الثلاثاء، 28 أكتوبر 2014

وداع رمضان



إنّ قلب المؤمن الصّائم ليتحسّر على توديع شهر  رمضان ، ورد عن عليّ بن أبي طالب أنّه كان يُنادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من المقبول فنهنّئه، ومَن المحروم فنُعَزِّيه.  
وكان بعض السّلف يظهر عليه الحزن يوم الفطر فيُقال له: إنّه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم لكنّي عبدٌ أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبَلُه منّي أم لا؟! لذا كان العارفون يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثمّ يهتمّون بعد ذلك بقَبوله، ويخافون من رَدِّه وهؤلاء الّذين قال فيهم تعالى: ﴿ يُوتُون مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾المؤمنون60، وعن فُضالة بن عبيد قال: لأَن أكون أعلَم أنّ الله تقبّل منّي حبّة من خردل أحبَّ إليَّ من الدنيا وما فيها، لأنّ الله تعالى يقول: ﴿ إنّما يتقبّل اللهُ من المُتّقين ﴾المائدة 38 . لقد كان بعض السّلف يدعون الله ستة أشهر أن يُبلّغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبّله منهم وكما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والحافظ أبو عيسى الترمذي في جامعه والحافظ ابن حبّان في صحيحه عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله إنّك صعدت المنبر فقلت آمين آمين، فقال إنّ جبريل عليه السّلام أتاني فقال: مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فدخل النّار ) وكما جاء في الحديث الّذي رواه ابن خُزيمة في صحيحه: ( شهر رمضان شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار ) .
وإنّما يكون يوم الفطر من رمضان عيدًا لجميع الأمّة لأنّه تعتق فيه أهل الكبائر من الصّائمين من النّار، فيلتحق المذنبون بالأبرار .  
ها نحن نودعه كما استقبلناه بالأمس، والسؤال هنا هل صمناه حق الصيام ؟ وهل قمناه حق القيام ؟ وهل فعلنا فيه ما يستوجب المغفرة والرضوان ؟ وهل نحن من الذين رغمت أنوفهم أم من الذين سعدوا في رمضان ؟ أم نحن من الذي غرّهم طول الأمل ؟  
يا من بدنياه اشتغل      وغره طول الأمل
الموت يأتي بغتة        والقبر صندوق العمل
أم ممن أحسنوا :
غدا توفي النفوس ما كسبت  ويحصد الزارعون ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم  وإن أساءوا فبئس ما صنعوا
يقول النبي g : (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ) الترمذي وأحمد .
هنيئا لمن أكرمك يا رمضان ، ويا خسارة من فرط في إكرامك ، وارتحلت ولم يغفر له ، كان سلف الأمة إذا شارف رمضان على الانقضاء حزنوا وبكوا ، كيف لا ؟ وقد كان لهم أنساً ومغنما ، علموا ما في رمضان فتمنوا السنة كلها رمضان ، وكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يقبله منهم ، لأنه شهر القبول والغفران ، فرمضان للمتقين روضة وأنسا ، وللغافلين قيدا وحبسا   إنه نزهةً للأبرار وقيداً للأشرار ، وطوبى لمن حل فيه عقدة الإصرار ، ونزل في روضه التقوى   وختمه بالذكر والاستغفار ، لعله يمحو الذنوب والأوزار ، فاجتهدوا في باقيه ، وتلافوا تفريطكم ما أمكن تلافيه .
والى كل من عزم على هجران الطاعات بعد رمضان أقول : إن ربّ رمضان هو رب الشهور  
والعاقل من اتخذها مزرعة للآخرة ، إنها ساعات العد الأخير لرمضان ، الذي كان فرصةً لفعل الخير ، التي أضاعها الكثيرون ، لغفلتهم وتقصيرهم . أما الذين استقبلوه ولسان حالهم
 وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعْمال
فقد أقبلوا عليه بقلوب سليمة ، ونفوس طاهرة  وأرواح صافية ، وتقوى كاملة , ويقين تام بأن الله يتجلى في هذا الشهر على عباده ، ليطهرهم من الرذيلة ، ويضاعف لهم الحسنات ، ويمحو السيئات ، إنه فرصه لأن يتوب العاصون   ويهتدىَ الضالون ، ويتذكر الغافلون .
 لقد قارب رمضان على الانتهاء ، وفريق من الناس ، ساهون لاهون ، ما أدوا لله حقا  , ولا فعلوا فيه واجبا , تخاذلوا عن العبادة والطاعة   ولم يكن لرمضان عندهم خصوصية ، إلا الإسراف في النوم والسهر ، والمبالغة في الطعام والشراب ، والتطرف في الشهوات والملذات .
  كان رمضان عند السلف تزكية للنفوس  وتطهيراً للقلوب ، وتهذيباً للأخلاق  أما اليوم فقد جاء رمضان ، وهم على حالهم ، من خلاعة ومجون ، وتهتك واستهتار لحرمة هذا الشهر وآداب الدين ، يتخبطون في جهالتهم  ويسرحون ويمرحون في دنياهم ، حتى ماتت ضمائرهم   ومرضت نفوسهم ، وضعف وازع الدين عندهم  
فأصبح رمضان بالنسبة لهم ، جوعٌ وعطش  ونوم وسهر ، وإغراق في الترف والملذات ، مع أنه شهر الجهاد والقرآن ، والعطاء والبر والإحسان   
رمضان الطاعة والعبادة ، والصلاة والتسبيح  والمسارعة إلى الخيرات ، والذكر والدعاء    والقيام والاستغفار ، والتراحم والعطاء ، والتزاور التآلف ، ربيع  المؤمنين ، ومرتع الصالحين ، تُبنى فيه الضمائر ، وتُربى فيه العزائم والنفوس   ويُطلب من الناس أن يقلعوا عن أهوائهم وشهواتهم ، ويرجعوا عن غيّهم وضلالهم  ويبتعدوا عن كل منكر وقبيح ، ويمدوا أيديهم إلى الله ، يسألونه الصفح والغفران ، ويتقربوا فيه إلى الله بالصدق والإخلاص ، ويتحببوا إليه بالطاعة  ويتوددوا إليه بكل برٍّ وإحسان .
 ألا ليت الناس في رمضان ، يملأوا قلوبهم بمحبة الله  ويتفانوا في طلب رحمته ورضاه ، ليتهم يعملوا  على تطبيق منهج الله ، ليفوزوا بمغفرة الله ورضوانه .
أما الذين اتخذوا من رمضان موسماً للمآكل والمشارب   واللهو والسمر ، والطرب والمجون ، يحيون لياليه باستماع الأغاني المبتذلة ، ومشاهدة الرقص الخليع  يجعلون من شهر العبادة ، شهر مرح وطرب ، ثم يدَّعون  أنهم صائمون  وبواجبات هذا الشهر قائمون  والله يعلم انهم لكاذبون .
 إن الصوم فرض على الأمة ، التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله ، من أجل تقرير منهج الله في الأرض ، وللقوامة على البشرية ، وللشهادة على الناس ، لأن في الصوم مجال تقرير الإرادة الجازمة واتصال الإنسان بربه ، اتصال طاعةٍ وانقياد    لأن غاية الصوم إعداد القلوب للتقوى ، حتى  تُؤدّى هذه الفريضة ، طاعة لله ، وحتى تحمي القلوب ، من إفساد الصوم بالمعصية . وليعلم المسلمون أن هذا الشهر ، شهر قبول التوبة والإنابة وإنها لفرصة لمن أقبلوا على الطاعة  ولزموا المساجد والجماعة ، ألا يعودوا  لما نُهوا عنه   حتى لا يكونوا ممن قال الله فيهم : ﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾ البقرة 16 ، صَعَدَ رسولُ الله g  المنبر فقال ( قولوا آمين  فسُئلَ عن ذلك فقال : إن جبريل أتاني فقال  : من أدرك شهر رمضان   ولم يُغْفَرْ له فيه  فأبَعَدَهُ الله ، قل آمين . فقلت آمين .
ودعوا شهركم بالطاعة ولا تغفلوا عن تلك البضاعة فإنما الأعمال بخواتيمها لا تودعوها باللهو والغفلة فتختموا ملفكم بعمل غير مقبول بل أغلقوا دوسيه رمضان وملف الصيام بعمل مقبول حتى يتنزل الله لكم بالقبول التام والنور العام والجزاء الذي لا يعرف مداه إلا الله فإنه يطلع بنفسه على ملفات الصائمين ويحدد الأجر بنفسه على حسب تقوى المؤمنين ويقول سبحانه : (كُلٌ عَمَلِ ابنِ آدَم لَهُ إلاَّ الصيامَ فَإنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) هو الذي يضع لكل صائم جزاءه وهو الذي يحدد له مكافآته وهو الذي يتحفه بوسام من الأوسمة الإلهية على حسب تقواه وطاعته له    اللهم تقبل منا الطاعات . 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق