرسـلت أحمد لي نبياً
إن العزة تجعل
صاحبها ينظر الى قصور الأمراء وخزائن الملوك والأغنياء وما فيها من متع وخيرات ،
نظرة احتقارٍ وازدراء لا يبالي ولا يخاف ، يتغنى بقول الشافعي :
أنا
إن عشت لست أعدم قوتا وإذا مت لست أعدم
قبرا
همتي
همت الملـوك ونفسي نفس حرٍ ترى
المذلة كفرا
وإذا
ما قنعت بالقوت عمري فلماذا أخاف زيداً
وعمرا
ويحكي الإمام الغزالي في كتابه الإحياء باب الأمر
بالمعروف : " أن شيخاً كان يمشي في الطريق
يلتقط النوى من الأرض فكسر عوداً مع خادمٍ يحمله الى جارية من جواري هارون
الرشيد تغني عليه ، فلما بلغ الخبر الرشيد غضب وأرسل ليأتوا اليه بالشيخ ، فلما
وقف على باب القصر ، غيَّر الرشيد مجلسه ثم امر بالشيخ فادخل وفي كمه الكيس الذي
فيه النوى فقال له الخادم : أخرج هذا من
كمك ، وادخل على امير المؤمنين فقال له : من هذا عشائي الليلة ، قال الخادم نحن
نعشّيك قال : لا حاجة لي في عشائك ، فقال الرشيد للخادم : اي شيء تري منه ؟ قال :
في كمه نوى قلت له اطرحه وادخل ، فقال الرشيد : دعه ، فدخل وسلم وجلس ، فقال له
الرشيد : يا شيخ ؟ ما حملك على ما صنعت ؟ قال الشيخ وأي شيءٍ صنعت ؟ فاستحى هارون
أن يقول كسرت عودي ، ولما أكثر عليه قال : إني سمعت آبائك وأجدادك يقرأون هذه
الآية على المنبر : {إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغي}النحل90 وأنا رأيت منكراً فغيرته فقال له هارون : غيِّره
. قال راوى القصة : فوالله ما قال إلا هذا . فلما خرج أعطى الخليفة رجلاً عشرة
آلاف درهم وقال : اتبع الشيخ ،
فإن رأيته يقول : قلت لأمير المؤمنين وقال لي ، فلا تعطه شيئا وإن رأيته لا يكلِّم أحداً فاعطه . فلما خرج من
القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت فجعل يعالجها ولم يكلم أحدا ، فقال له : يقول
لك أمير المؤمنين خذ هذه ، فقال : قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها ولسان
حاله :
أرى الدنيا لمن هي في يديه هموماً كلما كثـرت لديـه تهـين المكرمين لها بصـغرٍ وتكرم كلَّ من هانت عليه إذا استغنيت عن شيءٍ فدعه وخـذ ما أنت
محتاج الـيه بمثل هذه
النفوس القانعة والتي ترفض قبول الآلاف من الخلفاء والملوك ، تعلو كلمة الحق
وتنتصر المبادىء والرسالات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق