الأحد، 26 أكتوبر 2014

ثمرة الصيام


كما فضل الله بعض البشر على بعض وبعض الأماكن على بعض فضّل بعض الزمان على بعض، وقد فضل الله شهر رمضان وجعله موسماً من مواسم الآخرة ، يتنافس فيه بعبادة الله المتنافسون  ويتسابق فيه لتحصيل الفوز عند الله المتسابقون، يتقربون فيه إلى ربهم بصيام النهار  وقيام الليل ، وتلاوة القرآن ، ويتقربون إلى الله بالطاعات ، والبعد عن المعاصي والمخالفات ، فيه يختبر الصائم نفسه ، هل اكتسب من صومه تقوى ربه .  
في الصيام إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله وخشيته ، فالصوم يوقظ القلوب، بل من أعظم ثمار الصيام، تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه ، يقول القسطلاني : معدداً ثمرات الصوم "ومنها رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة  فإن الشبع يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان" ، أما علاقة الشرب والأكل بالتقوى؟ فالأكل والشرب للبطن ، والتقوى مكانها القلب ، وقد دلت الأبحاث على أن كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته  وكما يقال : البطنة تذهب الفطنة ، والشبع يقسي القلب ويعميه، والرسول g يقول: ( ما ملأ أبن آدم وعاء شراً من بطنه ) كما في الترمذي وحسنه، وقال عمرو بن قيس: "إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب"  وقال الحارث بن كلدة؛ وهو الطبيب العربي المشهور: "الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء"، وقال سفيان الثوري: "إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل".. ولذلك فان تقليل الطعام والشراب ومباشرة النساء ينور القلب ويوجب رقته، ويزيل قسوته، فالصيام فيه كسب للنفس وتحلية القلب للذكر والفكر.
والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم  فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم في العروق ، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب.
واسمع لأهل التجارب والخبرات ممن عاشوا في عالم الروحانيات    فقد روى عن ذي النون المصري ، وهو العبد الصالح أنه قال: "تجوّع بالنهار وقم بالأسحار، ترى عجبا من الملك الجبار"، وقال يحي بن معاذ: "من شبع من الطعام عجز عن القيام " .
والإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله، ولذلك قال g : ( من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه ) البخاري، وقال : ( ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث ) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم .
هذه هي حقيقة الصيام ؛ فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ، فلا غش ولا كذب ولا غيبته ولا نميمة ولا سب ولا لعان ، وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته، وإلا دخلت في قول الرسول g : ( ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر ) أخرجه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري . وصدق من قال:
إذا لم يكن في السمع منى تصامم       وفى العين غض وفي منطقي صمتُ
فحظي إذا من صومي الجوع والظمأ  فإن قلت إني صمت يومي فما صمت ُ أف لنفوس لم يهذبها الجوع ، ولم يربها السجود والركوع، ولم يدربها الصيام ويعودها على الصبر وترك الشهوات.
قال ابن رجب : "كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعداً، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به، لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً، يا قوم أين آثار الصيام!! أين أنوار القيام!! أين شواهد الأحزان!! أجفانك للدموع أم أجفاني، لا تقبل دعوى بلا برهان"  فليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفوس، بل هو لتربيتها وتزكيتها ولينها ورقتها، فالقرآن يعلمنا أن الصوم إنما فرض لنذوق طعم الإيمان ، ونشعر براحة القلب وسعادة النفس ولذة الحياة ، وكل ذلك في مراقبة الله والخوف منه، فتقوى الله أعظم كنز يملكه العبد في الدنيا، وليس أشقى والله على وجه الأرض ، ممن يحرمون طمأنينة الأنس بتقوى الله ، التي هي ثمرة الصيام ، لأن الصوم أمر موكول إلى نفس الصائم ، لا رقيب عليه إلا الله  فهو سر بين العبد وربه، ولولا استشعاره لرقابة الله وانه يراه ، لما صبر عن الشهوات ، وصدق بشر بن الحارث بقوله: "ولا تجد حلاوة العبادة   حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً"، هذا السد هو خوف الله ومراقبته في السر والعلن .  
وقد بين الله سبحانه أن القرآن لا ينتفع به ويهتدي بهداه إلا المتقون، والصيام من أهم العبادات التي تكسب المؤمن تقوى الله كما قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ البقرة 183 .







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق