السبت، 25 أكتوبر 2014

الثبات على المبدأ


إن الثبات على المبدأ وحمل الأذى في سبيله والتضحية بالنفس والمال من أجله واجب شرعي ، فعلى المسلمين عامّتهم والعلماء منهم على وجه الخصوص  أن يعملوا ليحفظوا على الناس دينهم وأن يأمن الإسلام شرَّ الطعن به ، إن الإسلام يريد من المسلمين وهم على مفترق الطرق ، أن يبذلوا أقصى الجهد في بيان أحكامه ، وأن يحملوا دعوته للناس كافة ، وإلا فما فائدة وجودهم إذا لم يأمروا بمعروفٍ أو ينهوا عن المنكر ولا يحاسبوا مسؤولاً ، وإذا لم يقوموا بهذه المهمة ، فإن بطن الأرض خيرٌ لهم من ظهرها .

ومن هنا علينا أن نحترم ونقدر أولئك الرجال من سلفنا الصالح ، الذين قاموا بهذه المهمة   وليس هذا تفضلاً عليهم نتطوع به ، بل هو أدبٌ ننـزل به على قول رسولنا e في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم (ليس منا من لم يوفر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) . فقد أظهروا عزة الإسلام في صلابة موقفهم من الحكام المنحرفين عن الأحكام الشرعية ولو قيد أنملة ، كاشفين للأجيال المتأخرة أثر صلابة الإيمان ، متحملين بصبرٍ وشجاعة ما ينتج عن الجهر بكلمة الحق من تبعات ، غير هيابين سلطان الحكام   ولا غرابة في ذلك ، فهم أهل لتلك المواقف ، لأنهم حملوا لواء الشريعة الإسلامية .

وقد نبت في عصرنا هذا نابتة سوء تغمز الأكابر بما تراه مأخذاً عليها ، وتتعامى عن كل ما لهم من حسنات ، ويا ليتهم نظروا إلى الغرب الكافر الذين إذا رأوا من عظمائهم خيراً أذاعوه ، وإن رأوا شرّاً دفنوه ونتمنى لو أنهم تمثلوا سيرة العلماء العاملين من سلفنا الصالح ، الذين كانت لهم مواقف رائعة في إسداء النصح إلى الحكام ، وتعريفهم أنهم أجراء للشعوب وملزمون بالشورى ، وكانوا يحتكمون في مواقفهم إلى كتاب ربنا وسنة نبينا e ، وإذا كنا نلتفت إلى سيرة القرون الخيرّة الأولى ، ونتذكر الأمجاد التي حققوها لأسباب ، وفقدناها نحن هذه الأيام لأسباب ، وقد كانت لعلماء المسلمين مواقف تستحق الاحترام والتقدير .

نعيش اليوم مع قصة رائعة من قصص الثبات على المبدأ  وحمل الأذى في سبيله والتضحية بالنفس والمال من أجله ، قصة لتاريخ عالم من علماء المسلمين ، مع أحمد بن حنبل في محتته ، والتي بدأت بورود كتاب المأمون الخليفة العباسي ، وكان في خرا سان إلى عاملة في بغداد ، ليجمع العلماء الرسميين من قضاة وخطباء  ويسألهم عن القرآن فمن لم يقل إنه مخلوق عزله  وكانوا جميعاً لا يقولون بذلك ، لكن خوف بعضهم على المناصب دفعهم إلى التظاهر بالموافقة ، وهي نقطة الضعف حتى عند علمائنا هذه الأيام ، فترى التضارب بين أفعالهم وأقوالهم في كثير من المواقف ، ولجأ المأمون إلى الشدة مع من لا يقولون بذلك وأمر بوضعهم في السجن ، وقيدهم بقيود من حديد ، فاضطروا إلى موافقته في رأيه إلا احمد بن حنبل الذي وقف ضد الخليفة وقواده وسلطانه ، أما عامة الناس فكانوا كما يكونون في كل عصر ، قلوبهم مع علماء الحق ، ولكن سيوفهم مع أمراء الباطل .

ومات المأمون وخلفه المعتصم ، وكان رجلاً قوي الجسم يستطيع أن يصارع أسداً ولكنه كان ضعيف العلم ، وكان يرى في المأمون مثله الأعلى ، فسار على طريقته ولكنه غلا حتى جاوز الحدود .

ولبث الأمام أحمد في السجن ، وبلغ كل مبلغ من الضعف ، ومع ذلك كان دائم العبادة حاضراً مع الله يصلي بأهل السجن وهو مقيد بقيود الحديد ، وحُمل يوماً إلى حضرة المعتصم ، وناقش علماؤه أمامه فقال لهم : هذه مسألة دينية فهاتوا لي دليلاً من كتاب الله أو من سنة رسول الله ، وكان يفحمهم بهذا الرد  وجربوا معه أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد ، فلم يؤثر ذلك فيه وبعثوا إليه بعلماء السوء ، فكان يقول لهم : إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون ، ولست أبالي بالحبس ما هو إلا ومنـزلي واحد ولا قتلاً بالسيف  إنما أخاف فتنة السوط ، وأخاف ألا أصبر ، فسمعه بعض أهل الحبس وهو يقول ذلك ، فقال لا عليك يا أبا عبدالله ، أنا ضربت عشرين مرة بآلاف الأسواط في سبيل الدنيا ، وأنت تخاف أسواطاً في سبيل الله   إنما هما سوطان أو ثلاثة ثم لا تحس شيئاً فهون ذلك عليه. ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه فانخلعت كتفه من الضربة الأولى فقال له المعتصم : يا أحمد قل هذه وأن أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك وهو يقول : هاتوا آية أو حديثاً  فقال المعتصم للجلاد ، شدّ قطع الله يدك ، فضربه حتى تفتت لحمه ، فقال المعتصم يا أحمد ؟ لماذا تقتل نفسك مَنْ مِنْ أصحابك فعل هذا ؟ وقال له عالم من علماء الخليفة وليس كل العلماء ، لأنهم فهموا النهي الموجه للمسلمين أجمع بعدم الركون إلى تنفيذ رغبات السلاطين قال تعالى ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ( هود 11 . قال له : ألم يقل الله ولا تقتلوا أنفسكم ؟ تلك مقالة السوء وطلاب الدنيا وعبيد الأهواء ، حينما يخاصمون في المعتقد ويخالفون في الرأي ، فقال له أحمد انظروا وراء الباب ، فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام ، فقال لهم أي شيء تعملون ؟ قالوا ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه ، ولما عاد إلى الإمام أحمد قال له : أنا أُضِلُ هؤلاء كلهم ؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء جميعاً .

مَنْ مِنْ علماء المسلمين يضحي هذه التضحية ،لم ينس أحمد أمانة العلم وهو على حالة تلك ، واحتمل الأذى كله لأداء أمانة العلم . وقد بالغ المعتصم في تعذيب الأمام أحمد   فكان يقول للجلادين اضربوا وشدوا  فكان يجيء الواحد فيضربه سوطين ثم يتنحى ويأتي الآخر ، حتى سال الدم من كل مكان من جسمه .

روي أنه أثناء تعذيبه أن انقطعت تكة لباسه ، فكاد يسقط وتنكشف عورته ، ورآه الناس يحرك شفتيه فيقف اللباس مكانه ، ويسألوه فيما بعد فقال : قلت يا رب إن كنت تعلم أني على حق فلا تهتك لي سترا  ولما أشرف على الموت من شدَّة التعذيب ، خاف المعتصم أن يثور الناس إن مات ، فرفع عنه الضرب وسلَّمه لأهله ، وبقي أثر الضرب فيه وبقيت كتفه مخلوعة حتى مات . لقد صبر على هذه المحنة ، من اجل الحفاظ على عقيدة الإسلام ، وحماية القرآن من القول المريب . لقد كانت محنة حقا وكانت امتحاناً للإيمان وللرجولة وقد نجح فيها الإمام أحمد وقد كافأه الله فلم يمت حتى بلغ من المنـزلة ما لم يبلغه ملك ولا قائد ولا أمير  ولقي من تكريم الناس وإعظامهم ما لا مزيد عليه  رحمة الله . لو قُدِّرَ للأمام أحمد أن يرى حال المسلمين الذين تراجعوا في أنحاء العالم ، بعد أن هدمت خلافتهم لمعاص اجتماعية وسياسية اقترفوها وتوارثوها ، ويرى حال الدعاة الجدد الذين لم يكلفوا أنفسهم دراسة خطأ أو تصحيح مفهوم ، فاضطرب الفكر الإسلامي ، إلى درك هابط لا يثمر خيراً في دين أو ديناً . ولو قُدِّرَ أن يرى حال جماعات متربصة تقف بعيداً دون عمل ، تنتظر بأعداء الله الويل والثبور وعظائم الأمور  وهي تضع قدماً على أخرى ثم ترتقب من جنّ سليمان أن تضع مقاليد الحكم بين أيديهم .

لو قُدَّرَ له ذلك لنادى بأعلى صوته أين هذه الأمة الآن ؟ وأين هي مكانتها التي أرادها الله لها خير أمة أخرجت للناس ؟ وأين النماذج التي تقدمها لرسالة الإسلام ؟ ولكنها المأساة التي تكمن في جهل المسلمين لتاريخهم ، وبخاصة العرب الذين يجحدون ما صنع الإسلام لهم وكيف رفع خسيستهم .

 إن حكام اليوم بحاجة أكيدة إلى من يذكرهم ويصارحهم ، ويدلهم على مواطن الداء ونافع الدواء  وما أحوج المسلمين إلى معرفة شيء عن غيرة أسلافهم على الدين وأحكامه  ووقوفهم في وجه السلطات في زمنهم .  إن مسؤولية الإسلام تقع على عاتق ولاة الأمور  ولن ينجو أحد منهم متن الإثم إن قصَّر في جنب الإسلام وأهمل العودة إليه قال تعالى :

) فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ( الأعراف 6 .






 

    


     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق