نرى كثيراً من الناس
، إذا ما تقدم به السن ، وشاب عارضاه ، يحمد الله على دين الإسلام ، ويدعوا الله
أن يحييه ويميته على الإيمان ، وقد يجهل حقيقة ما يطلب ، وقد يكون بعيداً عن جوهر
الإيمان ، والطريق الموصلة إليه ، ذلك أن الإيمان ، ليس شيئاً مادياً ، يرى بالعين
، أو يلمس بالحواس ، إنما هو أمرٌ معنوي ، يجد المسلم حلاوته في قلبه ، وتنعكسُ
آثاره على أقواله وأفعاله .
فما هو مفهوم الإيمان
وما معناه ؟
حتى ندرك معنى
الإيمان ، لا بد من معرفة معنى الإسلام ، الذي هو الانقياد لأوامر الله تعالى ، من
الشهادة ، والصلاة والزكاة والصوم والحج . أما معنى الإيمان : فإنه التصديق القلبي
بالله تعالى ، وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره .
إن هناك فرقاً بين
الإسلام والإيمان ، إذ الإسلام حكم على ظاهر الأعمال والأقوال ، من حيث الانقياد
لأوامر الله تعالى ، بإتيان الأركان الخمسة . أما الإيمان فإنه حكمٌ على بواطن
الأعمال ، من حيث المشاعر القلبية ، بالموافقة لما دعا الشارع الى الإيمان به ،قال
رسول الله ( ص ) : ( الإسلام علانية والإيمان في القلب ، التقوى في القلب ، وأشار
بيده الى صدره ) رواه أحمد والنسائي ،
إنه ليس مجرد إعلان المرء بلسانه أنه مؤمن ، فما أكثر المنافقين الذين
قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وليس هو مجرد قيام الإنسان بأعمال ، وشعائر
أُعتيد أن يقوم بها ، فما أكثر من يتظاهرون بالصالحات وشعائر التعبد ، وقلوبهم
خراب من الخير والإخلاص لله ، كما أنه ليس مجرد عمل لساني ، ولا عمل بدني ، أو
معرفة ذهنية بحقائق الإيمان ، فكم من قومٍ عرفوا ذلك ولم يؤمنوا .
أتى بعض الأعراب الى
رسول الله ﷺ واعتنقوا الإسلام ، وانقادوا لأوامره في شهادة أن لا إله إلا الله
، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وايتاء الزكاة ، والحج وصوم رمضان ، ثم
قالوا إننا مؤمنون . فنزل قوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا ، قل لم تؤمنوا ، ولكن
قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم }الحجرات 14 .
إن الإيمان كلمةٌ
جامعةٌ تشملُ كل العقائد الصحيحة ، التي جاء بها رسلُ الله ، تصديقٌ بالقلب ،
وإقرارٌ باللسان ، وثقةٌ بتدبيره في رحمته وعدله ، إنه استعلاء على جميع القيم
المنبثقة من أصلٍ غير أصل الإيمان ، استعلاء على قوى الأرض ، الحائدة عن منهج
الإيمان ، والتي لم تنبثق عن أصله ، ولم يشرعها ، استعلاء لا يتهاوى أمام قوى البغي
، لأنه قائمٌ على الحق الباقي وراء منطق القوة ، وموصولٌ بالله الحي الذي لا يموت
إن المؤمن هو الذي تعلَّق قلبه بالله ، دائم الذكر له في جميع أحواله ، مراقب
لعظمتة ، لا يتجرأُ على معصيته وما عصى من
عصى إلا بسبب غفلته ، وغياب الإيمان عن قلبه ، قال عليه السلام :
( لا يزني الزاني حين
يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها
وهو مؤمن ) رواه البخاري ومسلم . فحين
يشرب الحمر أو يزني ، تكون عنده لحظة غفلة ، إنه يستحضر المعصية فقط بشهوتها ، وغافلٌ
عن عقابها ، أما لو استحضر العقوبة أمام المعصية ، فإنه لن يرضى أن يرتكبها .
وحتى ينجو المؤمن من
الوقوع في المعصية ، عليه أن يداوم على الذكر ، لأنه عنصرٌ أساسيٌ في تكوين إيمان
المؤمن ، فإذا غفل عنه غاب الإيمان ، وفي غيابه يقع الإنسان في المعاصي ، من أجل
ذلك حث الإسلام على ذكر الله ، قال عليه السلام : ( ما جلس قوم يذكرون الله تعالى
، إلا ناداهم منادٍ من السماء : قوموا مغفوراً لكم ) رواه أحمد .
إن المؤمن يخاف من
الله ، ويبكي من خشية الله ، كما أخبر رسول الله ﷺ : ( عينان لا تمسهما النار
: عينٌ بكت من خشية الله ، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذي.
وإن المؤمن يحب الله
ورسوله ، أكثر من حبه لأهله وماله وولده ، قال عليه السلام : ( والله لا يكون
أحدكم مؤمناً ،حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ) المستدرك . وهذا ما انعكس أثره
على أصحاب رسول الله ﷺ ، يحدثنا التاريخ أن سيدنا أبا بكر ، كان مع رسول الله ﷺ في معركة بدر ، وابنه كان ما يزال مع الكفار ، يقول ابن أبي بكر : يا أبي
لقد رأيتك في المعركة ، فلويت وجهي عنك ، فيقول أبو بكر : والله لو رأيتك لقتلتك .
لماذا ؟ لأن أمام بكرٍ عقيدة حق ، أعزُّ عليه من ابنه
انظروا كيف فعل
الإيمان في النفس ، فالعزاء للإنسان في كل أحداث الحياة ، أن يكون له إيمان .
ومن كمال الإيمان أن يحب المرء للناس ، ما يحبه
لنفسه من الخير ، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه ، قال عليه السلام : ( أفضل الإيمان أن
تُحب لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله ، وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما
تكره لنفسك ، وأن تقول خيراً أو تصمت ) الطبراني في الكبير .
إن الإيمان لا يكفي
فيه الاعتقاد ، ولا يكفي فيه الادعاء بالأقوال ، بل لا بد من العمل فقد روى
الطبراني أن رسول الله ﷺ قال : ( الإيمان معرفةٌ بالقلب ، وقولٌ باللسان ،
وعملٌ بالأركان )
وإن الانشراح للأعمال
الصالحة ، علامةٌ على إيمان المؤمن ، قال عليه السلام ( إذا سرتك حسنتك ، وساءتك
سيئتك فأنت مؤمن ) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه .
إن الإيمان بالله ليس
لعبةً سياسية ، أو تشريعاً استثنائياً ، إنه الحقيقة التي ضل عنها الغافلون ، أو
المستغلون ، إنه الحق الذي ينتظم العقائد والعبادات ، والأخلاق والآداب وسائر
المعاملات ، والإيمان بهذا المعنى هو الذي أراده الإسلام ، وهو الذي زكّى نفوس
المسلمين الأولين ، وطهرها من الحقد والحسد ، والكبر والعجب ، والفسق والفحش ،
والظلم والجور ، والقسوة والغلظة ، وهو الذي وطن أنفسهم على إمامة البشر ، وقيادة
الأمم ، وتحريرها من الخرافات ، واستبداد الملوك ، وتطهير الأرض من الكفر والفساد
.
هذا الإيمان هو الذي
مكن لهم الفتح والظفر ، والعلم والعمل ، وإقامة الحضارة التي شع نورها ، وعم خيرها
مشارق الأرض ومغاربها . أعجبني ما قاله سيد قطب بخصوص استعلاء المؤمن بالإيمان ،
قال : إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته من الناس ، حتى يأسى على تقدير الناس ،
إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه .. إنه لا يستمدها من شهوات الخلق ،
إنما يستمدها من ميزان الحق الثابت ، الذي لا يتأرجح ولا يميل .. إنه لا يتلقاها
من هذا العالم الفاني المحدود ، إنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود .. فأنى يجد
في نفسه وهنا ، أو يجد في قلبه حزنا ، وهو موصولٌ برب الناس وميزان الحق وينابيع
الوجود . إنه على الحق .. فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه ،
ولتكن معه جموعه ، فذلك لا يُغَيِرُ من الحق شيئا ، إنه على الحق ، وليس بعد الحق
إلا الضلال ولن يختار مؤمن الضلال على الحق ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق