المولد النبوي كان مولد الهدى والنور والحق والخير والصلاح ، لذا
ينبغي ألا يكون الاحتفال بمولده يومًا واحدًا في العام ، بل إن الحياة جميعها
والوقت كله بل والزمن
كله ، لا يكفي لذكر فضائل النبي محمد وتعاليمه وحقوقه ، وإنما كان يوم مولده
الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، كرمز فقط لذكرى عظيمة استشعر عظمتها أهل الأرض
والسماء حتى
تكون انطلاقةً وحركة دفع ،الهدف
منها السير على ما كان عليه محمد ﷺ . أما من ابتدع الاحتفال بالذكريات المتعلقة
بالنبي ﷺ ؟ زاعمين أنهم بذلك ، يعظموا الرسول ﷺ بما يعظمه به سلف الأمة الصالح ، إنهم ملوك الدولة الفاطمية في القرن
الرابع الهجري ، ومن تسمى منهم باسم (المعز لدين الله) ومعلوم أنه وقومه جميعا
إسماعيليون زنادقة ، متفلسفون . أدعياء للنسب النبوي الشريف ، فهم من ذرية عبد
الله بن ميمون القداح اليهودي الباطني ، وقد ادعوا المهدية وحكموا المسلمين
بالتضليل والغواية ، وحولوا الدين إلى كفر وزندقة وإلحاد ، فهذا الذي تسمى
(بالحاكم بأمر الله) ، هو الذي ادعى الألوهية وأسس جملة من المذاهب الباطنية والدرزية
احدها ، وأرغم المصريين على سب أبي بكر وعمر وعائشة وعلق ذلك في مساجد المسلمين ،
ومنع المصريين من صلاة التراويح ، ومن
العمل نهاراً إلى العمل ليلاً ، ونشر الرعب والقتل ، واستحل الأموال وأفسد في
الأرض ، مما تعجز المجلدات عن الإحاطة به ، وقد أكل المصريون في عهدهم القطط
والكلاب وأكلوا الموتى ، بل وأكلوا أطفالهم ، وفي عهدهم تمكن الفاطميون والقرامطة
من قتل الحجاج وتخريب الحج وخلع الحجر السود .
ونحن
نحتفل بذكرى ميلاد رسول الله e ، جديرٌ بنا أن نلقي نظرة
على الواقع المر الذي يواجهه ويعيشه المسلمون حيث يواجهون مطامع الدول الكبرى ،
التي تسعى جاهدة للسيطرة على الأمة ونهب خيراتها ، ويعيشون شحاً مطاعا وهوى متبعا
ومنكرا فاشيا وفساداً مستحوذا .
أما
ما تعنيه الذكرى بالنسبة لنا ، فهي أن نتدبر ما نقرأ من سيرة نبينا ﷺ وأن نفتدي به سلوكاً ومنهج حياة والأمة محتاجة إلى هذا احتياجاً شديداً
، وهي ليس بحاجة أبداً إلى تحول الدين إلى مراسم وأشكال وإلى صور ومظاهر ، كما هو
الحال هذه الأيام ، فإن الاحتفالات التي تقام تحسس المسلم بأنها صلةٌ مفتعلةٌ بين
المسلمين ونبيهم ، وأن ما يلقى من خطب ، فيها دعاوى حبٍ لا يسانده دليل ، ولا
يؤيده واقع ، والناظر إلى هذه الاحتفالات لا يجد فيها ما يدل على صدق الإتباع وحس
التأسي ، وكأن هذه الاحتفالات عبارة عن تقليدِ مكررِ مألوف جرت عليه العادة ليس
إلا ، حيث تجاوز الناس اللباب وتعلقوا بالقشور ، مع أن الواجب يدعونا إلى العودة
إلى ديننا ، وأن نفقه ما وراء الحوادث التي تساق ، والعيب أننا نطالع صفحات السيرة
النبوية فنقرأ أنباء الانتصارات في الغزوات والأخبار المتعلقة بأقوال وأفعال رسول
الله ﷺ ، علماً بأن العبرة من دراستها شيء آخر وراء ذلك ، إذ يجب علينا أن
نعرف كيف ندعو إلى دينه ﷺ .
عارٌ
علينا أن يكون برناردشو الأديب الإنجليزي أقرب منا إلى فهم نبينا ﷺ قال : " لو كان محمد موجوداً لحل مشكلات العالم وهو يتناول
فنجاناً من القهوة " فالمطلوب منا ونحن نحتفل بذكرى ميلاد رسول الله e أن نعرف كيف دعا محمد ﷺ إلى دينه ، من خلال السيرة النبوية ، لأن مسلك الإنسان أدل شيٍ على
سياسته ، وإن حياة إنسان ما على نحو معين ، دليل واضح على الأسلوب الذي اختاره في
حياته ، لذا علينا ونحن نتابع سفره واقامته وصحته ومرضه ، ونتابع حربه وسلمه
وصداقته وخصومه ونومه ويقظته واستجمامه وعمله ، نتابع ذلك لكي نعرف من خلال النظر
فيها ، كيف نجح في تكوين أمة من الصفر ، وكيف استطاع أن يجيء بكل ما أتاه الله من
مواهب وأفاء عليه من أفضال مادية وأدبية ليقود
هذه الأمة ويدفع بها إلى الأمام ، لتكون الأمة الأولى في العالم . هذا هو المطلوب
، وحتى تكون العلاقة بين النبي وهذه الأمة مقبولة تنال رضا الله ، وذلك بالتأسي
برسول الله e والسير تحت لوائه
والاهتداء بهديه ، بذلك تكون الأمة أولى به في الدنيا والآخرة ، وإن لم تحتفل
بذكرياته ، وإلا فالرسول بريءٌ ممن لا يتبع هداه وإن أقيمت الاحتفالات . لأنها في
هذه الحالة لا تعمِّرُ قلباً خالياً من الإيمان بالله ولا تصوغ خلقا ولا تسوي صفا ، ولا تصنع مثلاً أعلى ،
فهل يتعظ المسلمون ؟ ويعودوا إلى الله أم تمضي فيهم سنة الأولين الذين لم يؤمنوا
حتى يروا العذاب الأليم ؟ .
أعجبني
ما قاله بعض العلماء : إن نبينا عليه الصلاة والسلام أمر أن يقتدى بالأنبياء قبله
قال تعالى :)أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده( الأنعام 90 . وقالوا
: إن تقليد نبي واحد قد يفيد أن مفضول ، لأن المقلِّد أقل درجة من المقلَّد ، لكنه
أمر أن يقتدى بمجموعة من الأنبياء بعد أن ذكر الله أسماء ثمانية عشر نبياً ، إذن
هو مكلف أن يجمع في سيرته ما تعرف من ألوان الكمال الإنساني ، في سيرة أولئك الذين
ذُكرت أسماؤهم وأنسابهم .
إن
ما تَفرق من الكمالات البشرية في الأنبياء السابقين ، جُمع في نبينا محمد e وفي سيرته لكن
مع تفاوت في التطبيق كيف
؟ في تطبيق إبراهيم لأمر الله ، أمر أن يدعوا إلى التوحيد وأن يحارب الوثنية ، فقد
وجد أن الناس لم يحسنوا الاستماع إليه ، ولا تتبع الأدلة على النحو الذي شرحته
سورة الأنعام ، عندما تدرج
في فهم الألوهية من كوكب إلى قمر إلى شمس ، ولم يجد معهم هذا الأسلوب ، فذهب إلى
الأصنام وهدمها وعلق الفأس في رقبة الصنم الكبير وسخر منهم عندما جاءوا فوجدوا أصنامهم
قد كسِّرت .
لقد
أفلح في لفت نظرهم إلى أنها لا تملك أن تدفع عن نفسها ، لكن ما حدود هذا الفلاح ؟
أخبر الله على لسانهم )فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم
الظالمون ( الأنبياء 64. لكن هل تمت هذه الرجعة وامتدت ؟ لا كان الضمير ميتاً
أدركته صحوة عابرة ثم عاد إلى موته ، وعادت الظلمة قال تعالى : ) قالوا حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين ( الأنبياء 68 .
انتهى
الأمر برمي إبراهيم في النار ، لم ينجح العلاج .
بينما
تطبيق أمر الله في سيرة نبينا أخذ جانباً آخر فرسول الله لم يحاول أن يكسِّر الصنم
بيده ، وإنما ربى الأمة التي تستطيع أن تعقل وأن تستيقظ وأن تبصر وأن تدرك الحق
وأن تتعصب له ، وأن تكره الباطل ولا تطيق بقائه ، وأن يجيء اليوم الذي تكسِّر
الأصنام بيدها ، فهذا خالد بن الوليد الذي كان يعبد الأصنام في مكة ، والذي ظل
يحارب تحت راية الشرك حتى أسلم ، هو الذي أخذ بنفسه سيخا من حديد يهدم به صنم
العزَّى ويقول :
يا عُزَّى كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك
هذا
هو منهج الدعوة ، والذي صنعه خالد هو كما رسم رسول الله ﷺ ، هذا المنهج قام على أساس أن محاربة الشرك لا تكون بتحطيم مظاهره في
المجتمع ، لأن المجتمع الضال سوف يجيء بمظاهر أخرى ، لذا كان العمل الأول للدين
داخل الإنسان نفسه ، فلا يجدي تكسير الأصنام إذا بقيت النفوس على ظلامها القديم ،
لأن العباد سيبحثون عن آله أخرى ، وما أسرع الناس إلى تجاهل الوجود الحق وربه
الأعلى والجري وراء أصنامٍ جديدة ، ومع تقدم الإنسانية فقد ترفض أن تعبد صنماً
محفوراً من حجر ، ولكن هناك أصناماً أخرى تعبد الآن ، فحب الرئاسة صنمٌ يعبده من
يعبده ، ويقدم له قرابين من عامة الناس وهناك أشياء كثيرة جداً أصبحت أصناماً
جديدة يعبدها الناس في عصرنا ، وما كان هذا يوجد لو ملأت الأنفس بعقيدة التوحيد
كما شرحها القرآن وبينها رسول الله ﷺ .
في
الأمة ناس ماديون يسيرون وراء الشهوات ولديهم ما يشغلهم عن الله والدار الآخرة ،
هؤلاء بحاجة إلى العقيدة التي تهذَّب النفوس ، أما إذا وجد في الأمة من يزوَّر
الفتوى والكذب على دين الله ورسوله ﷺ ، ومن عنده رغبة التسلط ويجد من يصفق له ، فأمتنا لا تستطيع أن تقوم
بحقها وهي دون رسالة
الإسلام بيقين ، ورسالة الإسلام هي ألا يحني المسلم جبهته إلا لله وحده .
إن
الاكتفاء بهذه الشكليات لا تزيد المسلمين من الله إلا بعدا ، ولا تزيدهم للإسلام
الحنيف إلا ظلما ، لأن التدين ليس احتفالات تقام ، إنه قبل كل شيء قلب سليم ، وفكر
مستقيم ، ينشأ عنهما مجتمعٌ كريم ، على هذه الطريقة في تحديد المفاهيم تأملت
الحديث الذي رواه البيهقي مروياً عن النبي ﷺ : ( هل تدرون ما
الشديد ؟ قلنا الرجل يصرع الرجل ، قال : إن الشديد كلَّ الشديد الرجل الذي يملك
نفسه عند الغضب . أتدرون ما الرقوب ؟ قلنا الرجل الذي لا يولد له قال : إن الرقوب
الرجل الذي له الولد ولم يقدِّم منهم شيئا _ يعني في سبيل الله _ قال : أتدرون ما
الصعلوك ؟ قلنا الرجل الذي لا مال له . قال : إن الصعلوك كل الصعلوك الذي له المال
لم يقدِّم شيئاً لله تعالى ) فهل
نعود إلى جوهر الدين ونعوِّل عليه ؟ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق