الاستمرار
على الطاعة بعد رمضان
كان شهر رمضان
ميداناََ يتنافس فيه المتنافسون ويتسابق فيه المتسابقون، ويحسن فيه المحسنون، خسر من
أدركه ولم يظفر من مغانمه بشيء ؛ خسر من حجبه الإهمال والكسل والتسويف وطول الأمل قال ﷺ
:( رغم أنف إمرءٍٍ دخل عليه رمضان وخرج ولم يغفر له ) فقد خسروا من عملوا الطاعات
وتزودوا من الخيرات في رمضان ، حتى إذا انتهى نقضوا ما أبرموا ، وعلي أعقابهم نكصوا واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ،
فكانوا كالتي نقضت غزلها قال تعالى : }
ولا
تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثا { النحل92 . فقد شبه الله الذي
يفعل الخير في رمضان ، ثم يعود إلى ما كان
عليه ، من الانحراف والفجور والعصيان بعد
رمضان ، بالمرأة التي كانت تزاول صناعة الصوف فتعالجه
حتى يصير خيطاً مستقيماً ، ثم تهجم عليه فتعيده صوفاً كما كان تُمضي يومها بدون نتيجة
فبقاء المسلم
ودوامه على العمل الصالح بعد رمضان علامة قبول له عند الله ، وإن تركه للعمل
الصالح بعد رمضان وسلوكه مسالك الشيطان دليل على الذلة والهوان ، والخسّة والدناءة
والخذلان ، وكما قال الحسن البصري : ( هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم ) .
وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد قال تعالى : ) ومن يهن الله فما له من مكرم (
الحج
18
ثم إن العلماء
قالوا : من علامات القبول أن الله يتبع الحسنة بعدها بالحسنة ، فالحسنة تقول أختي
أختي والسيئة تقول أختي أختي والعياذ
بالله ، فإذا قبل الله من العبد رمضان واستفاد من هذه المدرسة واستقام على طاعة
الله عز وجل ، فإنه يكون في ركاب الذي استقاموا واستجابوا لله قال تعالى :)
إن
الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (
الأحقاف
13. ثم ما الفائدة إذن من عبادة شهر
كامل إن أتبعتها بعودة إلى السلوك الشائن ؟علماً بأن أحب الأعمال إلى الله ما دووم
عليه وإن قل ، يقول الرسول ﷺ : ( أيها الناس عليكم من الأعمال ما
تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل
) وكان آل محمد ﷺ إذا عملوا عملاً ثبتوه أي داوموا عليه ، رواه مسلم .
ولما سئل
النبي ﷺ أي
الأعمال أحب إلى الله قـال : ( أدومه وإن قل) .
كما ينبغي
للمؤمن أن يعيش بين الرجاء والخوف قال: الحافظ بن رجب: لقد كان السلف يجتهدون في
إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يجتهدون بعد ذلك في الدعاء بقبوله ويخافون من رده
وإبطاله، قال علي رضي الله عنه: " كونوا لقبول العمل أشد اهتماماََ منكم
للعمل الم تسمعوا اللّه عز وجل يقول: ( إنما يتقبل اللّه من المتقين ) . فهل تحققت
التقوى بصيامنا ؟ ، هنيئاًً لمن تحققت التقوى عنده ، لأنه يكون من أكرم العباد عند
الله ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ الحجرات 13 ،
كما يكون ممن عناهم الله بقوله : ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجاً ﴾
الطلاق2، يقول ابن عباس : " والله لو انطبقت السموات والأرضين لجعل الله
للمتقين فتحات للنجاة ".
فكن
يا أخي المسلم كما عهدك ربك ، في شهر رمضان ، تائباً من ذنبك ، راغباً في رحمة
الله وثوابه ،خائفاً من نقمته وعذابه . وكن محافظاً على أداء الصلوات في أوقاتها ،
حريصاً على فضيلة القيام والجماعة ، مقبلاً على مجالس العلم مستعداً لقبول النصائح والعظات ، ولا تكن ممن يُقْبِلونَ
في رمضانَ على الطاعةِ والبرِ ، فإذا انسلخَ رمضانُ انسلخوا مِنْ كُلِ شيءٍ ،
فبئسَ القومُ الذينَ لا يعرفونَ اللهَ إلا في رمضانَ ، أينَ الذين تكاثروا في المساجدَ في رمضانَ ،
وازدحموا في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ وختمِ القرآن ، هل زاغتْ عنهم الأبصارُ أم حلتْ
بِهم قارعةٌ في الديار ، إنها المأساةٌ الكُبرى والخسارةٌ العظمى أنْ يبنيَ
الإنسانُ ثم يهدم ، وأَنْ يستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ ، فهل يليق بالمسلم
أن يترك الصلاة ، وفضائل الأعمال بعد رمضان ، ليعود إلى المخالفة والعصيان ، شأن من صام رمضان صياماً
صحيحاً ، وحافظ فيه على القيام وأخلص فيه النية ، وطّهر قلبه ، وهذّب نفسه وأنفق
ماله في وجوه الخير والصدقة ، حتى إذا انتهى شهر رمضان ، انقلب على عقبيه ، وعاد إلى شهواته وترك الصلاة ، وهجر المساجد وترك الجمع والجماعات .
ومن
الناس من لا ينتهي رمضان ، حتى تقوم فيهم
دولةُ البطون والفروج ، وتعاودهم لذةُ الطمع والجشع ، ويسارعون إلى كل منكر
وقبيح يقطعون الأرحام ، ويبعدون عن كل
واجب وينامون عن كل جميل ومعروف .
كأنما رمضان وحده ، هو شهر المحاسبة
والمراقبة والطهارة والنزاهة ، والخوف من
الله ، والتقرب إليه ، والسعي في طلب رحمته ومغفرته والمسارعة إلى جنته ورضاه ، وكأنه وحده سجن
الرذائل ومخبأ الشهوات ، ومعقل الشياطين ،
حتى إذا انتهى تحكمت الرذائل ، وسيطرت الشهوات وتولى قيادة الناس الشيطانُ الرجيم ، وما علموا
أن الاستجابة لله في رمضان ، تفرض عليهم أن يستجيبوا له في سائر الأيام ، فقد جاءت
النصوص الشرعية تأمر بعبادة الله والاستقامة على شرعه في كل زمان ومكان، وفي كل
وقت وآن، يقول الحسن البصري رحمه الله:" لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت،
وقرأ قوله سبحانه:﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر99.
علينا وإن
ودعنا رمضان ، أن لا نودع صالح الأعمال بعد رمضان، فلا ينبغي أن نجعل للطاعة وقتاً
وللمعصية أوقاتاً ، فالإله الذي يُصام له ويُعبد في رمضان، هو الإله في جميع
الأوقات والأزمان ، وإن من كفر النعمة وأمارات رد العمل: العودة إلى المعاصي بعد
الطاعة يقول كعب : " من صام رمضان وهو يحدث نفسه
أنه إذا خرج رمضان عصى ربه؛ فصيامه عليه مردود وباب التوفيق في وجهه مسدود " .
ما
هكذا يريد اللهُ لعباده ، إنه يريدهم
عباداً صالحين ، منفقين متصدقين ، وأن يكونوا إخواناً متراحمين ، يقهرون
نفوسهم ويحاربون أهواءهم . لأن المسلم الحق يظل في جدٍ واجتهاد ، وطاعةٍ وانقياد ،
حتى يلقى الله سبحانه .
ها
هو رمضان قد انتهى ، ونرجوا الله أن يكون كلٌّ منا قد أدى رسالته ، وحقق واجبه ،
فلعله علَّم قاطع الرحم ، كيف يصل رحمه ،
والعاق لوالديه ، كيف يكون باراً بهم ، والمسيء لجاره كيف يكون محسناً إليه
, والمذنب كيف يكون تائباً , لعلّ رمضان ،
علَّم الناس فعل الخير واصطناع المعروف ،
والصبر والتضحية وصدق العزيمة ، والصدق
والأمانة ، والوفاء والإخلاص ، هذه بعض الآثار الحسنه ، التي يتركها رمضان في
النفوس . فقد كان سلفنا الصالح ، يتألمون لفراق رمضان ، حتى أنهم كانوا يودعونه
بالبكاء ولسانُ حاله
رمضان
ولىّ فابك يا متعبد شهر به حزب الهداية يسعـد صحّتْ به الأجسام من أسقامها وابيّض فيه من القلوب
الأسود
كانوا يحرصون على ما فازوا به من معرفة , وما
نالوا من أجرٍ وجزاء , وما سُجِّلَ لهم فيه من حسنات في سجل الباقيات الصالحات .
ولكن للأسف ، من الناس من لا يعرف الله ولا يعبده إلا في رمضان ، حتى إذا ما انقضت
أيامه عاد إلى أحضان الذنوب والآثام ، وما علموا أن صاحب الفضل في رمضان ، هو صاحب
الفضل عليه في سائر الأيام , التي على الإنسان ، أن يُقْلِعَ فيها عن الذنوب
والمعاصي , والرذائل والنقائص والقبائح
والعيوب , حتى يلقى الله كما يجب عليه أن يكون . فيتمسك بالفرائض والسنن ويتحلى
بالمحامد والمحاسن , ويتجمل بكل مكارم الأخلاق . وإذا كان هذا حال الإنسان ، فإن
أيامه كلها رمضان
إذا ما المرء صام عن الخطايا فكل شهوره شهر الصيام
هاهي الأمة تودّع رمضان، لكنها لم تودِّع مآسيها
الدامية وآلامها المبرحة، وها هي تمر اليوم بمحن عظيمة، وجراح عميقة، ترى جراحها
في أغلب البلاد الإسلامية ، حروبٌ صليبية شرسة لتنحية الإسلام، وتجفيف
منابعه من أعداء الإسلام، متجاوزين كل الحدود والأعراف قتلٌ وتشريدٌ وهدم واغتصاب
: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ ﴾البروج 8 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق