إن الطريقة التي يتعامل بها أولي الأمر مع
الأمة أوصلتها إلى حد من الضيق الذي لا
يطاق ، فلا تلمس إلا الشكوى والتذمر من التبعات التي أثقلت كاهل الأمة ، فغرقت في
بحر من الديون يصعب التخلص منها ، حتى إن البنك الدولي أصبح يراقب كل صغيرة وكبيرة
في ميزانية الدول التي أصبحت خاضعة تحت نير مديونية .
إننا
نسمع من هنا وهناك أحاديث عن جوع تعاني منه كثير من الأسر ، وخوف من الإفلاس
والجوع المرتقب عند آخرين ، وقانون الجوع والخوف هذا ذكره الله في كتابه فقال
تعالى :)وضرب الله مثلاً
قريةً كانت مطمئنةً يأتها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله
لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (
النحل
112
والله
يرسم لنا طريق الخلاص من الجوع والخوف ، أما طريق الخلاص من الجوع فإنا نراه في
قوله تعالى :
)ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض(الأعراف 96 .
)ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض(الأعراف 96 .
وأما طريق الخلاص من الخوف فسبيله قوله
تعالى : )يا
أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم(
محمد 7 .
فلا
بد إذن من العودة إلى الله ، إذ لا ملجأ من الله إلا إليه ، فالخير بيده والملك
ملكه ، أما أن نحترم الدين ادعاءً ونهمله ونعتدي عليه سلوكاً ، فهذا مسلك حذرنا
الله منه بقوله : )ألم
تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله وما أنزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت ، وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً
بعيداً ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون
عنك( النساء 60 .
إنه يحز
في النفس أن الخطباء والمحاضرين والكتاب لا يقومون في خطبهم وتوجيهاتهم عند الحديث
عن مآسي الأمة بتذكيرها بواجب العودة إلى الله ، وأن هذه المسؤولية
تقع على عاتق كل فرد مسلم , وأن هذا هو الطريق الذي يقود الأمة إلى تحقيق
النصر وإيقاف المآسي وردع الأعداء .
نرى
من يتكلمون ويكتبون عن مذابح الأمة بنظرة فيها سمة التركيز على الحلول الجزئية بما
فيها الإكثار من نقد التوجه العالمي , والتحدث عن الأسباب السياسية أكثر من النظر
للخلفيات الشرعية في هذه الأحداث, والأهم من ذلك عدم تركيزهم بدقة ووضوح على الحل
الحقيقي لكل هذه المآسي بالشكل الذي يصل إلى قلب ويقين كل مسلم , مشعرا له بواجبه
في التغيير والعودة والدعوة إلى الله .
وفي
غياب التذكير بذلك , أصبحنا نمل أحيانا من كثرة البكاء والتباكي على واقع الأمة
المتكرر , حتى أني أتساءل هل الهدف هو البكاء والتألم فقط أم أن هنالك هدفاً اكبر
يقود الأمة إلى التغيير والعودة إلى الله
يتكلم
الكثير عن الجهاد وعزة الأمة ووحدتها ونخوتها ,
ونسوا بأن الأمة لن تنتصر ولو اتحدت طالما لم تطبق شرع الله وتحترم أوامره.
وكثيراً
ما نتغنى بأمجاد الأمة وأبطالها كصلاح الدين وغيره من أبطال الأمة وأن الأمة تحتاج
إلى أمثالهم وهل يتوفر ذلك ونحن على ما نحن عليه ، فصلاح الدين كان إحدى ثمار
المنهج الإصلاحي الذي عاصره وسبقه ، فما قام به ينبغي أن يكون دافعاً من الدوافع
التي تقود الأمة للعودة إلى الدين والجهاد الصادق في سبيله, وليكن حافزا لنا لنكون
على مثل ما كان عليه صلاح الدين الذي فهم ألا تقدم
فلا تقدم إلا بالإسلام ولا نصر إلا به ولا حياة
إلا في ظله ، بل لا حياة للمسلمين بدونه
ولقد فهم صلاح الدين ذلك حق الفهم ، ففتح بيت المقدس حتى قال قائلهم يومها:
قل
للملوك تنحوا عن عروشكم فقد أتى آخذ
الدنيا ومعطيها
وحق
له ذلك لأن صلاح الدين سقطت على أقدامه الدول ، ووقفت على أعتابه الملوك ودانت له الرقاب وقد اختلف الأمر هذه الأيام ،
حيث وقفنا على أعتابهم ، وداسونا بأقدامهم ، ولما مات صلاح الدين لم يترك إلا سبعه
واربعين درهما وديناراً ذهبياً واحدا ولم
يكن له دار ولا عقار ، حتى أقسم القاضي بن شداد أن جنازته جُهِزت بالدينْ ، بينما
من هم على شاكلة صلاح الدين في الحكم هذه الأيام ، يموتون وأرصدتهم بالمليارات .
كان
المسلمون قبل نور الدين وصلاح الدين على شرِّ حال من الانقسام ، وكان في كل مدينة
دويلة يحكمها ملك أو أمير تماماً كما هو حال المسلمين هذه الأيام وكانت قد دهمت الشام قبل صلاح الدين جملتان
صليبيتان وكانت لهم دول لا دولة واحدة ، ففي القدس مملكة وفي انطاكيا إمارة وفي
طرابلس حكومة ، حتى حسب المسلمون أنهم امتلكوها إلى الأبد .
فكيف
استطاع صلاح الدين أن يصنع من ضعف المسلمين قوة ويواجه الصليبيين ؟ لم يردَّ العدو
بعدد المسلمين ولا بعددهم ، ولكنه ردهم وهزمهم بالإيمان رجع إلى الله واستمد أخلاقه وسيرته من أخلاق وسيرة رسول الله e
في التقوى والصلاح ، فأعطاه الله ما أعطاه من الغلبة والنصر والظفر ، لأنه تمسك
بالدين وأقام دولته على أساس الإسلام
فاستطاع بهذه الدولة أن يحارب أوروبا كلها التي اجتمع ملوكها على حرب
فلسطين فكيف كان له ذلك ؟
صحح
عقيدته أولاً وسأل القطب النيسابوري فألف له موضوعاً في العقيدة ، عكف عليها وصار
يلقنها أبناءه وكان مستشاريه من علماء عصره ، وكان كلما نزل بلداً دعا العلماء
فيها ، ومن كان من العلماء لا يأتي إلى أبواب السلاطين ، أخذ أولاده وذهب إليه
وكان يواظب على مجالس العلم والحديث ، حتى في ليالي القتال ولم يترك صلاة الليل
إلا نادراً وكان يلجأ إلى الله كلما دهمته
الشدائد وضاقت عليه السبل ، فيجد الفرج والنجاة وكان يقيم الحق ولا يبالي ، وكان
اعتماده على الله ، فما استكثر عدواً ولا خافه ، وكان متواضعاً وما غضب لنفسه قط ،
ولكنه إذا غضب لله لم يجرؤ أحد أن يرفع النظر إلى وجهه ، وكان محتسباً صابراً
حافظاً للأخبار والنوادر ، وكان معتلاً بدمامل ما تفارق نصفه الأدنى ، ومع ذلك
يركب الخيل ويصبر على الألم ويخوض المعارك .
واعتقد
أني ما قرأت في تاريخ الشرق والغرب جيشاً خاض من المعارك أكثر مما خاضه جيش صلاح
الدين فقد خاض أربعاً وسبعين معركة في مدة ولايته على الشام من تسع عشرة سنة .
حارب
أمراء الإسلام في الموصل وحماه وحلب وغيرهم ، وقد يقول السامع كيف حارب أمراء
الإسلام ؟
فعل
ذلك كالذي يريد أن يبني بيتاً جديداً بدل بيته الآيل للسقوط ، فلا بد من هدمه
وإزالة الخرائب .
خاض حروباً لا تقاس بها القادسية ولا
اليرموك جرّب في هذه الحروب كل سلاح السيف والرمح والدبابات والمنجنيق والكيد
والاختراع والشهامة والذكاء .
حروب
استعملت فيها المنجنيقات التي تقذف الصخور الهائلة ،كالمدافع الثقيلة اليوم
والسهام المتلاحقة كالرشاشات وكان يمهد للمعركة بآلاف القذائف ، والضرب الذي يستمر
يومين وثلاثا واستعمل الأكباش وهي عربات
ضخمة مصفحة لها رأس ثقيل ينقب الأسوار ، والدبابات ولا غرابة هذا هو اسمها القديم
، فقد صنع الإفرنج في حصار عكا ثلاث دبابات ثقيلة في كل واحدة أربع طبقات فكانت
أعلى من السور ، وحصنوها بالحديد والجلود المسقاة بمواد تمنع الحريق ، حتى لا تؤثر
فيها قذائف المسلمين ولا النار التي كانوا يلقونها ، مما أخاف المسلمين فقال لهم
صانع من دمشق وهو شيخ النحاسين ، أنا أصنع لكم ناراً تحرقها ، فاستمهل يومين صنع
أشياء خلطها ووضعها في قدور و ألقاها فانفجرت كالقنابل بمثل دوي الرعد ، و أحرقت
الدبابات وكبرّ المسلمون وكان يوم عظيم .
وأثناء
حصار عكا استعملوا الحيلة ، ففشلت كل محاولة لإمدادها بالأغذية ، وقد تطوع جماعة
من المسلمين فحلقوا لحاهم ولبسوا لباس الإفرنج وحملوا معهم الخنازير وركبوا زورقاً
ضخماً ، ودخلوها بحيلة من أعجب حيل الحروب كان يستغل كل قواه للحرب حتى اللصوص ،
فقد جمع اللصوص واستخدمهم في صنعتهم
فكانوا يسرقون له الأمراء والجنود من فرشهم بطرق عجيبة ، وكثيراً ما كانوا
ينتزعون الأمراء من تحت لحفهم ، والخناجر على أعناقهم والمخدر في أجسامهم ، فلم
يروا أنفسهم إلا أمام صلاح الدين . ويوم حطين اتبع تكتيكاً حربياً عجيباً ، حين
أجبر الإفرنج على ملاقاته في المكان الذي تخيره هو وتحصن فيه وقد استرد القدس
بعدما ملكها الإفرنج إحدى وتسعين سنة . مما لا يجعل مجالاً للشك أن نستردها ثانية
من اليهود لأن صلاح الدين استردها وكانت
كل دول أوروبا تدافع عنها وتحارب من أجلها ، فلم نستغرب استردادها من اليهود رغم
دعم الدول الكبرى لها فقد كان في الماضي خيانات ومؤامرات على فلسطين كالتي نشهدها
هذه الأيام فقد حالفت دمشق الصليبية ضد
عماد الدين كما حالفهم الحشاشون وغيرهم ، ورغم ذلك هزم الصليبيون ولم يبق لهم
سيطرة في بلاد المسلمين .
إن
الأمة التي أنجبت صلاح الدين وكان حالها أسوأ من حالنا اليوم ، وأشد انقساماً
وأكثر عيوباً ، لا تعجز عن أن تنجب اليوم مثل صلاح الدين . ن نكبة فلسطين
بالصليبية كانت أشد من نكبتها بإسرائيل
وإن الدماء التي أريقت أكثر بكثير ، وقد مرت بسلام الأمر الذي لا يدع مجالاً
للشك في أن المسلمين سينقذون فلسطين ويستردونها ، وإذا عجزنا اليوم عن ذلك فسيخرج
الله من أصلابنا من هم أنقى منا وأطهر ليستردوا فلسطين من أيدي الغاصبين . ويفعلوا
كما يفعل الغرب هذه الأيام ، فإن قادة النصر عندهم تتبدل بهم شعوبهم من تراه أفضل
لها ، أما في الشرق فإن قادة الهزيمة يبقون جاثمين على صدر الأمة حتى يوردوها
القبور ، وإني استغرب الصمت الذي يحف قتل المزيد من المسلمين في فلسطين ، ورغم أن
القتل جريمة شنعاء ، فإن هذا الصمت جريمة أشنع . وإن هذا يقع على عاتق الشعوب في
الدرجة الأولى لأنه من الصعب تغيير الشعوب
، أما تغيير الحكومات فإنه يقع ، وإن هذا التغيير بحاجة إلى رجال لا يخافون في
الله لومة لائم لا تخلع قلوبهم رهبة أو رغبة ، يمشون في الطريق الطويل الذي سار
فيه الأنبياء ، ولا يفكرون في انقلابات عسكرية أو ثورات مسلحة ، إنما يفكرون في
الإصلاح المتأني ، والتغيير الذي جزم القرآن بنتائجه عندما قال :)إن
الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم(
الرعد
11 .
وقد
يقول قائل : إن السلطات القائمة سوف تمنع تحقيق ذلك العمل ؟
نجيب
على ذلك بأن الأنبياء منعوا من قبل عند أداء رسالتهم ، لكنهم مضوا في الطريق
الطويل يتحملون التكذيب والتعويق قال تعالى :)ولقد
كُذِّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدِّل لكلمات الله (
الأنعام
34 .
نعم مضوا في طريق التوعية والتربية والتبصير
بالآخرة والإشراف على الحياة الدنيا ، حتى تخيرَّ الله لهم مكان النصر وزمانه وكان
ما قدر الله . اللهم يسِّر لهذه الأمة من يسير على نهجهم ، وطريقهم الذي سلكوه اللهم آمين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق