قال تعلى:{واعبدوا
الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا، وبذي القربى واليتامى والمساكين
والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ، وابن السبيل وما ملكت أيمانكم}النساء
36.
ما أكثر حِكَمِ
الإسلام وآدابه ، وما أجمل نصائحه ووصاياه ، فتارة يعتني بالأُمة ونظامها ، وتارة
بالأسرة وتكوينها ، وتارة يأمر الفرد بأداء واجبه نحو المجتمع .
ولو أن الإسلام نافذ
الكلمة ، مطبق الأحكام سائد النظم ، قوى
السلطان ، مهيمن على المشاعر والقلوب ، لكان للدنيا شأن غير هذا الشأن ، وللناس
حال غير هذا الحال ، انظر إليه وهو يوصينا بالجار ، ويأمرنا بالمحافظة على نفسه
وكرامته ، وماله وعرضه ، نبدأه بالسلام
ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونقوم معه في العزاء ، ونهنئه في
الفرح ، ونصفح عن زلاته ولا نتطلع إلى
عوراته ، ولا نغفل عن ملاحظة داره عند غيبته ، ونغض البصر عن حرمته ونرشده إلى ما
يجهله في أمر دينه ودنياه .
لذلك كان من أهم ما
أوصى به الدين رعاية الجار ، والقيام بحقه ، وإحسان معاملته ، والبعد عن كل ما
يسيئه في نفسه ، أو أهله أو ولده أو داره أو طريقه أو عمله . وفي حديث عمرو بن
شعيب أن النبي ( ص ) قال : ( من أغلق بابه دون جاره ، مخافة على أهله وماله ،
فليس ذلك بمؤمن ، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه . أتدري ما حق الجار ؟ إذا
استعانك أعنته ، وإذا استقرضك أقرضته ، وإذا افتقر عدت عليه وإذا مرض عدته ، وإذا أصابه خيرٌ هنأته ، وإذا
أصابته مصيبةٌ عزيته ، وإذا مات اتبعت جنازته
ولا تستطل عليه بالبنيان ، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذه بقتار ريح
قدرك إلا أن تغرف له منها ، وإذا اشتريت فاكهةً فاهد له فإن لم تفعل فأدخلها سرِّاً ، ولا يدخل بها
ولدك ليغيظ بها ولده ) رواه الخرائطي
.
قال رجل يا رسول الله
كيف لي أن أعلم ، إذا أحسنت أو أسأت ؟ قال: ( إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت
فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت )رواه الطبراني بسند حسن
ومتى كان الجار
ناصحاً لجاره مخلصاً له ، فإنه يملك لبه ويستول على عواطفه ومشاعره ويصبح مخلصاً له . وانشدوا في التوصية بالجوار
.
وارع الجوار لأهله متبرعا بقضاء ما طلبوا من الحاجات وها هو ذا
رسول الله ( ص ) يوصي به على هذا النحو المؤكد ، وبهذا الأسلوب القويّ ، فينبئنا
أن الوصية به من السماء لا من الأرض ، وتصل إلى الحد الذي يظن معه الرسول ( ص ) أن
الله سيجعل له حقاً في ميراث جاره ، فقال ﷺ : (مازال جبريل
يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ).
ثم يقرر الرسول ( ص )
أن المؤذي لجيرانه غير مؤمن ويكرر هذا النفي ، في حديثه ثلاث مرات ويقسم عليه في كل مرَّة .
وحق للإسلام أن يمنح
الجار هذه العناية ، وأن يوليه هذه المنزلة ، وأن يعطيه كل ما يليق به من حقوق
وواجبات ، لأنه أخ في الدين ، والمعاون في السراء والضراء ، وستر العورات
والحرمات ولذلك أوصى الحكماء باختيار
الجار الصالح فقالوا : عليك بالجار قبل الدار ، وبالرفيق قبل الطريق .
وقد اهتم السلف
الصالح بحسن الجوار ، حتى أن الواحد منهم كان يهتم بمصالح جاره كاهتمامه بمصالحة ،
وكان يقوم بها خير قيام ، ويؤديها في أمانة واخلاص ونبل ووفاء ، حتى لو وقعت من
الجار المخالفة أو الإساءة .
كان لأبي حنيفة جار
يغني بالليل بصوت مزعج وهي مهمة الراديو
والتلفاز هذه الأيام ، عندما يرفع صوتها الجيران ، وكان ذلك يزعج أبا حنيفة
ويضايقه ، وفي يوم من الأيام قبض شرطة الوالي على هذا الجار لإقلاقه الناس
ومضايقتهم واقتادوه إلى السجن ، فافتقده
أبو حنيفة عند ما لم يسمع صوته ، فسأل عنه فأخبروه خبره فذهب أبو حنيفة إلى الأمير وقال له : إن لي
جاراً أخذه رجال شرطتك وحبسوه ، وما علمت منه إلا خير ، فقال له الأمير : إنا
سنطلق سراح كل من اعتقل البارحة من أجله ، فلما خرج الرجل قال لأبي حنيفة : جهدت لإنقاذي وطالما أزعجتك
بغنائي فقال له أبو حنيفة : أرجو أن أكون بذلك قد أديت معك حق الجار .
وثبت أن جار السوء
أرغم الإمام الشافعي ، على أن يبيع داره بأرخص الأثمان ، حتى أن كثيراً من الناس
لاموه على بيعه داره بهذا الثمن الرخيص
فقال في ذلك :
يلومونني
إن بعت بالرخص منزلي ولم
يعلموا هناك جاراً ينغص
فقلت
لهـم كـفوا الملامة إنـما بجيرانهم
تغلوا الديار وترخص
وفي القرى مازال
الإنسان يلمس المحافظة على حق الجار ، أو بعض هذا الحق ، أما في المدن فقد أغفل هذا
الحق في كثير من الأحياء ، حتى أن الجار لا يعرف اسم جاره ، ولا يؤدي له حقه وتلك
واحدة من الشرور ، التي طغت على الناس باسم المدنية والحضارة ، لقد اتبع المسلمون
أهوائهم وأطاعوا شيطانهم ، وتركوا دينهم
وأهملوا كتاب ربهم ونسوه ، وتخلفوا عن رسالته في الأرض واصبحوا لا يقيمون
وزناً لقرابة ولا رحم ، ولا يتذوقون طعما للإنسانية والمروءة ولا يفقهون معنى الدين والحياء ، ولا يقدِّرون
الاخوّة والجوار ، فكثيراً ما يجتمع الجيران في ديارهم يتنادمون ويتسامرون ويلعبون
، وأحياناً يغنون بصوت مرتفع ، ثم يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات .
ولو وقف الأمر إلى هذا الحد لهانت ، المصيبة
ولكنها تكون أعظم وأفدح ، عندما يعقبون كل نكتة بضحكة عالية ، تسر نفوسهم وتخرق
آذان جيرانهم ، وتقص مضجعهم فلا سليمهم ينام ولا مريضهم يستريح ، ولا طالبهم يعرف
للمطالعة طريق ، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى المشاجرات والمشاحنات ، وتسري
بين الجيران عدوى الحقد والحسد ، فيحصل التنافر والشقاق بين الجيران لأسباب تافهة
، ناسين أن الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه أخوّة الإسلام .
قيل لرسول الله ﷺ
إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها فقال رسول الله ﷺ:
( هي في النار). وفي وصية لقمان لابنه ، وهو يعظه ويوجهه لأسمى الأخلاق
وأنبل الصفات ، في قوله تعالى : {وأقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات
لصوت الحمير}لقمان .
في الوقت الذي أمر
الله سبحانه بغض الصوت وخفضه ، استنكر رفع الصوت وجعله من أخلاق البهائم المنكرة
المستقبحة ، وهذا منتهى البشاعة وغاية الزجر ، والنهي لمن يرفعون أصواتهم حتى
تستقبح وتستنكر أصوات الحمير .
وليعلم كل مسلم أن حق
الجوار ، ليس كف الأذى ، وإنما احتمال الأذى وإسداء الخير والمعروف ولكن ويا للأسف
، فمن الناس من فقد دينه ومروءته ، فتراه يتجسس على جاره ويبحث عن أخباره ، وينقب عن أسراره
وخفاياه يغازل بناته ويغري زوجته ، ويضرب
أولادُه أولادَ جاره ناسياً آداب الدين ، وواجب المروءة وحرمة الجوار .
أخرج الشيخان عن أبي
هريرة أن رسول الله ﷺ قال (من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت ). واحمد والشيخان أن رسول الله ﷺ
قال: ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا من يا رسول الله قال :
الذي لا يأمن جاره بوائقه) . أي شروره وفي الأثر " أربعٌ من السعادة
المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء . وأربع من الشقاء
الجار السوء والمرأة السوء و المركب السوء والمسكن الضِّيق "
فعلي المسلمين أن يراعوا حقوق جيرانهم ويحسنوا
إليهم ، ويحفظوا حرماتهم ، لأنه حرمة الجار من أعظم الحرم ، وواجبه اقدس الواجبات
، وقد قال ﷺ
: (والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحم الله) . واعلم يا أخي
المسلم أن لك جيراناً كثيرين غير جارك الملاصق لك في السكن ، لهم عليك حقوق ،
زميلك في وظيفتك جار ، والعامل إلى جانب العامل جار ، والتلميذ إلى جانب التلميذ
جار ، هؤلاء وأمثالهم لهم ما للجار من الحقوق والواجبات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق