قال تعالى:{الذين
يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}البقرة 275.
في الآية تصويرٌ
لبشاعة آكل الربا ، هذه الصورة التي لم يصورها القرآن ، لأي فاسقٍ يرتكب محرَّماً
من المحرَّمات ، إنها صورةٌ مفزعةٌ في يوم البعث
لكن هذه الصورةُ واقعةٌ بذاتها ، في حياة البشرية في هذه الأرض ، وهي تتفق
مع ما سيأتي بعدها من الإنذار ، بحربٍ من الله ورسوله ، في قوله تعالى:{وذروا
ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم
تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله}البقرة 278
في الآية دلالةٌ على
أن الله لم يتوعد مرتكبي منكر بحربٍ كما توعد آكلي الربا ، الذين لا ينتهون بعد
التحريم ، إن هذه الحرب واقعةٌ وقائمةٌ الآن
ومسلطةٌ على البشرية الضالة ، التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي
، الذي جعله الله عنوان كفرٍ عظيم ، ومصدراً للذنوب والآثام وسبباً من أسباب مقته
، قال تعالى:{يمحق الله الربا ويُرْبي الصدقات ، والله لا يحب كل كفارٍ أثيم}البقرة
276.
كما
ورد في الأحاديث النبوية ، ما يدل على منتهى التقبيح لآكل الربا ، ومنتهى
المبالغةِ في تحريمه فقال عليه السلام : (
الربا ثلاثةٌ وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ) والحديث يدل على
أن الربا أنواعٌ كثيرةٌ ، كلها محرَّمةٌ صغيرها وكبيرها ، جلِّيها وخفِّيها ، مهما
اختلفت الأسماء وتعددت الأشكال ، من فائدةٍ في مصرف أو صندوق توفير أو سند أو غير
ذلك . وقد عده النبي عليه السلام من السبع الموبقات أي المهلكات ، واعتبره من إحدى
الرذائل ، التي إذا شاعت في مجتمعٍ حلت به
نقمةُ الله عز وجل وهي الربا والزنا ،
فقال عليه السلام : ( إذا ظهر الزنا والربا في قريةٍ ، أحلّوا بأنفسهم عذاب
الله عز وجل ) . فهو ربا ما دام زيادةً بين مثلين من غير عوض ، أو في مقابل الأجل
. ولعل تصوير النبي ( ص ) هو أبلغ تصويرٍ لانتشار الربا بأنواعه المختلفةِ في زماننا حين قال:(سيأتي
على الناس زمانٌ يأكلون فيه الربا ، قال قائل : يا رسول الله : كلهم ؟ قال : من لم
يأكله ناله غباره ) .
لقد
كان الربا وما زال بطبيعته البشعة العدوانية
معارضاً لسلام البشرية وخيرها وتقدمها
وكان وما يزال العامل الخطيرُ ، في استنزاف ثروات العالم الإسلامي ، باسم
القروض والفوائد ، التي يعاني منها العالم
الإسلامي ، لهذا لا بد أن يكون تحريم الربا منهجاً أساسياً لتحرير الاقتصاد الإسلامي والمسلمين . لقد
أراد الإسلام أن يجعل من التجارة عملاً أخلاقياً ، لا أساساً اقتصادياً للتقايض ،
فالتعريف العام للربا يقوم على تبادل
سلعتين من نوعٍ واحد ، وهو ما نهى عنه الإسلام
الذي لم يجز تغريم المدين مبلغاً من المال ، إذا تأخر في وفاء دينه لأن الزمن ليس سلعةً تجاريةً تباع وتشترى . ومن
العجيب أن بعض المسلمين أباحوا الربا
لأنفسهم ، بدعوى الاضطرار التي استندوا إليها
وما دروا أنهم بذلك بعدوا عن الله
وإن ذكروه وصلوا وصاموا وحجوا .
إن
آكل الربا ملعون على لسان نبينا حيث يقول :(لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه
وشاهده) لهذا على كل من يعمل في
مؤسسةٍ ربويةٍ ، أن يراجع نفسه ، وإن دعوى الاضطرار للعمل أو التعامل بالربا ، غير
صحيح ، لأن النص في الإباحة للاضطرار ، ورد في آياتٍ كلها تُبيح أكل ما حرَّم الله
من المنصوص عليها ، للاضطرار الذي يخشى منه ، لو لم يُبح الأكل مما حرَّمه الله أن
يموت الإنسان جوعاً أو يهلك عطشاً ، قال تعالى :{إنما حرَّم عليكم الميتةَ
والدمَ ولحمَ الخنـزيرِ وما أهلَّ به لغير الله ، فمن اضطر غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا
إثم عليه إن الله غفورٌ رحيم}البقرة 173. وقال :{فمن اضطر في مخمصةٍ غير
متجانفٍ لاثم فإن الله غفورٌ رحيم}المائدة 3.
في هذه الآيات دليل على أنه ما أبيحت هذه المطعومات ، إلا عند الاضطرار في
المجاعة المهلكة ، لكي يحفظ الإنسان حياته
وهذه الضرورة غير قائمة في التعامل الربوي وأية ضرورة يخشى معها الإنسان على نفسه الهلاك
، لكي يأخذ المال بالربا ؟ . وإذا كان لا بد من الدَين ، فقد شاء رب الإسلام أن تكون قروضاً حسنة ، بلا زيادةٍ على مبلغ
الدَين الأساسي .
إن
خطر استسلام الاقتصاد الإسلامي لنظام الربا
بالرغم من فساده في مجال التعامل ، هو فسادٌ خطيرٌ دعا الدين الحق إلى
تحريمه ، وما نلاحظه هذه الأيام ، أن دول الكفر
سيطرت على هيكل الاقتصاد العالمي
وأقامته على الربا والاستغلال
وتكديس الثروات فأصبحت تتحكم في
أسواق العالم أجمع .
لقد
ديس بالأقدام الخط الإسلامي في المعاملات
مما يوجب على المسلمين ، البحث عن الحلول المستمدة من أصول الإسلام ، ولم
يعد الاستنكار القلبي كافيا ، مع الخضوع للأمر الواقع . وإن الإسلام ليس هو الدين
الوحيد الذي انفرد بتحريم الربا ، بل إن الشرائع السماوية كلها قد حرَّمت الربا ،
وما نراه من التعامل الربوي في المجتمعات الغربية ، ما هو في حقيقته إلا خروجٌ على
شرعة الدين ، وهو امتداد لقمع الإنسانية واستعباد البشر ، لقد قطعت الأساليب
الربويةُ في المعاملات الاقتصادية شوطاً طويلا ، وكان اليهود هم حملةُ لوائها .
ولم يخل عصرٌ من الدعاة الذين كشفوا فساد
النظام الربويّ ودعوا إلى حماية المجتمعات
، والفقراء من تحكُّمِ الدائنين . ومما يذكرُ في هذا المجال أن نابليون قد اعتنق
الإسلام وتعلَّم العربية وغيَّر اسمه إلى علي بونابرت وبعد أن رأى تصاعد الربا قال : "من المدهش
أن هذا الوحش ، يستهلك البشرية برمتها"
وقال : "آملُ أن يأتي اليوم الذي أجمع فيه الحكماء والمثقفين من جميع
الأمم ، لتأسيس نظام موحد عادل مبني على القرآن ، الذي هو الحقيقة الوحيدة ، وهو
الذي يقود الإنسانية إلى السعادة"
وعندما حاول إبرا هام لنكو لن تحريم الربا
قُتل بعد ثلاثة أيام من قراره هذا . وعندما حاول جون كندي إحياء قانون إبرا
هام ، اغتيل هو الآخر قبل توقيع القرار الذي كان موجوداً على مكتبه . ومن الجدير
بالذكر أن كلَّ البنوك في العالم تقوم على مبدأ الفائدة ، بما في ذلك البنوك
الإسلامية والتي لا تمت بصلة إلي النظام
الاقتصادي ، الذي رسمته الشريعة الإسلامية ، لأن هذه البنوك تخضع لنظام البنوك
المركزية ، التي تُطبق الأنظمة الربوية
مما يوجب على هذه البنوك أن تظل
ربوية في أنظمتها وتعاملاتها حتى ولو كانت بأسماء إسلامية . وإن الفتاوى التي صدرت
بهذا الخصوص باطلة ، لأن هذه البنوك ما هي إلا شركات مساهمة تخضع للنظم الرأسمالية الباطلة من وجهة نظر الإسلام ، لأنها شركاتٌ
مالية بحتة ولا يوجد للعنصر الشخصي أي اثر فيها ، وقد تجمعت هذه الأموال وصارت لها
قوة التصرف بإشراف مجلس للإدارة والذي
يَنْتَخِبُ مديراً يتصرف بتنمية الملك للشركة وإدارة الأموال وهذا غير جائزٍ في الإسلام ، لأن الأصل في
إيجاد المال وفي تنمية الملك هو البدن وهو الأصل في الربح ، والشركة في الإسلام
عقدٌ يحصُلُ فيه الإيجاب والقبول بين اثنين أو أكثر يتفقون فيه على القيام بعملٍ
مالي بقصد الربح فهي تعتمد المال والعمل مجتمعين أو العمل وحده ولا تنعقد
على المال فقط . أما الشركات المساهمة فهي
تعتمد على المال الذي يدفعه المساهمون بدل أسهمهم ، ودون أن يكون هناك أي
عقد للشركة بينهم وبين شركائهم ، وهي شركات
دائمة ، لا تبطل بموت أحد الشريكين أو الحجر عليه مما يخالف الشرع ، كما أن
الأرباح والخسائر قائمة على نسبة الأسهم ، ولا يصل الخسران إلى فقدان رأس المال أي
قيمة السهم الأمر الذي لا يجوز في الإسلام
لأن القاعدة الشرعية تنص على أن الغُرْم بالغْنَمِ ، كما أنها تجعل لأحد الشركاء
وهم أعضاء مجلس الإدارة مقداراً معيناً من المال زيادة على حصته في الربح وهذا لا
يجوز ، لهذا تعتبر الشركات المساهمة باطلة من وجهة نظر الإسلام .
أما
الأسهم التي تطرحها هذه البنوك ، فلا يجوز التعامل بها ، لأن السهم لا يمثل رأس
المال المدفوع عند تأسيس الشركة ، وإنما يمثل رأس مال الشركة عند البيع في أي وقت
وهو كورقة النقد يتعرض سعره للهبوط والارتفاع ، والحكم الشرعي في الأوراق المالية
إن كان لها مقابل من الذهب أو الفضة يساويها فشراؤها وبيعها حلال
وإن
كانت سندات تتضمن مبالغ من المال الحرام كسندات الدين التي تستثمر المال بالربا
كأسهم البنوك ، فإن شراؤها وبيعها يكون حراما لأن المال الذي تتضمنه مال حرام
واسهم الشركات المساهمة ، سندات تتضمن مبالغ واسهم من رأس مال حلال ومن ربح حرام
في عقد باطل ومعاملة باطلة ، دون تمييز بين المال الأصلي والربح فصارت حراماً ، لا
يجوز بيعها ولا شراؤها ولا التعامل بها .
كما
أن هذه البنوك تمارس بيع السلع قبل تمام ملكها ، حتى أن الكثيرين ألفوا هذا
الأسلوب واندفعوا في تطبيقه ، مع أنه
يخالف عقيدتهم ، ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك فقد نسي الناس تطبيق أحكام الشرع
عليهم ، فتراهم حين يباشرون أعمالهم في علاقاتهم مع الناس ، لا يدور بخلدهم سوى
هذه المنافع ، وما في المعاملات من أرباح ، ولا يمتنعون عن عمل لأن الشرع
حرَّمه بل الممنوع عندهم ما منعه القانون
، أو ما كان عيباً في عرف الناس ، والجائز ما أجازه القانون وما اصطلح الناس على
التعامل به ، أو التذرُّع ببعض الفتاوى الصادرة عن بعض العلماء ، حتى اندفع الناس
في المعاملات على هذا الأساس وتركوا أحكام الشرع بالرغم من محافظتهم على الصلاة
وإيمانهم بالله ودينه ، فكثير من الباعة الذين لا يملكون السلعة حال طلبها يذهبون
لمن يملكها ويشترونها منه ، ثم يسلمونها لمن طلبها ، هذا الأسلوب غير جائز شرعاً ،
لأن بيع ما لا يملكه الإنسان لا يجوز ، لأن عقد البيع إنما يقع على الملك ، وما لم
يكن مملوكاً لا يقع عليه عقد البيع لأن ما
وقع عليه العقد غير موجود وقد نهى رسول
الله ( ص ) ، (عن بيع ما لا يملكه البائع) وقال : ( لا يحلّ سلفٌ وبيع ولا بيع ما ليس
عندك ) . وروي عن حكيم بن حزام قال : قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني
عن البيع وليس عندي ما أبيعه منه ثمَّ أبتاعُه من السوق فقال : ( لا تبع ما ليس عندك ) .
وفي
المؤتمر الذي عقد في الخرطوم ، بحضور جميع ممثلي المصارف الإسلامية في السودان ،
ثبت لهم بعد المناظرات أن النظام المصرفي
في هذه البنوك لا يتمشى مع الشريعة
الإسلامية ، حتى أن الدكتور حسن ساتي
المدير التنفيذي لبنك الشمائل الإسلامي في الخرطوم قال : " إن النظام
المصرفي للبنوك الإسلامية ، هو نفس النظام المصرفي في بريطانيا وهو نظامٌ ربويٌ أُلبس طربوشاً إسلامياً "
، ومن خلال الحجج التي طُرحت في المناظرة ، قال حسن الترابي الذي كان يرأس المؤتمر
، يجب أن نُغيِّر النظام المصرفي للبنوك
الإسلامية في السودان ، وعليه أُلغي نظام المرابحة في السودان .
إن
التعامل الربوي ، ليس ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية ، وإن الإنسانية التي
انحرفت عن المنهج قديماً ، حتى ردها الإسلام إليه ، هي الإنسانية التي تنحرف اليوم
الانحراف ذاته . ولننظر كيف كانت ثورةُ الإسلام ، على الأنظمة الربوية التي ذاقت
منها البشريةُ ، ما لم تذق قط من بلاء ، إننا نرى حرباً من الله على المتعاملين
بالربا ، حرباً تصبُ عليهم النقمة والعذاب
أفراداً وجماعات وأمماً وشعوبا ،
وهي لا تعتبر ولا تفيق ، ولا حيلة لنا إلا أن نُذَكِّر إن الذكرى تنفع المؤمنين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق