السبت، 25 أكتوبر 2014

التوبه

                        التوبه
إن الاسلام يعترف للفرد  بدوافع الخطأ والخطيئه ،فأما الخطا والنسيان ، وما يقع عن إكراه ، فمعفيان من المؤاخذه ، لقوله : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .وأما الذنب والخطيئه ، فباب التوبة مفتوح في كل لحظه ، فإذا ما أخطا العبد ، فإن رحمة الله تمنحه البر والعافيه والمغفِرةَ ، قال تعالى : ] قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم [ فليتوجه الانسان المخطىء الى ربه ، حتى يفتح له بابه ، ويتقبله بين عباده ، ويمنحه رحمته وعفوه ، وليطرق بابه كل مُسيء ،وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى :{ ولا تيأسوا من روح الله  إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون }  ويذهب الاسلام في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه المرء عند النظرة السريعه ، يُزيِنُ للناس  الخطيئه ليتوبوا منها  قال ( ص ) : (( كلُّ بني آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون ))  وقال : (( والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون ويستغرون فيغفر لهم )) رواه مسلم . فهو لا يُزيَنُ الخطيئة هنا ، ولكن يُيَسِرُ التوبة ، فما هي التوبه ، لقد ذكرها الله وحض عليها في آياتٍ كثيرةٍ  فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا توبوا الى  الله توبةً نصوحا }    دلت الآيه على أن التوبة النصوح مطلوبه ، وهي كما عرَّفها عمر ابن الخطاب . أن يتوب العبد من الذنب ، ثم لا يعود اليه ، كما لا يعود اللبن الى الضرع .  وقال تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهاله  } لقد اختلف في وجوب التوبه ، فمن قال بأن الله أوجب التوبة ، على من أذنب من عباده ، استدل بهذه الآيات . ومن قال بأن التوبة لا تحتاج الى دليل ، على اعتبار أن التوبة من القضايا التي تحمل دليلها معها ، فكل إنسان يدرك بفطرته ، أن على المسيء أن يعتذر عن اساءته ، ويطلب الصفح ممن أساء اليه .  وإن من أذنب ولم يتب فقد أساء مرتين ، مرَّةً على فعل الذنب ، ومرَّةً على ترك التوبه  وأسوأ حالاً ممن ترك التوبة ، من فسخها وعاد الى الذنب ، بعد أن عاهد الله على الوفاء بالطاعه  والامتثال . لقوله تعالى:{ عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقمُ الله منه ، والله عزيز ذو انتقام }  قال رسول الله ( ص ) : (( المقيمُ على الذنب ، وهو مُستغفِرٌ منه ، كالمُستَهزِء )) أما الاستغفار الذي لايرافقه إصرار فهو كالتوبه قال تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشةً أم ظلموا أنفسهم ذكروا الله ، فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ، ولم يُصِروا على ما فعلوا وهم يعلمون } . مع أن الفاحشة ، من أبشع الذنوب وأكبرها ، إلا أن مرتكبها لا يطرد من  رحمة الله ، وباب التوبة مفتوح ما دام يذكر الله ويستغفِرْه ولا ينساه ، ولا يُصِرُعلى الخطيئه .قال رسول الله( ص ):(( ما أصر من أستغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مره . )) إن الاستغفار كالتوبه ، بل هو التوبة بعينها ، مع تضمنه طلب المغفرة من الله ، وهو محو الذنب ، وإزالة أثره ، ووقايةُ شرّه . والدليل على أن الاستغفار كالتوبه . قوله تعالى :{ وأستغفروا ربكم ثم توبوا اليه } أما ما يطلب من المذنب عمله عند التوبه ؟  أن يندم على ما كان منه ، ويطلب من الله العفو والمغفِرة ، ولا يعود الى الذنب ثانية ، وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس ورد ظلامتهم ، فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن أساء طلب السماحة ، ثم يبدأ بقضاء ما فاته من الفرئض .  والتوبة تكون إما عن الكبائر كلها أو عن بعضها ، بخلاف الصغائر لأنها أقرب الى تطرق العفو اليها .  أما من تعذَّرَ عليه أداءُ الحق المترتب عليه ، فإن كان في حق الله ، كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفه ، وقضاء الفرائض المتروكه ، باتفاق الأئمه . وأما حقوق العباد  فإن كانت أموالاً ردها الى أصحابها ، فإن تعذَّر ذلك ، تصدق بتلك ألأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب ، يُخيروا بين أن تكون لهم أجورها ، أو يأخذوا من حسنات التائب بقدر أموالهم . لما روى عن ابن مسعود أنه اشترى من رجل جاريه ، ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجاريه ، فانتظره حتى يئس من عودته ، فتصدق بالثمن ، وقال : اللهم هذا عن رب الجاريه ، فإن رضي فألاجر له ، وإن أبى فالاجر لي ، وله من حسناتي بقدره . وكدلك حكم اللقطه . وأما توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام ، وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر الحرام ، ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة ، تأتي على كل ذنب  .  لحديث رسول الله   فيما يرويه عن ربه  (( ابن آدم لو لقيتني بقراب ألأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة )) أما هل تصح توبة العاجز عن إقترف الذنب ؟  لا تصح ، لأن التوبة عباره عن ندم ، يبعثُ العزم على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا يقدر على فعله ، إنعدم بنفسه لا بتركه إياه .  أما أقسام العباد في التوبه  .. من الناس من يستقيم على التوبة الى آخر العمر ، ولا يُحدِّثُ نفسهُ بالعودة الى ذنوبه ، وهذه هي التوبة النصوح ، ومن الناس من سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات ، وترك كبائر الفواحش كلها ، إلا أنه يُذْنِبُ ذنوباً ، لا عن قصد ، وإنما يبتلى بها دون عزم ، لكنه يلوم نفسه ، ويُجدد العزم على عدم الاقدام عليها ، وهذه هي النفس اللوامه ، لها حُسْنُ الوعد من الله ، لقوله سبحانه { الذين يجتنبون كبائر ألإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفره }  وهناك فريقٌ من الناس ، يستمر على الاستقامة مده ، ثم تغلبه الشهوات في بعض الذنوب ، فيُقْدِمُ عليها عن شهوة وقصد ، إلا أنه مواظبٌ على الطاعات ، وتاركٌ لجملةٍ من الذنوب ، مع القدرة على فعلها ،  هؤلاء من  الذين قال الله فيهم { وآخرون إعْتَرَفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئا } وفريقٌ آخر يتوب ثم يعود الى ارتكاب الذنوب ، من غير أن يُحدِّثَ نفسه بالتوبه ، أو يتأسف على فعله ، هذه هي النفوس الأمّاره بالسؤ ، الفرّاره من الخير ، وهذه هي النفوس التي يُخافُ عليها من سؤ الخاتمه . لأن ألأعمال كما أخبر الرسول عليه السلام بخواتيمها . وإياك يا أخي المسلم أن تكون من المسوفين ، فقد روي عن ابن عباس أن النبي قال : هلك المسوفون ، والمسوف من يقول : سوف أتوب ، وقال التائب من الذنب كمن لا ذنب له .‏




   التـوبة                    
قال تعالى :} وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون{ .
التوبة رجوعٌ إلى الله بسبب المعاصي والذنوب أو المخالفات والتقصيرات ،  والله يحب التوبة من عباده ويفرح لها .
 روى البخاري ومسلم أن رسول الله ( ص ) قال : ( لله افرح بتوبة عبده المؤمن ، من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في فلاة ) .
وإطلاق الفرح في حق الله مجازُ عن رضاه ، وقد شُرعت التوبة وقايةً للمجتمع من الأذى والشرِّ    فلو كان الذنب الواحد يُخَلِّدُ في النار ولا توبة بعده ، لتجبر العصاة وازدادوا شرّا .. ولأُصيب المجتمع كله بشرورهم ، وليئس الناس من آخرتهم  لذا جاءت الدعوة من الله ، ألاّ نيأس من رحمته فقال سبحانه :{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم } الزمر 53 .           
 لذا شرع الله لنا التوبة ، ليرحمنا من الأذى والمعصية . قال تعالى :{إنما التوبة للذين يعملون                                                 السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}النساء 17 .
والسوء : هو الأمر المنهي عنه من الله ، والمقصود من قوله بجهالة ، لا كما يفهم البعض أنها عدم العلم ، فالجهالة غير الجهل ، وقد عرَّفوا الجهل بأن يعلم الإنسان حكماً ضد الواقع ، كأن يكون                                           مؤمناً بعقيدةٍ تخالف الواقع ، وأما الجهالة فقد قال                                                           العلماء : بأنها السفه والطيش ، والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل ، والسفه ألا يقدِّر الإنسان قيمة ما يفوته من ثواب ، وما يلحقه من عقاب  وقد يكون الإنسان مؤمناً ، لكنه يرتكب السوء  لأنه لم يستحضر الثواب والعقاب ، ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة ، دون التفكر في النتائج مستقبلاً ، ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء . ويمكن أن نفهم أيضاً الجهالة  على أنها ارتكاب الأمر السيئ ، دون أن يبيت له الإنسان أو يخطط ، ويظل نادماً ويُعذِّب نفسه  أما من يخطط لفعل المنكر ، وارتكاب الفحشاء  ويصرُّ على السوء ، ويتفاخر ولا يندم على ما فعل ، فهذا لا يغفر الله له إن استمر على حاله حتى شارف على الموت ، وقد نبه الرسول ( ص)  إلى ذلك بقوله :(إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه أحمد والترمذي ، وفي هذا يقول الله سبحانه :{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت فال إني تبت الآن}النساء 18 .
وعلى المسلم أن يجتنب التسويف في التوبة ، ففي الخبر: ( هلك المسوفون ) ،  وإذا كانت التوبة واجبة ، كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً  فمعرفة الذنوب واجبة ، والذنب : عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل  والذنوب صغائر وكبائر ، بدليل قوله تعالى : {إن تتجنبوا كبائر ما تتهون عنه نُكَفِّر عنكم سيئاتكم }النساء 31 . وقوله تعالى :{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}النجم 23 .
ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه   ويقول هذه صغيرة وتلك صغيرة ، لأن الصغيرة بالإصرار والمواظبة تكبر ، ففي الحديث أن رسول الله  (ص)  قال : ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ) ، أخرجه الطبراني ورواه البيهقي .
 وحين ننظر إلى قوله تعالى :  {والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم } آل عمران 135 . نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه  لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة ، وأبقى على نفسه عذاباً خالدا . أما لماذا لم يقل الله الذين ظلموا أنفسهم فقط ؟ أي العطف ب-الواو لا ب-أو ، ذلك لأن الله يريد أن يوضِّح لنا الاختلاف بين فعل الفاحشة وظلم النفس ، فالذي يفعل الفاحشة إنما يحقق لنفسه شهوة ولو عاجلة ، لكن الذي يظلم نفسه يذنب الذنب ، ولا يعود عليه شئ من النفع  فالذي يشهد الزور مثلاً ، لا يحقق لنفسه النفع  لأن النفع يعود للمشهود له زورا ، وشاهد الزور هنا ظلم نفسه ، لأنه لبى حاجة عاجلة لغيره ، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة .
أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة ، فقد أخذ متعة في الدنيا ، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة   والظالم لنفسه لا يفيد نفسه ، كمن باع دينه بدنيا غيره .
وأما قول الله تعالى :{ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله }. قال الشعراوي : معنى الذنب : هو المخالفة لتوجيه المنهج ، فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ الأمر ، وجاء نهي من المنهج فلم يلتزم به ، ولا يسمى ذنبا إلا حين يعرِّفنا الله الذنوب ، ذلك هو تقنين السماء ، أما في مجال التقنين البشري فنقول : لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم .
وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة ، حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها ، ولا تكون هناك جريمة إلا بنص عليها ، أي يتم النص على الجريمة قبل أن ينص على العقوبة ، فما بالنا إذا كان المنهج من عند الله ؟ إنه يعرِّفنا الذنوب أولاً وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب .
ومن هنا كان قوله تعالى :{ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون}آل عمران 135 ، يتضح لنا أن الاستغفار ، ليس أن تردف الذنب بقولك : أستغفر الله فقط ، روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ًe وقال : اللهم إني استغفرك وأتوب إليك وكبَّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة ، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟ قال : هي اسمٌ يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية , والبكاء بدل كل ضحكٍ ضحكته "، فعلى الإنسان إذن  أن يردف الذنب بقوله : استغفر الله وأن يصرّ على ألا يفعل الذنب أبدا  .
وليس معنى هذا ألا يقع الذنب مرَّةً أخرى ، إن الذنب قد يقع من الإنسان ، ولكن ساعة أن يستغفر ، يصرُّ على عدم العودة ، وبشرط ألا يكون بنيةٍ مسبقة ، كأن يقول الإنسان  سأرتكب الذنب وأستغفر لنفسي بعد ذلك   فهذا كالمستهزئ بربه ، وهذا ما نهى عنه رسول الله  بقوله : (التائب من الذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربه ) .
  أما هل يعود الذنب الذي تاب منه ثم عاد إليه ؟         
قيل يعود إليه إثم الذنب الأول ، لفساد التوبة وبطلانها بالمعاودة ، لأن التوبة من الذنب بمنـزلة الإسلام من الكفر ، فالكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم وتوابعه ، فإذا ارتد عاد إليه الإثم الأول مع إثم الردة . كما ثبت في الصحيح عن النبي (ص) أنه قال: (من أحسن في الإسلام أُخذ بالأول والآخر) .
قد يسأل سائل : إذا حيل بين العاصي وأسباب المعصية وعجز عن المعصية فهل تصح توبته ؟     فقد قيل لا تصح توبته ، لأن التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك . وقد سميت بتوبة المفاليس .
وأما حقوق الناس ، فإن التائب يغفر له إما بأدائه أو الاستحلال بعد الإعلام ، لما ثبت عن النبي أنه قال : (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات ) . وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس ورد ظلامتهم  فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن أساء طلب السماحة .    
والتوبة تكون إما عن الكبائر كلها أو عن بعضها  بخلاف الصغائر، لأنها أقرب إلى تطرق العفو إليها   أما من تعذَّرَ عليه أداء الحق المترتب عليه ، فإن كان في حق الله ، كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة ، وقضاء الفرائض المتروكة .
أما حقوق العباد ، فإن كانت أموالاً ، ردها إلى أصحابها ، فإن تعذَّر ذلك ، تصدق بتلك الأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب ، يُخيَّرُ بين أن تكون له أجورها ، أو يأخذ من حسنات التائب بقدر أمواله . لما روى عن ابن مسعود أنه اشترى من رجل جاريه ، ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجارية ، فانتظره حتى يئس من عودته  فتصدق بالثمن  وقال : "اللهم هذا عن رب الجارية ، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر لي  وله من حسناتي بقدره" .   
وأما توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام ، وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر الحرام ، ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة  تأتي على كل ذنب  .  لحديث رسول الله فيما يرويه عن ربه : ( ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ) .
أما هل تصح توبة العاجز عن اقتراف الذنب ؟
 لا تصح ، لأن التوبة عبارة عن ندم ، يبعثُ العزم على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا يقدر على فعله انعدم بنفسه لا بتركه إياه .                         
وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟ 
حكى النووي الإجماع على صحة ذلك ، لأن التوبة من الله سبحانه ، هي فتح المجال لرجوع الإنسان الذي انحرف ، والله حين شرع التوبة وفتح باباً لها .. إنما يريد أن يجعل للإنسان العذر في الغفلة أو النسيان أو الضعف الذي قد يصيب النفس الإنسانية فتعصي ، ولكن ذلك لا يعني أن يتمادى الإنسان في المعصية ، لأن صحة التوبة متوقفة على العزم على الفرار إلى الله والرجوع إليه .
وهنا سؤال : هل يصح أن تتبعض التوبة كالمعصية فيكون تائباً من وجه دون وجه كالإيمان والإسلام ؟ 
 الراجع صحة ذلك ، كما لو أتى الإنسان بفرض وترك فرضاً آخر ، فإنه يستحق العقوبة على ما تركه دون ما فعله ، فكذلك إذا تاب من ذنب وأصر على الآخر ، فقد أدى أحد الفرضين وترك الآخر ، فإن ما ترك لا يكون موجباً لبطلان ما فعل  كمن ترك الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة .
وذكر ابن القيم في مدارج السالكين : بأن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه أما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا صلة له به  ولا هو من نوعه ، فذلك صحيح كمن تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر .
وهل يشترط في صحة التوبة أن لا يعود إلى الذنب أم ليس ذلك بشرط ؟
ذهب أكثر العلماء إلى أن ذلك ليس بشرط ، إنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته  وباب التوبة مفتوح في كل لحظه ، فإذا ما اخطأ العبد فإن رحمة الله ، تمنحه البر والعافية والمغفِرةَ  قال تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم }الزمر 53 . فليتوجه الإنسان المخطئ إلى ربه حتى يفتح له بابه  ويتقبله بين عباده ، ويمنحه رحمته وعفوه   وليطرق بابه كل مُسيء ، وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى:{ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}يوسف 87
ويذهب الإسلام في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه الجاهل عند النظرة السريعة ،يُزَيِّنُ للناس الخطيئة ليتوبوا منها  قال :(كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) ، وقال : (والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ) رواه مسلم .
إنه لا يُزَيِّنُ الخطيئة هنا ، ولكن يُيَسِّرُ التوبة ، التي حض عليها بقوله :{ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحا }التحريم 8 .       





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق