هي
الأيام دول
هناك
من ينظر إلى قوة البغي والطغيان التي تهدد العالم على أنها قوة لا يستطيع أحد أن
يقف في وجهها ، فيسارع إلى استرضائها وتنفيذ سياستها وما تريد ليتفادى شرها
وتهديدها ، وهؤلاء يصدق فيهم قول الله
تعالى :) فترى الذين في قلوبهم مرض
يسارعون فيهم ، يقولون نخشى أن تصيبنا دائره (
المائدة 25 .
وترى
آخرين بائسين يائسين لا أمل عندهم في الخلاص من هيمنة هذا العدو ينتظر حتى يحين
دوره ، كما تنتظر الشياه سكين الجزار .
أما
من يؤمنون بالله واليوم الآخر وبما وعد الله ورسوله ، ويعرفون السنن التي يجريها
الله في خلقه ويتصرفون من خلالها ،
يغالبون قدراً بقدر ، حتى يأتي نصر الله الذي وعَد عباده متمثلين قول الله تعالى :)فعسى
الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده (
المائدة52
مؤمنين
بأن علو أمريكا إنما هو دورة من دورات الزمن ، وأن الزمن لن يقف عند هذا الحد ،
وأن التاريخ لن ينتهي لصالحها ، بل ستمر دورات ودورات تحقيقاً لقول الله تعالى : )
وتلك
الأيام نداولها بين الناس (
آل
عمران 140 .
بالرجوع
سيرة المصطفى r مَنْ كان يظن في ظل موازين القوى في بداية
الدعوة بين فريقين ، فريق قويٌّ مسيطر يملك كل شيء ، وآخر ضعيف مستعبد لا يملك
شيئاً ومع ذلك كان له من القوة والعزّة والمنعة ما ساد ثلاثة أرباع العالم ، فتحقق
ما قاله رسول الله r
لأصحابه في مكة فيبل الفتح ، عندما قال بعضهم من شدّة ما يلاقي من الأذى ولا يجد
ما يكف به ذلك ، ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فقال رسول الله r
:( والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله
أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري .
طلب
هذا الصحابي ذلك من رسول الله r
لما رأى شدّة التباين في موازين القوى بين معسكر الإيمان الضعيف مادياً في ذلك
الزمان ، وبين معسكر الكفر القوي مادياً ورأى من خلال المقاييس والحسابات المادية
والتصورات العقلية أنه ليس بإمكان
المسلمين النصر على العدو ، وأن ذلك لا يمكن حدوثه إلا من خلال عقوبة إلهية فطلب من الرسول r
الدعاء والاستنصار وكان موقف الرسول r من هذا التصور الذي قد يدفع بعض الناس إلى
الإحباط وفقدان الأمل يتمثل في أمرين :
1-
التبشير
بالنصر والتمكين وغلبة الحق وأهله
واندحار الباطل وجنده لقول رسول الله r
( والله ليتمنَّ هذا الأمر ) .
2-
دعوته بعدم
الاستعجال حيث ينبغي عليهم الصبر والتحمل والعمل والجد والاجتهاد لذا قال r
( ولكنكم تستعجلون ) .
وهذا
ما ينبغي علينا فعله اليوم إزاء تكبّر الأعداء وطغيانهم ، أن نبشر هذه الأمة بان
النصر سيكون حليفها وإن طال الزمان ، وعلى الباغي تدور الدوائر ، وأن ندعوهم إلى
العمل الصالح والإيمان الصادق ، والجد والاجتهاد ورفع لواء الجهاد قال تعالى:)
وأعدوا
لهم ما استطعتم من قوة(
الأنفال 60
وهذا
الموقف ينطلق من فهمٍ لما يعنيه قوله تعالى: )
وتلك
الأيام نداولها بين الناس( . أي أن النصر والغلبة في الحروب تكون تارة
للمؤمنين على الكافرين ، وتارة للكافرين على المؤمنين وذلك كله يجري بأسبابه التي قدّرها الله في إطار
المشيئة الربانية التي لها حِكماً عديدة من وراء علو الكافرين أحياناً ، وتسلطهم
على المسلمين .
إن
غلبة الكافرين للمسلمين ترجع إلى معصية المسلمين لربهم ، فعندما عصى المسلمون ربهم
وانتشرت بينهم المعاصي بغير نكير منهم ، عاقبهم الله بذلك واظهر عليهم الكافرين
جزاء ما فعلوا وقد دلت النصوص على أن
المؤمنين منصورون غالبون قاهرون مهما كانت قوتهم ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح
الكفار ، وذلك إذا أخذ المؤمنون بأسباب القوة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ولم
يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها قال تعالى:)وإن
جندنا لهم الغالبون(الصافات153
وقال تعالى:)إنا لننصر
رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (
غافر
51
وكان
عمر بن الخطاب يحذِّر جيوشه المنطلقة للقتال في سبيل الله من الوقوع في المعاصي
ويقول لهم : " إن أهم أمركم عندي الصلاة " أخرجه مالك .
وقد
بين ابن رواحه أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة وإنما ينتصرون بطاعة
المسلمين لله ومعصية الكافرين له ، ويقول عندما استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن
جمعوا جموعاً كثيرة :" لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة والرأي المسير إليهم
". وكانت الجيوش الإسلامية التي يبلغ تعدادها ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف
تقاتل الجيوش الكافرة التي تزيد على مائتين وخمسين ألفا ثم يكون النصر حليف المسلمين قال تعالى:)
كم
من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله (
البقرة
249 ثم يعقب الله بقوله )والله
مع الصابرين(
والصبر هنا وفي مثله من المواضع ، ليس هو الصبر الذي يفهمه كثير من الناس
اليوم بمعنى الإذعان للواقع والاستكانة للظلمة المتجبرين ، لأن من هذا حاله فإن
الله لا يكون معه .
وإنما الصبر المراد هنا هو تحمل المشاق في
الدعوة إلى الله والعمل الصالح رجاء ما عند الله من المثوبة وقد بين العلماء أن النصر والظفر قرين
الطاعة جاء في زاد المسير في قوله تعالى
: )
وتلك
الأيام نداولها (
معنى نداولها أي نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون ، فأما
إذا أطاعوا فهم منصورون .
وقال
القرطبي : قيل هذا في الحرب تكون مرّة للمؤمنين ينصر الله دينه ، ومرّه للكافرين
إذا عصى المؤمنون ليبتليهم وليمحص ذنوبهم ، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم
الغالبون ، ومن هنا يتبين أن الجيش المقاتل في سبيل الله عليه أن يحرص على الطاعات
والبعد عن الوقوع في المعاصي . ولله في ذلك حكمه ظهر أكثرها فيما ورد من الآيات
التي عالجت عزوة أحد والتي نصر فيها الكفار على المسلمين بسبب مخالفتهم لرسول الله
r
لا بسبب ضعفهم أو قلتهم قال تعالى)
أو
لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (آل
عمران 165.
بين أن ما لحق بهم كان لمعصيتهم بعد ما لاحت
بشائر النصر .
وقد
ذكر ابن القيم ما فهمه من الحكم المتعلقة بمداولة الأيام بين الناس في كتابه زاد
المعاد نذكر منه باختصار : أن من الحِكَمْ
والغايات المحمودة في ذلك تعريف المسلمين سؤ عاقبة المعصية والفشل والتنازع ، وأن
هذا أشد عليهم من أسلحة أعدائهم .
ومنها : أن الله لو نصر المؤمنين في كل موقف وكل
موقعة ، فلربما طغت نفوس أكثر الناس وبغوا في الأرض ، ووقع في نفوسهم أن النصر من
عندهم وليس من عند الله .
ومنها
: أن الله إذا امتحنهم بالهزيمة ذلوا وانكسروا وتضرعوا إلى الله ، فيستوجبون بذلك
من الله النصر والعز .
ومنها
: أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعدائه قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها
الهلاك : ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم
وقتالهم فيكون ذلك سبباً في تعجيل العذاب
لهم في الدنيا كما قال تعالى في بيان الحكمة من غلبة الكفار)
وليمحص
الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين(
آل عمران 149 . قال ابن كثير في قوله تعالى
ويمحق الكافرين أي إذا ظفروا بغوا وبطروا فيطغون فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم .
إن تسلط الكفار على المسلمين لن يدوم ، فهو
ابتلاء من الله وأن على المسلمين أن يأخذوا بأسباب النصر والتمكين ، الذي وعد به
عباده المؤمنين قال تعالى:)
وعد
الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض(
النور 55
وقال
r
: ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها
ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى منها
) نسأل الله أن يجعل ذلك قريباً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق