التوبه
إن
الاسلام يعترف للفرد بدوافع الخطأ
والخطيئه ،فأما الخطا والنسيان ، وما يقع عن إكراه ، فمعفيان من المؤاخذه ، لقوله ﷺ
: ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .وأما الذنب والخطيئه ، فباب
التوبة مفتوح في كل لحظه ، فإذا ما أخطا العبد ، فإن رحمة الله تمنحه البر والعافيه
والمغفِرةَ ، قال تعالى : ]
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ
الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم [
فليتوجه الانسان المخطىء الى ربه ، حتى يفتح له بابه ، ويتقبله بين عباده ، ويمنحه
رحمته وعفوه ، وليطرق بابه كل مُسيء ،وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى :{
ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من
روح الله إلا القوم الكافرون } ويذهب الاسلام
في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه المرء عند النظرة السريعه ، يُزيِنُ للناس الخطيئه ليتوبوا منها قال ( ص ) : (( كلُّ بني آدم خطاءٌ وخير
الخطائين التوابون )) وقال : (( والذي
نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون ويستغرون فيغفر لهم ))
رواه مسلم . فهو لا يُزيَنُ الخطيئة هنا ، ولكن يُيَسِرُ التوبة ، فما هي التوبه ،
لقد ذكرها الله وحض عليها في آياتٍ كثيرةٍ
فقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا توبوا الى الله توبةً نصوحا } دلت الآيه على أن التوبة النصوح مطلوبه ، وهي
كما عرَّفها عمر ابن الخطاب . أن يتوب العبد من الذنب ، ثم لا يعود اليه ، كما لا
يعود اللبن الى الضرع . وقال تعالى : {
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهاله
} لقد اختلف في وجوب التوبه ، فمن قال بأن الله أوجب التوبة ، على من أذنب
من عباده ، استدل بهذه الآيات . ومن قال بأن التوبة لا تحتاج الى دليل ، على
اعتبار أن التوبة من القضايا التي تحمل دليلها معها ، فكل إنسان يدرك بفطرته ، أن
على المسيء أن يعتذر عن اساءته ، ويطلب الصفح ممن أساء اليه . وإن من أذنب ولم يتب فقد أساء مرتين ، مرَّةً
على فعل الذنب ، ومرَّةً على ترك التوبه
وأسوأ حالاً ممن ترك التوبة ، من فسخها وعاد الى الذنب ، بعد أن عاهد الله
على الوفاء بالطاعه والامتثال . لقوله
تعالى:{ عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقمُ الله منه ، والله عزيز ذو انتقام
} قال رسول الله ( ص ) : (( المقيمُ على
الذنب ، وهو مُستغفِرٌ منه ، كالمُستَهزِء )) أما الاستغفار الذي لايرافقه إصرار
فهو كالتوبه قال تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشةً أم ظلموا أنفسهم ذكروا الله ،
فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ، ولم يُصِروا على ما فعلوا وهم
يعلمون } . مع أن الفاحشة ، من أبشع الذنوب وأكبرها ، إلا أن مرتكبها لا يطرد
من رحمة الله ، وباب التوبة مفتوح ما دام
يذكر الله ويستغفِرْه ولا ينساه ، ولا يُصِرُعلى الخطيئه .قال رسول الله( ص ):((
ما أصر من أستغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مره . )) إن الاستغفار كالتوبه ، بل هو
التوبة بعينها ، مع تضمنه طلب المغفرة من الله ، وهو محو الذنب ، وإزالة أثره ،
ووقايةُ شرّه . والدليل على أن الاستغفار كالتوبه . قوله تعالى :{ وأستغفروا ربكم
ثم توبوا اليه } أما ما يطلب من المذنب عمله عند التوبه ؟ أن يندم على ما كان منه ، ويطلب من الله العفو
والمغفِرة ، ولا يعود الى الذنب ثانية ، وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس
ورد ظلامتهم ، فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن أساء طلب السماحة ، ثم يبدأ بقضاء ما
فاته من الفرئض . والتوبة تكون إما عن
الكبائر كلها أو عن بعضها ، بخلاف الصغائر لأنها أقرب الى تطرق العفو اليها . أما من تعذَّرَ عليه أداءُ الحق المترتب عليه ،
فإن كان في حق الله ، كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم والاشتغال
بأداء الفرائض المستأنفه ، وقضاء الفرائض المتروكه ، باتفاق الأئمه . وأما حقوق
العباد فإن كانت أموالاً ردها الى أصحابها
، فإن تعذَّر ذلك ، تصدق بتلك ألأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب ، يُخيروا بين أن
تكون لهم أجورها ، أو يأخذوا من حسنات التائب بقدر أموالهم . لما روى عن ابن مسعود
أنه اشترى من رجل جاريه ، ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجاريه ، فانتظره حتى يئس
من عودته ، فتصدق بالثمن ، وقال : اللهم هذا عن رب الجاريه ، فإن رضي فألاجر له ،
وإن أبى فالاجر لي ، وله من حسناتي بقدره . وكدلك حكم اللقطه . وأما توبة من اختلط
ماله الحلال بالحرام ، وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر الحرام ،
ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة ، تأتي على كل ذنب .
لحديث رسول الله ﷺ
فيما يرويه عن ربه (( ابن آدم لو لقيتني
بقراب ألأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة )) أما هل تصح
توبة العاجز عن إقترف الذنب ؟ لا تصح ،
لأن التوبة عباره عن ندم ، يبعثُ العزم على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا
يقدر على فعله ، إنعدم بنفسه لا بتركه إياه .
أما أقسام العباد في التوبه .. من
الناس من يستقيم على التوبة الى آخر العمر ، ولا يُحدِّثُ نفسهُ بالعودة الى ذنوبه
، وهذه هي التوبة النصوح ، ومن الناس من سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات ،
وترك كبائر الفواحش كلها ، إلا أنه يُذْنِبُ ذنوباً ، لا عن قصد ، وإنما يبتلى بها
دون عزم ، لكنه يلوم نفسه ، ويُجدد العزم على عدم الاقدام عليها ، وهذه هي النفس
اللوامه ، لها حُسْنُ الوعد من الله ، لقوله سبحانه { الذين يجتنبون كبائر ألإثم
والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفره }
وهناك فريقٌ من الناس ، يستمر على الاستقامة مده ، ثم تغلبه الشهوات في بعض
الذنوب ، فيُقْدِمُ عليها عن شهوة وقصد ، إلا أنه مواظبٌ على الطاعات ، وتاركٌ
لجملةٍ من الذنوب ، مع القدرة على فعلها ،
هؤلاء من الذين قال الله فيهم {
وآخرون إعْتَرَفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئا } وفريقٌ آخر يتوب ثم
يعود الى ارتكاب الذنوب ، من غير أن يُحدِّثَ نفسه بالتوبه ، أو يتأسف على فعله ،
هذه هي النفوس الأمّاره بالسؤ ، الفرّاره من الخير ، وهذه هي النفوس التي يُخافُ
عليها من سؤ الخاتمه . لأن ألأعمال كما أخبر الرسول عليه السلام بخواتيمها . وإياك
يا أخي المسلم أن تكون من المسوفين ، فقد روي عن ابن عباس أن النبي ﷺ
قال : هلك المسوفون ، والمسوف من يقول : سوف أتوب ، وقال ﷺ
التائب من الذنب كمن لا ذنب له .
التـوبة
قال
تعالى :} وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفوا عن
السيئات ويعلم ما تفعلون{
.
التوبة
رجوعٌ إلى الله بسبب المعاصي والذنوب أو المخالفات والتقصيرات ، والله يحب التوبة من عباده ويفرح لها .
روى البخاري ومسلم أن رسول الله ( ص ) قال : (
لله افرح بتوبة عبده المؤمن ، من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في فلاة ) .
وإطلاق
الفرح في حق الله مجازُ عن رضاه ، وقد شُرعت التوبة وقايةً للمجتمع من الأذى
والشرِّ فلو كان الذنب الواحد يُخَلِّدُ
في النار ولا توبة بعده ، لتجبر العصاة وازدادوا شرّا .. ولأُصيب المجتمع كله
بشرورهم ، وليئس الناس من آخرتهم لذا جاءت
الدعوة من الله ، ألاّ نيأس من رحمته فقال سبحانه :{قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور
الرحيم } الزمر 53 .
لذا شرع الله لنا التوبة ، ليرحمنا من الأذى
والمعصية . قال تعالى :{إنما التوبة للذين يعملون
السوء بجهالة ثم يتوبون من
قريب}النساء 17 .
والسوء
: هو الأمر المنهي عنه من الله ، والمقصود من قوله بجهالة ، لا كما يفهم البعض
أنها عدم العلم ، فالجهالة غير الجهل ، وقد عرَّفوا الجهل بأن يعلم الإنسان حكماً
ضد الواقع ، كأن يكون مؤمناً بعقيدةٍ تخالف الواقع ، وأما
الجهالة فقد قال
العلماء : بأنها السفه والطيش ، والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل ،
والسفه ألا يقدِّر الإنسان قيمة ما يفوته من ثواب ، وما يلحقه من عقاب وقد يكون الإنسان مؤمناً ، لكنه يرتكب
السوء لأنه لم يستحضر الثواب والعقاب ،
ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة ، دون التفكر في النتائج مستقبلاً ، ولو
استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء . ويمكن أن نفهم أيضاً الجهالة على أنها ارتكاب الأمر السيئ ، دون أن يبيت له
الإنسان أو يخطط ، ويظل نادماً ويُعذِّب نفسه
أما من يخطط لفعل المنكر ، وارتكاب الفحشاء ويصرُّ على السوء ، ويتفاخر ولا يندم على ما
فعل ، فهذا لا يغفر الله له إن استمر على حاله حتى شارف على الموت ، وقد نبه
الرسول ( ص) إلى ذلك بقوله :(إن الله
تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه أحمد والترمذي ، وفي هذا يقول الله
سبحانه :{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت فال إني تبت
الآن}النساء 18 .
وعلى
المسلم أن يجتنب التسويف في التوبة ، ففي الخبر: ( هلك المسوفون ) ، وإذا كانت التوبة واجبة ، كان ما لا يتوصل
إليها إلا به واجباً فمعرفة الذنوب واجبة
، والذنب : عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل والذنوب صغائر وكبائر ، بدليل قوله تعالى : {إن
تتجنبوا كبائر ما تتهون عنه نُكَفِّر عنكم سيئاتكم }النساء 31 . وقوله تعالى
:{الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم}النجم 23 .
ولا
يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ويقول
هذه صغيرة وتلك صغيرة ، لأن الصغيرة بالإصرار والمواظبة تكبر ، ففي الحديث أن رسول
الله (ص)
قال : ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ) ، أخرجه الطبراني
ورواه البيهقي .
وحين ننظر إلى قوله تعالى : {والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم } آل
عمران 135 . نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه
لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة ، وأبقى على نفسه عذاباً خالدا . أما لماذا لم
يقل الله الذين ظلموا أنفسهم فقط ؟ أي العطف ب-الواو لا ب-أو ، ذلك لأن الله يريد
أن يوضِّح لنا الاختلاف بين فعل الفاحشة وظلم النفس ، فالذي يفعل الفاحشة إنما
يحقق لنفسه شهوة ولو عاجلة ، لكن الذي يظلم نفسه يذنب الذنب ، ولا يعود عليه شئ من
النفع فالذي يشهد الزور مثلاً ، لا يحقق لنفسه
النفع لأن النفع يعود للمشهود له زورا ،
وشاهد الزور هنا ظلم نفسه ، لأنه لبى حاجة عاجلة لغيره ، ولم ينقذ نفسه من عذاب
الآخرة .
أما
الإنسان الذي يرتكب الفاحشة ، فقد أخذ متعة في الدنيا ، وبعد ذلك ينال العقاب في
الآخرة والظالم لنفسه لا يفيد نفسه ، كمن باع دينه
بدنيا غيره .
وأما
قول الله تعالى :{ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله }. قال الشعراوي :
معنى الذنب : هو المخالفة لتوجيه المنهج ، فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ الأمر ،
وجاء نهي من المنهج فلم يلتزم به ، ولا يسمى ذنبا إلا حين يعرِّفنا الله الذنوب ،
ذلك هو تقنين السماء ، أما في مجال التقنين البشري فنقول : لا تجريم إلا بنص ولا
عقوبة إلا بتجريم .
وهذا
يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة ، حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها ، ولا تكون هناك
جريمة إلا بنص عليها ، أي يتم النص على الجريمة قبل أن ينص على العقوبة ، فما
بالنا إذا كان المنهج من عند الله ؟ إنه يعرِّفنا الذنوب أولاً وبعد ذلك يحدد
العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب .
ومن
هنا كان قوله تعالى :{ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون}آل عمران 135 ، يتضح لنا
أن الاستغفار ، ليس أن تردف الذنب بقولك : أستغفر الله فقط ، روى جابر أن أعرابياً
دخل مسجد رسول الله ًe
وقال : اللهم إني استغفرك وأتوب إليك وكبَّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي
الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك هذه تحتاج إلى
التوبة ، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟ قال : هي اسمٌ يقع على ستة معانٍ :
على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة
النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة
المعصية , والبكاء بدل كل ضحكٍ ضحكته "، فعلى الإنسان إذن أن يردف الذنب بقوله : استغفر الله وأن يصرّ على
ألا يفعل الذنب أبدا .
وليس
معنى هذا ألا يقع الذنب مرَّةً أخرى ، إن الذنب قد يقع من الإنسان ، ولكن ساعة أن
يستغفر ، يصرُّ على عدم العودة ، وبشرط ألا يكون بنيةٍ مسبقة ، كأن يقول
الإنسان سأرتكب الذنب وأستغفر لنفسي بعد
ذلك فهذا كالمستهزئ بربه ، وهذا ما نهى
عنه رسول الله ﷺ
بقوله : (التائب من الذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربه ) .
أما هل يعود الذنب الذي تاب منه ثم عاد إليه
؟
قيل
يعود إليه إثم الذنب الأول ، لفساد التوبة وبطلانها بالمعاودة ، لأن التوبة من
الذنب بمنـزلة الإسلام من الكفر ، فالكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم
وتوابعه ، فإذا ارتد عاد إليه الإثم الأول مع إثم الردة . كما ثبت في الصحيح عن
النبي (ص) أنه قال: (من أحسن في الإسلام أُخذ بالأول والآخر) .
قد
يسأل سائل : إذا حيل بين العاصي وأسباب المعصية وعجز عن المعصية فهل تصح توبته
؟ فقد قيل لا تصح توبته ، لأن التوبة
إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك . وقد سميت بتوبة المفاليس .
وأما
حقوق الناس ، فإن التائب يغفر له إما بأدائه أو الاستحلال بعد الإعلام ، لما ثبت
عن النبي ﷺ
أنه قال : (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون
دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات ) . وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس
ورد ظلامتهم فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن
أساء طلب السماحة .
والتوبة
تكون إما عن الكبائر كلها أو عن بعضها
بخلاف الصغائر، لأنها أقرب إلى تطرق العفو إليها أما من تعذَّرَ عليه أداء الحق المترتب عليه ،
فإن كان في حق الله ، كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم والاشتغال
بأداء الفرائض المستأنفة ، وقضاء الفرائض المتروكة .
أما
حقوق العباد ، فإن كانت أموالاً ، ردها إلى أصحابها ، فإن تعذَّر ذلك ، تصدق بتلك
الأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب ، يُخيَّرُ بين أن تكون له أجورها ، أو يأخذ من
حسنات التائب بقدر أمواله . لما روى عن ابن مسعود أنه اشترى من رجل جاريه ، ودخل
يزن له الثمن ، فذهب رب الجارية ، فانتظره حتى يئس من عودته فتصدق بالثمن
وقال : "اللهم هذا عن رب الجارية ، فإن رضي فالأجر له وإن أبى فالأجر
لي وله من حسناتي بقدره" .
وأما
توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام ، وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر
الحرام ، ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة تأتي على كل ذنب .
لحديث رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربه :
( ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها
مغفرة ) .
أما
هل تصح توبة العاجز عن اقتراف الذنب ؟
لا تصح ، لأن التوبة عبارة عن ندم ، يبعثُ العزم
على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا يقدر على فعله انعدم بنفسه لا بتركه
إياه .
وهل
تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟
حكى
النووي الإجماع على صحة ذلك ، لأن التوبة من الله سبحانه ، هي فتح المجال لرجوع
الإنسان الذي انحرف ، والله حين شرع التوبة وفتح باباً لها .. إنما يريد أن يجعل
للإنسان العذر في الغفلة أو النسيان أو الضعف الذي قد يصيب النفس الإنسانية فتعصي
، ولكن ذلك لا يعني أن يتمادى الإنسان في المعصية ، لأن صحة التوبة متوقفة على
العزم على الفرار إلى الله والرجوع إليه .
وهنا
سؤال : هل يصح أن تتبعض التوبة كالمعصية فيكون تائباً من وجه دون وجه كالإيمان
والإسلام ؟
الراجع صحة ذلك ، كما لو أتى الإنسان بفرض وترك
فرضاً آخر ، فإنه يستحق العقوبة على ما تركه دون ما فعله ، فكذلك إذا تاب من ذنب
وأصر على الآخر ، فقد أدى أحد الفرضين وترك الآخر ، فإن ما ترك لا يكون موجباً
لبطلان ما فعل كمن ترك الحج وأتى بالصلاة
والصيام والزكاة .
وذكر
ابن القيم في مدارج السالكين : بأن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من
نوعه أما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا صلة له به ولا هو من نوعه ، فذلك صحيح كمن تاب من الربا
ولم يتب من شرب الخمر .
وهل
يشترط في صحة التوبة أن لا يعود إلى الذنب أم ليس ذلك بشرط ؟
ذهب
أكثر العلماء إلى أن ذلك ليس بشرط ، إنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب
والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته
وباب التوبة مفتوح في كل لحظه ، فإذا ما اخطأ العبد فإن رحمة الله ، تمنحه
البر والعافية والمغفِرةَ قال تعالى : {
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ
الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم }الزمر 53 . فليتوجه الإنسان المخطئ إلى ربه
حتى يفتح له بابه ويتقبله بين عباده ،
ويمنحه رحمته وعفوه وليطرق بابه كل مُسيء
، وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى:{ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس
من روح الله إلا القوم الكافرون}يوسف 87
ويذهب
الإسلام في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه الجاهل عند النظرة السريعة ،يُزَيِّنُ
للناس الخطيئة ليتوبوا منها قال ﷺ
:(كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) ، وقال : (والذي نفسي بيده لو لم
تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ) رواه مسلم .
إنه
لا يُزَيِّنُ الخطيئة هنا ، ولكن يُيَسِّرُ التوبة ، التي حض عليها بقوله :{ يا
أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحا }التحريم 8 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق