السبت، 25 أكتوبر 2014

الانحرافات و البدع في رمضان

اقتضت حكمة الله ، أن يفرض الصوم على الأمة  التي حملت أمانة إقامة شريعة الله في الأرض ، وأن يكون الإيمان بالله وحده ، أساس عقيدتها  ومصدر منهجها ، و ضمانة سلوكها .
 إنه شهر القيام والاعتكاف وليلة القدر كما  وقعت فيه أهم الأحداث في تاريخنا ، وقد صامه أسلافنا ، فقهروا فيه كيان الباطل في بدر، وفتحوا مكة ، و استسلمت على أثرها ثقيف والطائف  و عبروا الأندلس ، وركبوا قمم جبال البرانس وقهروا الصليبيين في حطين ، وهزموا جحافل التتار في عين جالوت , حتى أحس العالم بمقدرة هؤلاء الصائمين ، الذين انسابوا في أقطار الأرض  يحملون النور و الهدى , فلم يمض عليهم سوى ثلاثة أرباع قرن من الزمان ، حتى تم لهم فتح ثلاثة أرباع  العالم ، طهروها من الظلم و الكفر  والاستبداد وملاؤها بالإيمان و الحق و العدل .
 مما كان مثار الإعجاب و التقدير ، فقد كان رمضان في نظرهم ، يرتبط ارتباطا وثيقا بالجهاد  وممارسة الشدائد ، ومجانبة الترف خلافاً لواقع مسلمي اليوم ، الذين تركوا الجهاد وهجروا العمل بكتاب الله ، حتى انتهى الأمر بهم إلى قراءة القرآن في المآتم ، لأرواح الأموات ، أو يستجدون به على أبواب المساجد ، أو يعلِّقونه تعاويذ وتمائم   وأحسنهم حالا من يقرؤه لحصول البركات      وتكثير الحسنات ، دون أن يكلف نفسه بشيءٍ من العمل بما فيه ، يشترون المصاحف و يهتمون بالمسابح ، ناسين أن العبرة ليست  بالأقوال وإنما بالأفعال ، وأن على من يقرأ القرآن ، أن يلتزم بتعاليمه و أحكامه ، حتى لا يكون ممن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه ، كمن يقرأ آيات الربا     ويتعامل بالربا ، ويقرأ آيات الصدق و يكذب وآيات العدل ويظلم ، وآيات الحق وهو على الباطل  ، الأمر الذي يجعلنا بحاجة إلى الصدق في صيامنا  فننظر إلى شهر رمضان نظرة واعية  تختلف عن النظرة التي يظنها الناس هذه الأيام  على أنه شهر الأطعمة الشهية ، والمشارب اللذيذة  والسهرات التافهة ، ولا ينبغي أن تفهم و سائل الإعلام في بلادنا ، أن رمضان شهر المسلسلات والفوازير  هذه النظرة التي ضيعت القوة المؤثرة في الصيام  حتى  أصبحت هذه العبادة عند كثير من الناس ، لا تمثل إلا صوراً جوفاء ، خالية من الروح  وأصبحت العقيدة عندهم ، مشوهة بالبدع و الخرافات ، التي اتخذها الناس لهم طريقا        ومنهاجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد انعكست هذه الصورة على هذه العبادة النبيلة  فأصابها ما أصابها من البدع ، التي  صرفتها عن حقيقتها  إلى مظاهر و احتفالات ، أبعد ما تكون  عن حقيقة الصيام ، وأصبحت صورة هذا الشهر الكريم ، في أذهان كثير من الناس ، لا تمثل سوى مجموعة من الاحتفالات المتخمة بالأطعمة والأشربة ، والبرامج الهزيلة ، والسهر في أماكن الترفيه ، للاستزادة من ملذات الدنيا . .
إن طبيعة هذا الشهر ، لا تتحمل ذلك ولا تقره  لأنه ليس كما يظنه البعض ، شهر استرخاء ونوم
و تقصير في ممارسة واجبات الحياة ، بل إنه في الواقع حافزٌ على القوة ، ودافعٌ إلى الجهاد         والعمل  وإن الأمم في أعقاب المتاعب التي تصيبها  تغِّيُر من سلوكها ، إذ يزهد الصغار والكبار ، عن كثير من المتع ، التي كانوا يألفونها ، وأنواع من المرح طالما ابتهجوا بها أيام الأمن والاستقرار .
 لقد كانت هذه عادة عربية قديمة ، فقد كانوا إذا نال منهم عدو ، أو حل بهم مكروه ، هجروا تقاليد الترف ، وصدوا عن أسباب اللهو والمجون   وما يسمح أحدهم لنفسه ، بسرور غامر أو ضحك عال ، إلا إذا نال  ثأره ، أو استرد ما فقده ، أو أوقع بخصمه مثل ما نزل به ، فإذا تم له ذلك قال وهو مستريح  
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً         أكـادُ أغص بالماء الفرات
 وما زال هذا التقليد باقياً بين المسلمين . إذ يقول شاعرهم :
 قوم إذ حاربوا شدوا مآزرهم      عن النساء و لو باتت بأطهار
ففي ساعات الجد ، لا يكترثون بهذه التوافه ، لان أيام الجهاد ، تفرض عليهم الاقتصاد في مظاهر الفرح والتسلية.  ما أحرانا مادامت هناك بلادٌ للمسلمين تُحتل ، وما دام جحد حقوقنا ظاهراً في أسلوب التبجح الذي نراه ونسمعه ، مما يحرمنا  الراحة والهدوء  أن نغِّير من أسلوبنا في هذا الشهر
ولماذا التوسع في الإنفاق والبذل على المرفهات  عند عشاق البعثرة والترفيه ، وهل آن الأوان لنراجع سلوكنا العام والخاص ؟ فَنَحُدَ من الإقبال على أماكن الدعة والهزل ، والسمر والغناء  ونلتزم بالمقصود الحقيقي من فريضة الصيام  وهي التدريب على ضبط النفس .
لقد علَّم النبي أصحابه ، على أن الاستسلام للشهوات المادية ، والحرص على الملذات ، سقوط بالهمة ، وخورٌ في العزيمة ، واسترخاء مع الشيطان فقال : ( إن القوم لما شبعت بطونُهم   سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم ، وجمحت شهواتهم ) . وقال : ( إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم و فروجكم و مضلات الهوى  )
وفي وصف عشاق الليونة والرخاوة ، والمظاهر الجوفاء قال : ( تعس عبد الدينار تعس عبد  الدرهم  تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة)   والقطيفة والخميصة ، أنواع من الأقمشة التي كان يحرص عليها طلاب الراحة .
إن ولع الكثيرين من المسلمين هذه الأيام ، باللهو واللعب ،  سيوردهم دار البوار ، ولا أدل على ذلك من موت القلوب ، وقبول الدنايا ، وعشق الدنيا ، وكراهية الموت .
 إن عبادة  الحياة ، و تكريس القوة لها ، علةٌ قديمة بين الناس ، وهي التي أرخصت القيم الرفيعة
وألهبت الغرائز الوضيعة ، وصرفت القصد عن الله   وفي مثلهم يقول الله سبحانه :{فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين }النجم 29
إن العلة تكمن في انتهاب الملذات من غير شبع  والبحث عنها دون اكتراث بحلٍ أو حرمة  فقد ضاعفت المدنية الحديثة ، الفرص لعبادة الحياة  والذي يدعوا للأسى ، أن المسلمين نافسوا الغرب  في التهاوي على هذه المتع ، لأنهم لم يفقهوا سرّ الصيام ، وسرَّ الحياة العفيفة المبنية عليه  وإلا لكان لهم موقف آخر ، إنهم لو أدركوا ، ما كانوا عليه وما صاروا إليه ، لكان لهم قبل الصيام صيام  وقبل القيام سهر يطير معه المنام .
 إن المسلمين كما نرى ، يستقبلون رمضان  على أنه شهرٌ لمشاهدة مسلسلات ، أقلها جادّ وأكثرها هازل ، تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية  وأغاني بعضها ديني  والآخر لا دين له  وفكاهاتٍ تخلق الأهواء الضاحكة ، و تسلي الناس التائهة .
أما البرامج الدينية ، فتقدم لنا مواعظ ، تقليدية ممجوجة ، لا يجد أكثر الناس رغبة في سماعها أو مشاهدتها. وكتابات إسلامية ، في موضوعات مختارة عن عمد ، لتخدير الفكر وتفتير الهمم   وأحفالٌ باهتة ، جرى رسمها وإخراجها ، بحيث تنعدم فيها الروح ، ويضعف التأثير ، مما يطمئن أعداء  الإسلام ، الذين لا يطلبون من أمة الإسلام أن تفعل بنفسها اكثر من ذلك .
 روي أن امرؤ  القيس ، عندما تعرض لهزة قال  هذا الشاعر الماجن ، يصف ما سيفعل :"اليوم خمر وغداً أمر " . لقد جعل لسكره حداً ، انه اليوم وحسب ، ومات وهو يناضل لاستعادة مجده  ولكن لسان حال الناس هذه الأيام ، اليوم خمر وغداً خمر ، فمتى يكون الصحو على هذا الأمر .
ونحن نتساءل ؟؟  ألا يستحق المسجد الأقصى  وقفة تدبر واستعبار ، يتلاوم فيها المفرِّطون ثم يغضبون لله ، غضبةً تمحو العار وتدرك الثأر  ولم لا نجعل من هذا الشهر ، بدايةً لتغير حياتنا ، لأن الصوم ليس امتناعا عن الأكل والشرب فحسب  لكنه جهادٌ وعطاء بالمال والروح ، إخلاصٌ ومحبةٌ وتقوى ، وقوةٌ وإرادةٌ ، وعبادةٌ واستغفار .
 يأتي رمضان ، وأخوه لنا في مناطق مختلفة من العالم ، تعصف بهم الفتن ، وتحيط بهم المؤامرات     إلى جانب حملات الإبادة ، والقتل والتدمير والتشريد . حيث يموت آلاف المسلمين من نيران الأسلحة  أو الأمراض التي تفتك بهم ، نتيجة عدم توفر العناية الصحيةِ الكافية ، ومن سوء التغذية  وهم أحوج ما يكونون لمساعدتهم ، على مقاومة الظلم والهوان والاستبداد .
 تلك هي رسالة الصوم ، بذلٌ وعطاء ، وجهاد وتعاطف ، وقهرٌ للنفس ، لا الجلوس في المتنزهات والمقاهي على الأرجيلة ولعب الورق ، والجلسات المختلطة ، والتي تسميها الأجهزة الإعلامية بالليالي الرمضانية ، ورمضان منها براء ، يقولون ذلك ، في تحدٍ سافر ، لحقيقة هذا الشهر ، التي تتمثل في التوبة ، والرجوع إلى الله ، وقراءة القرآن ، ومعرفة أحكام الصيام .
إنها مدرسة الصوم  تعد المسلمين للانتصار لا للهزيمة ، للقوه لا للضعف ، للصمود والشجاعة لا للخوف والتردد ، فعلينا أن نغتنم هذه الفرصة  ونصطلح مع الله ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق