القضاء و القدر
القضاء
والقدر أو الجبر والاختيار أو حرية الإرادة . وباعتبار القضاء والقدر اسماً واحدا
لمسمىً واحد ، لم يوجد في أبحاث المسلمين إلا بعد وجود المتكلمين الذين كان لهم في
ذلك رأيان : أحدهما حرية الاختيار والثاني الإجبار ، وكان النقاش في هذا المسمى ،
إن مسمى القضاء والقدر معنى جاء في الفلسفة اليونانية ، وبرز أثناء الجدال الذي
كان يحصل بين المسلمين والكفار ، الذين كانوا يتسلحون في الفلسفة اليونانية ، وهو
معنى يتعلق بالعقيدة وكان لا بد من إعطاء
رأي الإسلام في هذا المعنى فالمعتزلة
أعطوا فيه رأيا وهو حرية الاختيار ، ورد عليهم الجبرية وأعطوا فيه رأيا آخر وهو
الإجبار ورد أهل السنة على الجميع وخرجوا
برأي ثالث تبنى على أساسه المسألة ، وهو
موضوع الثواب على الفعل والعقاب عليه ، وهل العبد ملزم على القيام بالفعل خيرا أم
شرّا أو مخَيَّرٌ فيه ؟ وهل له اختيار القيام بالفعل أو تركه أو ليس له
الاختيار؟ إن الإنسان يعيش في دائرتين ،
أحدهما يسيطر عليها ، وهي التي تقع في نطاق تصرفاته وضمنها تحصل أفعاله التي يقوم بها بمحض
اختياره والأخرى تسيطر عليه ، وهي التي
يقع هو في نطاقها وتقع ضمن هذه الدائرة ،
الأفعال التي لا دخل له بها ، سواء أوقعت منه أو عليه .
والإنسان
في نطاق هذه الدائرة مسيَّر ، كالأعمال التي تقع على غير إرادةٍ منه ، فقد أتى على
هذه الدنيا على غير إرادته ، وسيذهب عنها على غير إرادته ، ولا يمكن أن يخلق لنفسه
لون عينيه ولا حجم جسمه ، وإنما الذي أوجد ذلك كله هو الله تعالى .
وهناك
أفعال ليست في مقدور الإنسان ولا قِبَلَ له بدفعها ، ولا يقتضيها نظام الوجود ،
وهي التي تحصل من الإنسان أو عليه جبراً عنه ، ولا يملك دفعها ، فلو حملت الريح
ناراً من طبيعتها الحرق ووضعتها على بيدر
قش من طبيعته الاحتراق كان حمل الريح قضاء
، والخصائص التي في النار والقش قدرا ،
فقد التقى القضاء والقدر فكان احتراق بيدر القش فقيل ( قضاء وقدر )
أما
إذا باشر الإنسان هذا العمل باختياره ، كان هو فاعل الفعل ، لا القدر الموجود في
الشيء فإذا قام بإحراق بيدر القش ، كان هو فاعل الإحراق ،
لا النار التي تحرق بالخاصية المقدرة بها
وعليه يحاسب الإنسان على فعلة الإحراق ، لأنه هو الذي باشر بالقدر عملاً
معيناً باختياره
وعليه
فإن القدر لا يفعل شيئا بدون فعل فاعل
وكذلك القضاء لا دخل له في أفعال الإنسان التي يقوم بها باختيارٍ منه ،
وكما لو سقطت طائرة أو تدهورت سيارة فقتل الركاب ، هذه الحوادث تسمى قضاء وقدرا ،
لأن الله هو الذي قضى الفعل ، وليس للعبد اختيار ، لذا لا يحاسبه الله على ذلك ،
مهما كان حجم الضرر أو النفع ولا يثاب
ولا يعاقب ، وعلى الإنسان أن يؤمن بذلك وأنه من الله .
أما
الأفعال التي تقع في الدائرة التي يسيطر عليها الإنسان فإن
الأعمال التي تصدر منه أو عليه ضمن هذه الدائرة باختياره وإرادته ، فهو يأكل ويشرب
ويسافر متى يشاء هذه الأفعال وما شابهها يثاب عليها إن كانت مما
يستحق الثواب ويعاقب إن كانت مما يستحق
العقاب ، وهذه الأفعال لا دخل لها بالقضاء ، ولا دخل للقضاء بها .
أما
القدر : وهو إيجاد الأشياء طبقاً لعلمه الأزلي
فإنه لا يحتج علينا بهذا العلم ، لأن علم الله علم انكشاف ووضوح وليس
علماً ملزما ، لأن الإنسان لا يعلم ما في علم الله لأن علم
الله صفة قائمة بذاته ، فكما أن ذاته لا يمكن إدراكها فصفة علم الله لا يمكن إدراكها ، وهذا يتضح من
قوله تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } . جعل نصر الله متوقفا
على نصر الإنسان لنفسه مع الله أي ينصر الله بطاعته
سبحانه واتباع ما أمر به .
إن
الله قادر على أن يجعل الإنسان في المعصية
لكنه لا يفعل بدليل قوله تعالى :{وأما ثمود فهديناهم } أي أرشدناهم إلى
طريق الخير فماذا فعلوا ؟ { فاستحبوا
العمى على الهدى } أي اختاروا هم العمى على هدى الله إلى طريق الخبر .
وقال
عليه السلام ( اعملوا فكلٌ مُيّسرٌ لما خلق له ، فمن كان من أهل السعادة فسيصير
إلى عمل السعادة ، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل الشقاوة ، ثم تلا قوله تعالى : { فأما من أعطى واتقى وصدق
بالحسنى فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) الليل
10 . فمن كان عنده استعداد للخير وجهه الله إلى طريق
الخير ، ومن أعرض فالله غني عن العالمين
وقال تعالى:{ولو شئنا لرفعنا بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه}الأعراف
176 . فإذا ما قلت لإنسان صَلِ أجاب إذا كان يريد الله لي أن أصَلِّ صلَّيت ، نقول
لهذا وأمثاله بأن فعل الصلاة مرهون بهداهم أو ضلالهم قال تعالى :{إن شر الدواب عند
الله الصمُّ البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم
لتولوا وهم معرضين}الأنفال 22 .
إن
كل خطأ يقع فيه الناس يلقون فيه اللوم على القضاء والقدر ، والمفروض أن يعودوا
باللوم على أنفسهم ، لأنهم رفضوا أن يأخذوا بالنتائج ، فالله خلق العقل وأنزل القرآن
وبين الأوامر والنواهي ليعمل الناس على ضوئها ،
رجلاك التي جئت بها إلى المسجد بها أيضاً يمكن أن تذهب إلى الخمّارة لو سرت يميناً لسارت ولو سرت شمالاً لسارت وأنت لست
مجبوراً على السير إلى جهة معينه إنما
تسير بعقلك وبإرادتك وجوارحك وبما بينه الله في القرآن قال تعالى:﴿ فأما الذين
شقوا ففي النار لهم فيها زفيرٌ وشهيق وقال:﴿
وأما الذين سعدوا ففي الجنة ﴾ هود 106-107 أرجع
السعادة والشقاء للناس . فمن احتج بالقضاء والقدر أو احتج بالقدر على فعل المعصية
فقد أعظم على الله الفرية
وفي
ذلك دلالة على أن الإنسان هو الذي يفعل ذلك . والله لا يتدخل لأمر يريده ، وهذا
واضح في قوله تعالى: ﴿ لو شاء لهدى الناس جميعا ﴾ ولو شاء لفعل كذا وكذا ، ولكنه
ترك الإنسان يفعل الخير أو الشر باختياره .
وقد
يسأل سائل : أين نحن من قوله تعالى : ﴿ يهدي الله لنوره من يشاء ﴾ قد يكون المعنى
أن الله يهدي من يشاء يختاره الله فيهديه
، كما اختار الرسل والأنبياء ، لكن هناك معنى آخر نأخذه من المعنى اللغوي ، إن
الضمير في يشاء يعود إلى أقرب عائد لأنه صلة الموصول ، فهو يعود إلى من أي
يختار الله لنوره من يشاء الهداية لنفسه ، فإذا شاء الهداية هداه الله ، وإذا شاء
المعصية ، انغمس فيها قال تعالى :
﴿
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ المطففين 14
أما
الكتابة واللوح المحفوظ الذي ذُكر في كثير من الآيات فهي تعبير عن علم الله الأزلي كما في قوله تعالى
: { في لوح محفوظ } أي في علم الله تعالى ، وقوله : { وعندنا كتاب حفيظ } أي اللوح
المحفوظ ، وفيه جميع الأشياء المقدرة
وقوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها
ومستودعها كل في كتاب مبين }هود 6 . أي في علم الله تعالى .
فإذا
ما أمعنت النظر في الآيات القرآنية التي جاءت في القدر سواء
ورد فيها لفظ القدر صريحاً أو بلفظ الكتابة ، فإنها تؤدي معنى واحد وهو أنه لا يقع في هذا الوجود شيء لا في الأرض
ولا في السماء إلا وقد سبق أن قدره الله وسجله عنده ، وأن ما قدره وسجله ، لا بد
أن يقع ولا مفرّ من وقوعه . وإذا كان القدر كناية عن علم الله والكتابة عن علم
الله ، فإنه لا مجال للقول بأن الإنسان مجبر على القيام بأعماله ، لأن علم الله لا
يجبر العبد على القيام بالعمل لأن الله
علم أنه سيقوم بالعمل مختاراً ، ولم يكن قيامه بالعمل بناء على العلم ، بل كان
العلم الأزلي أنه سيقوم بالعمل وما
كان قيامه بالعمل ، مبنياً على الكتابة في اللوح المحفوظ وعلى
القدر الذي قدر عليه ، بل كان صادراً من العبد بإرادته هو واختياره هو ولا دخل للقدر بذلك ، بدليل محاسبة
الله للعباد على أعمالهم وأنها مقدرة عليهم
إلا أن الله رفع عنهم ما استكرهوا عليه أي ما اجبروا على القيام به لقول
رسول الله ( ص ) : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .
وقد
يقول قائل : إن الإنسان يفعل الفعل بإرادة الله ، فما معنى هذه الإرادة ؟
إرادة
الله أنه يترك العبد يفعل الفعل مختاراً
فإرادة الله ليس فيها معنى الإلزام للعبد ، فإما أن يختار الخير أو يختار
الشرّ فالله هو الآمر الناهي ويستطيع أن يمنع أحداً من
القيام أو الجلوس ولكنه بإرادته ترك من
شاء قام ومن شاء جلس فمن قام بإرادته ومن
جلس بإرادته . بهذا نفهم أن إرادة الله تترك الإنسان يفعل الفعل مختاراً فإما أن
يختار الخير أو الشرّ ومن هنا يأتي العدل الإلهي في إثابة المطيع وفي
معاقبة العاصي على فعل الشرّ .
لذا قال الحسن بن علي عندما سأله الحسن البصري
عن القضاء والقدر قال : من حمَّل ذنبه على ربه فقد فجر ، إن الله لا يُطاع
استكراها ولا يُعصى بغلبة ، فإن عمل
الناس بالطاعة ،لم يحل بينهم وبين ما عملوا ، وإن عملوا بالمعصية فليس هو الذي أجبرهم ، ولو أجبرهم على الطاعة
لأسقط الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب ، ولو أهملهم لكان عجزاً في
القدرة ، فإن عملوا بالطاعة فله المنة وإن
عملوا بالمعصية ، فله الحجة عليهم .
إن
الإيمان بالقضاء والقدر عقيدةٌ من العقائد الإسلامية التي
أُسست على الإيمان بالله ، وبنيت على المعرفة الصحيحة لذاته وصفاته ، فقد جاء فيما
يجب الإيمان به أن الله تعالى مُتصفٌ
بالعلم والإرادة والقدرة ، وأنه فعالٌ لما يُريد ، وعلى هذا الأساس قامت عقيدة
الإيمان بالقضاء والقدر وكان لها الأثر
البالغ في حياة المسلمين ، الذين لم يعرفوا الكسل ولا التواكل ، وآمنوا أن الإنسان
حينما يسير أو يعمل فهو في قضاء الله وتحت قبضة يده ، وأنه المحاسب له على عمل
الخير فيبتغي رضوان الله في كل أعماله
فيكون مؤثراً فاعلاً في هذه الحياة .
إن الأمة التي تفهم معنى القضاء والقدر وفعل
الإنسان ، أمةٌ تأتي بالعجائب ، فتنفض عنها غبار الكسل والذل والخمول فتجاهد وتحرر أرضها ونفسها من الفساد والضلال مستهديةً بما أمر
الله وتاركةً ما نهى عنه ومعتمدةً عليه ومؤمنةً بأن النصر
والقوة منه ، وأن عليها العمل والجد وأن
الأسباب مرتبطة بالمسببات ، فلا نصر من غير إعداد وتضحيةٍ وجهاد ، ولا رفعة من غير
عمل وبناء وجد ، ولا نهضةً من غير إيمان بالله وفكرٍ مستنير .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق