قال تعالى : { قل هذه سبيلي أدعوا الى الله
على بصيرة أنا ومن اتبعنى } يوسف 108 .
إن
الدعوة لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالية أو يقودوا بها الأتباع أو يحققوا بها
الأطماع أو يتاجروا بها في أسواق الدعوات لتشترى منهم وتباع ، ولكنَّ الدعوة تقوم
بالقلوب التي تتجه الى الله تبتغي وجهه وترجو رضاه ، لذا أمر الإسلام بتطهير
الصفوف من دعاة الفتنة حتى يكون المسلمون ذا عقيدة واحدة لا عقائد شتى .
فقال
تعالى في حق مثبطي العزائم ومؤججي الجدل ومروجي الظنون والاتهامات التي تلهي الأمة
عن الجهاد في سبيل الله : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ، ولأَوْضَعوا
خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفتنة وفيكم سمّاعون لهم }47 التوبة .
إن
الظنون والاتهامات التي يوجهها بعض القاصرين ممن لا سهم له في معرفة الإسلام ، لا
لشيء إلا لأنه يشك أنَّ فلاناً من الناس محسوبٌ على الجهة الفلانية . وهي اتهامات
لا يساندها دليل ولا يؤيدها واقع ، لأنها تصدر من أناس لا يعرفون حقيقة النبوة ولا
يفقهون معنى الرسالة المحمدية ، إنها آفة المتعصبين الذين يعملون لمرضاة جهاتٍ
يعيشون في دائرتهم ويندفعون مع تيارهم .
وليس
غريباً من أناس هذا حالهم لا يعرفون إخلاصاً لله أو تضحيةً في سبيله أو تقديراً
للحق أو احتراماً لرجاله أن يسارعوا إلى التشهير وكأن وظيفة المسلم أن يتتبع
العثرات ويتعافى عن الحسنات ناسين أن إصدار الأحكام جزافا من أفواه البعض يكون
مرُّ المذاق ، لأنهم يضيفون إليه من نفوسهم المعتلة ما تعافه الطباع السليمة .
وإذا كان
بعض المنسوبين إلى الدين رديء النظر عليل الفطرة ، فما ذنب الدين إذ
تُحَمَّلُ لهولاء أو يتحمله الجّهال وأنصاف العلماء الذين يقومون على مجرد التعصب
الممزوج بالجهل ، ثم لماذا لا يفهم هؤلاء أن التدين ليس تعصُّباً ولا تحزُّباً
وإنما هو دعوة حق .
ولماذا
نجد بين صفوفنا من لا يأخذ من الدين إلا ما يناسبه ويلائمه ويهمل ما عدا ذلك .
إن القضية ليست قضية مَنْ يتبع مَنْ ، ومَنْ
محسوب على مَنْ ، إنها قبل كل شيء قضية الأمة التي تعاني ، وليس أن فلاناً في
موقفه يتبع مَنْ وفي رأيه يمثل مَنْ ، وعليه يُسْمَعُ له أو يُعْرَضُ عنه علماً
بأن حوافز الحقد والضغينة وتوجيه الإتهامات والظنون تتنافى مع سماحة الإسلام
وكرامة الإنسان ، لذلك يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين لله ،
الأتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف والبعد عن الاختلاف والفرقة ، وكل
ما يميِّزُ الجماعة أو ينفرِّ من الكلمة من العداوة الظاهرة أو البغضاء الباطنة
وكل يؤدي إلى فساد ذات البين ، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعاً قال تعالى :{ولا
تكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا من بعد ما جاءهم البيانات وأولئك لهم عذاب عظيم}.
وفي
الحديث الذي رواه الترمذي أن رسول الله ﷺ قال "عليكم
بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد من أراد
بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة}.
إنه
لا خلاص لنا مما نحن فيه إلا بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله (ص) وأن نستصحب
سيرة الخلفاء الراشدين والفقهاء الأئمة لأن الحق قلّما يفوتُ هؤلاء الكبار في
مجالس السياسة والثقافة .
ثم
إن الفقه الإسلامي لم ينشأ من فراغ ، فله أصولاً محترمه مَنْ جهلها وجب الحذر منه
بل هو في نظري ليس أهلاً للعمل في ميادين الدعوة .
وإني
لأعجب من الجدل في مسألة فقهية واحتدام
الجدل حولها مما يفرق الكلمة ويشق الصفوف ، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى جمع
الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام ، وبدلاً من الخوض في هذه
النقاشات التي تفرق ولا حاجة لنا بها ، لأن لكل من الفقهاء وجهته وأدلته التي
يستند إليها والكل يغترف من بحر الشريعة
ما وسعه .
من
أجل ذلك أكد العلماء فيما أكدوه أن وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما
أجمعوا عليه ، وإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة وفي هذا قالوا : من لم يعرف اختلاف العلماء
فليس بعالم ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الجنة ، وحتى هؤلاء الذين لا
يعرفون إلا رأياَ واحداً ووجهة واحدة أخذوا من شيخ واحد أو انحصروا في مدرسة واحدة
، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأياً آخر أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة ، والعجيب
في أمرهم أنهم يحاربون التقليد وينهون عنه وهم في الواقع مقلدون . رفضوا تقليد الأئمة
القدامى وقلدوا المعاصرين فهم ينكرون
المذاهب وما دروا أنهم جعلوا من آرائهم مذهباً خامساً يتعصبون له وينكرون على من
خالفه .
وإذا
كان التعصب للمذاهب كما تجلى ذلك في عصور التقليد والعصبية المذهبية مذموماً فمثله
في الذم وأشد من يتعصب ضد المذاهب والأئمة بصورة مطلقة ، ويوجه إليها سهام نقده
وطعنه بدعوى إنها مخالفة للسنة .
وكيف
يقبل هؤلاء أن يُعْرِضوا عن الهموم الضخمة التي تعاني منها الأمة ، وترى الواحد
منهم يقوم ويقعد ويبرق ويرعد من أجل جزيئات لا تدخل في دائرة الضروريات ولا
الحاجيات وإنما كلها في نطاق التحسينات
والكماليات وفي سبيل هذه الفرعيات لا
يبالي إن يُمَزِّقَ الشمل ويوقظ الفتن النائمة ويُحركَ العصبيات الساكنة .
والتركيزُ على الأمور الخلافية والشدةُ على المخالفين فيما يجوز التساهل فيه على
خلاف ما كان عليه سلف الأمة .
إن
أي مراقب لأوضاع الأمة الإسلامية اليوم
يوقن تمام اليقين أن مشكلتها ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في
القضايا المختلف فيها بناء على اجتهاد أو تقليد ، لأن الخطأ في هذه القضايا يدور
بين الأجر والأجرين لمن تحرى وأجتهد كما هو معروف ، وليست فيمن يجهر بالبسملة أو
يخفضها ، ولكن المشكلة فيمن لا ينحني يوماً لله راكعاً ، ومشكلة المسلمين ليست في
مصافحة المرأة وعدم تغطية الوجه بالنقاب واليدين بالقفازين بل في تعرية الرؤوس
والنحور والظهور ولبس القصير الفاضح الذي يندي له الجبين ومشكلة المشاكل هي في وهن
العقيدة وتعطيل الشريعة واتباع الشهوات وشيوع الفاحشة وانتشار الرشوة والربا وخراب
الذمم وسوء الإدارة وترك الفرائض الأصلية وارتكاب المحرمات القطعية وموالاة أعداء
الله .
إن
مشكلة المسلمين تتمثل في إلغاء العقل وتجميد الفكر وتخدير الإرادة وإماتة الحقوق
ونسيان الواجبات وإضاعة أركان الإسلام ودعائم الإيمان وقواعد الإحسان .
إن من الخيانة لأمتنا أن نغرقها في بحر من الجدل
حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة اختلف فيها السابقون و تنازع فيها
اللاحقون ، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها
ومصائبها
سأل
رجل من أهل العراق ابن عمر عن دم البعوض في حالة الإحرام فقال : عجباً يسألون عن
دم البعوض وقد سفكوا دم ابن بنت رسول الله .
إنه
من الخيانة لدين الله أن يتقاذف الناس بكلمات أشدّ من الحجارة وأنكى من السهام من
اجل مسائل تحتمل أكثر من وجه وتقبل أكثر من تفسير ، وإن من واجب الدعاة والمفكرين
أن يشغلوا المسلمين بهموم أمتهم الكبرى ، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى
ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها. أنا لا أنكر أن الدين أطال الحديث عن الدارة
الآخرة ، وبث في النفوس الأشواق إلى نعيم الجنة كما بث فيها المخاوف من عذاب النار
، لكن هذا الإسهاب في الوعد والوعيد هو لتهذيب الغرائز وكبح جماحها ومنع طغيان
العاجلة على الآجلة .
أما
القصور في فهم الدنيا والعجز عن امتلاك زمام الحياة ، فهذا كله لا يدل على تقوى بل
يدل على طفولة فكرية يُضْارُّ بها الدين وتتقهقر بها تعاليمه والدين ليس شقشقة لسان ، إنه قبل كل شيء قلب
سليم وفكر مستقيم ينشأ عنه مجتمع كريم
وليس في تبادل الاتهامات تصديقاً لقول القائل :
إن يسمعوا
ريبة طاروا بها فرحاً عني وما سمعوا من
صالح دفنوا
جهلاً علينا
وجبناً عن عدوٍ همو لبئست الخلتان الجهل
والجبن
إن
تبادل الاتهامات لا يجرُّ على الأمة إلاّ الويلات حتى طمع بنا الأعداء وأصبحنا غنائم باردة لمن
هبَّ ودب ، اسمعوا إلى أخبار المذابح والمطاردة التي تتم ضد المسلمين هنا وهتاك ،
والتي تعتبر جزأً من معركة الكفر مع الإسلام في الوقت الذي تركنا فيه الإسلام وراء
ظهورنا ، وهجرنا القرآن والسنة الأمر الذي يوجب علينا أن نُغَيِّرَ من سلوكنا
ونحسن الأدب مع الله ومع أنفسنا ، لأن جمع الشمل أولى والتلاقي على أركان الإسلام
أهم من التخاصم على سفاسف الأمور .
وقد
نعى القرآن الأمة التي يصبح هذا حالها قال تعالى : { ولا يكونوا كالذين أُوتوا
الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون } الحديد 16
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق