لقد ارتبط شهر رمضان
بالجهاد ، فكما أن رمضان يعد النفس على الصبر والتحمل ، فإن الجهاد هو إعداد
للنفس، وإعداد للجسد، بل إعداد للأمة كلها ، والتاريخ الإسلامي يؤكد هذا الارتباط
، لأن أكثر المعارك التي انتصر فيها المسلمون ، والتي غيرت مجرى التاريخ ، كانت في
رمضان ، وغزوة بدر أول غزوة في هذا الشهر
فكانت رسمًا لسياسة الأمة وتخطيطًا لمستقبلها قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ
بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾آل عمران 123. فبعد بدر أصبحت للمسلمين دولة معترف
بها، وأصبحت لهم مكانة وقوة ، فقد غيَّرت مجرى التاريخ؛ لذلك سماها ربنا عز وجل
يوم الفرقان، وربطها بشهر رمضان ، في بدر عرف المسلمون أن النصر من عند الله ،
وليس بالعدد ولا العدة قال تعالى: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال10.
وإلا كيف يمكن للعدد
القليل في كل المقاييس المادية أن يغلب العدد الكبير في بدر ؟! ليس له إلا تفسير واحد،
ألا وهو أن الله عز وجل هو الذي نصر المؤمنين، نصر الضعفاء القلَّة الأذلة؛ كما ذكرت
الآية ، انتصروا بأسلحة غير تقليدية انتصروا
بالمطر والنعاس، وبالرعب في قلوب الكافرين،انتصروا بالملائكة التي حاربت مع
المؤمنين في بدر : ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ الأنفال10 ﴿ وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾الأنفال17.
فشهر رمضان شهر إعزاز
الإسلام، وتمكين الدين ونصر المؤمنين، ولا يجوز للمسلمين أن يتجاهلوا هذه المعاني،
ويظنون أنه شهر الأعمال الفنية الجديدة، والفوازير ، والدورات الرياضية والخيم
الرمضانية، لأن ما يهم المسلمين في هذا الشهر هو الإقتداء
بتلك النماذج الفذة التي طابت نفوسهم بما كانوا يلقونه في سبيل الله أملاً في
مغفرته ، وطمعاً في نصره ، وكيف كانوا في تضحياتهم وثباتهم واستبسالهم وتمسكهم
بعقيدتهم إذ كانوا المثل الصادق الذي أثار إعجاب كل من قرأ سيرتهم ، والتي تعتبر
من الدروس الشيقة التي تنير لنا سبيل السعادة والهداية .
ففي بدر ، التقى الظلام بالنور ، والكفر
بالإيمان والباطل بالحق ، لا بل التقت
الجاهلية بالإسلام فجاء الحق وزهق الباطل
إن الباطل كان زهوقا . فقد كانت بدر من المعارك الحاسمة في تاريخ الإسلام ، حيث
انتصرت العقيدة السليمة ، على العقيدة الفاسدة
بل إن العقيدة وحدها ، كانت هي السلاح الأول والأخير للمنتصرين ، فقد كان
المشركون أكثر عدداً وعدَّة ، مما يدل على أنه كان انتصار عقيدة لا مراء في ذلك .
فكيف
كان انتصار المسلمين ؟ كان رسول الله g
مثالاً في التضحية والفداء لأصحابه ، كان المسلمون يوم بدر كل ثلاثة على بعير ،
فإذا جاء دور الرسول g
قال له صاحباه : "اركب حتى نمشي عنك " فيقول : (ما أنتما بأقوى على المشي مني ، وما أنا بأغنى
عن الأجر منكما ) .
كان
رسول الله g
يضرب بنفسه لأصحابه في الشجاعة والإقدام أروع الأمثال . قال علي بن أبي طالب رضي
الله عنه : " لما كان يوم بدر وحضر
البأس ، اتقينا برسول الله g
وكان
من أشدِّ الناس بأسا ، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه "
وقد
كره أن يكون أول النـزال من الأنصار وأحب
أن تكون الشوكة ببني عمه وقومه فقال عليه السلام : ( يا بني هاشم قوموا قاتلوا
بحقكم الذي بعث الله به نبيكم ، إذ جاؤوكم بباطلهم ليطفئوا نور الله ) .
لم
يستأثر بالدعة والأمن ، ولم يتفاخر بنسبه ومنـزلته ، بل قاتل أمام المقاتلين من
أصحابه ولم يؤثر ذوي قرباه بالراحة
والاطمئنان ، بل آثرهم بالنـزال والطعان ، فلما انتصر المسلمون كان نصيبه نصيب
أحدهم من الغنائم . لقد كان أسوة حسنة لأصحابه بأعماله لا بأقواله ، وشتان بين
الأعمال والأقوال ، فلا موعظة في كلام ،لم يمتلئ من نفس صاحبه ، ليكون عملا ولا
يبقى كلاما , ذلك هو الرسول g
، أما جنوده فكان أمرهم كله عجبا . في الطريق إلى بدر هتف متكلم المهاجرين :
" والذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك حتى تنتهي إليه
" ، وهتف متكلم الأنصار : " فا مض يا نبي الله لما أردت ، فوالذي بعثك
بالحق ، لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما بقي منا رجل واحد " .
في
هذه المعركة التقى الأباء بالأبناء ، والأخوة بالأخوة ، خالفت بينهم المبادئ ،
ففصلت بينهم السيوف ، فهذا أبو بكر يلتقي بابنه ، وكان ما يزال مع الكفار ، يقول
أبن أبي بكر : " يا أبي رأيتك في المعركة ، فلويت وجهي عنك " فيقول أبو
بكر : " والله لو رأيتك لقتلتك " لماذا ؟ لأن أمام أبي بكر عقيدة حق ،
أعز عليه من ابنه .
إن
ما حدث في معركة بدر ، رد على دعاة القومية ، الذين يزعمون زوراً وكذباً ، أن
رابطة الدم واللغة ، أقوى من رابطة العقيدة والدين . فقد كان أول وقود اشتعلت به
معركة بدر الفاصلة ، هو دم الأقربين ، الذي أسالته سيوف الأسرة الواحدة . فهل أسال
حمزة وعبيده وعلي أبناء هاشم بن عبد مناف
، دماء إخوانهم شيبه وعتبة والوليد ، أبناء عبد شمس ابن مناف .. فهل أسالوا تلك
الدماء القريبة إليهم والغالية عليهم على
مذبح القومية والعنصرية ؟ أم أسالوها في سبيل العقيدة والدين ؟ إنه صراع المبادئ
والعقائد لا صراع القوميات والنعرات .
لقد
رسم يوم بدر ، أروع نموذج حيٍ للثبات الصادق على العقيدة ، فقد آخى الإسلام في هذه
المعركة بين الأبعدين ، وباعد الكفر بين الأشقاء والأقربين . فقد تسابق المسلمون
إلى الشهادة وكان كل واحد منهم يتمنى أن
يموت قبل صاحبه وكان كل واحد من المشركين
، يتمنى أن يموت صاحبه قبله ، وكان الشهيد يردد وهو يحتضر: "وعجلت إليك ربي
لترضى " .
هكذا
كان جنود رسول الله g
يؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة ، ويؤثرون عقيدتهم على آبائهم وأبنائهم ،
وإخوانهم وعشيرتهم ، بل يؤثرون عقيدتهم على أنفسهم فيتسابقون إلى الشهادة ، فيقول أحدهم للآخر :
" هنيئاً لك الشهادة " وتقول الأمهات والأخوات والزوجات حين يعلمن
باستشهاد ذويهن : " الحمد لله الذي أكرمهم بالشهادة " .
لقد
كانوا قادة وجنوداً ، يبنون للمستقبل
فيعتبرون العلم فريضة لا نافلة ، ويعتبرونه عبادة لا تجارة وغاية لا وسيلة . كانوا يبنون ولا يهدمون ،
ويعمِّرون ولا يخرِّبون ، ويفعلون ولا يقولون .
كان
انتصار المسلمين في بدر ، إيذاناً بميلاد دولة الإسلام عملياً ، فقاد المسلمون
بعدها العالم إلى الخير والصلاح ، والمدنية والنور قروناً طويلة .
كان
انتصارهم بالإسلام ، ولن يكون هناك نصرٌ بغيره ، وتاريخ المسلمين خير دليل على ذلك
.
كانوا
ضعفاء فأصبحوا بالإسلام أقوياء ، وكانوا أعداء فأصبحوا اخوة ، وكانوا مستعبدين
فأصبحوا فاتحين ، ثم خلف من بعده خلف
ابتعدوا عن الدين ، فأصبحوا مستعمرين مستعبدين ، يستوردون المبادئ من الشرق
والغرب مبهورين متخاذلين ، يسيرون على خطى الغرب في إشاعة الفحشاء والمنكر ،
وإبعاد الدين عن الحياة ، بهدف إبعاد المسلمين عن الناحية المعنوية في حياتهم .
زعم
المسلمون هذه الأيام ، أنهم تحرروا من استعمار الأعداء ، لكنهم عملوا على ترسيخ
فكرهم ، والعمل بقوانينهم نصاً وروحاً ، وادعوا بأنهم تخلصوا من الاستعمار ، ثم
استوردوا مبادئه وطبقوها كما استوردوا منه التحلل الخلقي الذي ساهم في إفساد أبناء المسلمين .
إننا سدنا بالإسلام عقيدةً وعملاً وتضحيةً
وفداء ولن نسود بغيره أبدا ، وإن الإسلام
مفخرة الدنيا ومعجزة العالم ، فيجب أن نهاجم به أعداء الإسلام ، ولا يقولنَّ قائلٌ
بأن الإسلام ضعيف ولا حيلة له أمام ما نرى من قوة الأعداء ، لا يا مَنْ تقولوا ذلك
، لأن الإسلام أقوى منهم بالله ولأن الله يدافع عن الذين آمنوا . ومعركة بدر خير
شاهد على ذلك ، فقد كانت قصة نصرٍ حاسم
قصةُ فرقان بين الحق والباطل ، قصةُ انتصار الحق على أعدائه المدججين
بالسلاح المزودين بكل زاد ، في مقابل قلة
العدد ، وضعفٍ في الزاد والراحلة ، إنها قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله ، بل
قصة انتصار القلة المؤمنة ، التي انتصرت على نفسها ، وانتصرت على من حولها وخاضت المعركة ، والكفة راجحة إلى جانب الباطل
، فقلبت بيقينها الميزان ، فإذا الحق راجح غالب . إن معركة بدر تقرر دستور النصر
والهزيمة وتكشف عن أسباب النصر والهزيمة ،
إنها كتابٌ مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان ومكان
إنها آية من آيات الله ، وسنةٌ من سننه الماضية في خلقه ، ما دامت السماوات
والأرض ، كما تقرر أن العقيدة الصادقة ، هي مصدر القوة لكل أمه .
فهل آن لنا نعتبر
ونتذكر ﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق