الأحد، 12 أكتوبر 2014

الابتلاء والواقع الذي نعيش

الابتلاء والواقع الذي نعيش

قال تعالى :) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( . العنكبوت 2
 أخبرنا الله تعالى بأن الحياة الدنيا فيها اختبار وابتلاء وامتحان .
اختبار للإيمان بالله وامتحان لحب الله في القلب وابتلاء للطاعة والمعصية ، والإيمان ليس كلمة تقال ، إنما هو حقيقة ذات تكاليف  فلا يكفي أن يقول الناس آمنا حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية قلوبهم .
والإيمان أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل ، وفيهم على حملها قدرة وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، إنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله وتحقيق كلمته في عالم الحياة .
ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى ، ثم لا يجد النصرة والقوة التي يواجه بها الطغيان وهناك فتن كثيرة في صور شتى منها فتنة الأهل الذين نخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعا ، وقد يهتفون به ليسالم أو يستسلم ، وهناك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة حين يغرق الناس في تيار الضلالة .
وهناك فتنة من نوع آخر نلمسها هذه الأيام وهي أن نجد أمماً ودولاً غارقةً في الرذيلة رغم تحضرها وغناها ، وأكبر هذه الفتن فتنة النفس والشهوة والرغبة في المتاع والسلطان وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان .
وأشدها وأقساها إبطاء نصر الله عند الإفلات إلى الدعة واتباع خطوات الشيطان   والنفس تصهرها الشدائد فلا يبقى إلا أشدها اتصالاً بالله وثقة فيما عنده من النصر أو الأجر . وقد تكفل الله بانتصار الإيمان والحق ووعد بذلك ، ولا يشك المؤمن بذلك فإن أبطأ فلحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله ، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ليكونوا أمناء على حق الله ، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء جاء في الصحيح : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإنه كان في دينه صلابة زيد له في البلاء ) . إن الإسلام الذي ساد قروناً من الزمان لا بد وأن يسير على الدرب الذي حدده القرآن قال تعالى :)هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون(
وما رواه الإمام أحمد أن النبي e قال :( إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ) . في ذلك دلالة على أن المستقبل للإسلام الذي جاء بأمور ليس لمر الزمن تأثير فيها ولا دخل له في حقائقها ، والزمن خاضع لمشيئة الله والله يريدنا أن نفهم أنه خالق الزمن ، ويخلق لكل حدث ما يناسبه وعلى المسلمين أن يلتمسوا ما يصلح شئونهم في كل زمان ومكان . وما نلمسه من الفرقة بين العرب والمسلمين فهي حقيقة  وستبقى حتى تعود وللإسلام مكانته العملية والتطبيقية ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ، لأن المسلمين في ذلك اليوم سيعودون إلى الدين . وقوته أكبر من إرادة البشر ، لأنها مبنية على السنة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس ، وحين يجيء ذلك اليوم ، فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل  من البشر أو أجيال ؟
فليس المهم متى يحدث ، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله ، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت إن شاء الله ينصر الله عباده ، واليوم عند الله مختلف بسبب المهمة التي ستقضى فيه أو الأحداث التي ستقع فيه ، وقد شاء الله أن يكون اليوم في الأرض أربعاً وعشرين ساعة ليناسب ذلك حياة الناس وطاقاتهم ، بخلاف اليوم عند الله قال تعالى :) وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون( الحج 47 . وقال تعالى :) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( المعارج 4. في الآيتين لفتة قرآنية تعلمنا أن الله يريد منا أن نفهم أنه خالق الزمن ، ويخلق لكل حدث ما يناسبه  فإذا أراد يوماً مقداره ألف عام خلقه ، وإذا أراد يوماً مدته خمسون ألف عام خلقه ، فليس هناك قيود على قدرة الله 
ويوم القيامة من الأزمنة في هذه الدنيا ، لا نستطيع أن نحدده لأنه غيب عنا ، ولكننا نعرف من القرآن الكريم أن زمن يوم القيامة يتسع لكل أحداثه بحيث لا يؤجل حدث إلى يوم آخر ، ولا يتم حدث باستعجال لأن الوقت قد انتهى ، بل إن الله خلق هذا اليوم بقدر ما سيتم فيه من أحداث بحيث يحشر الناس جميعاً كل في مكانه المحدد ويحاسب الناس جميعاً كل بحسابه . أما لماذا أسماه الله يوماً ؟ ذلك لنعلم أنه ليس له عدَ وأن الحساب لن يتم جزء منه في يوم ويؤجل الباقي إلى الغد ، بل سيظل الحساب مستمراً ومشاهد يوم القيامة تتم دون أن تكون فترة للراحة أو تأجيل  حتى يقضي الله بين الناس كلهم ، وقد يسأل سائل : هؤلاء الخلق منذ عهد آدم بلايين الناس ، كم يستغرق حسابهم ؟
هذا السؤال يضع قيوداً على فهم السائل لقدرة الله ، لأنه أخذ الحساب بمفهوم القدرة البشرية المحدودة ، وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كيف سيحاسب الله الناس جميعاً في وقت واحد ، قال : كما يرزقهم الله في وقت واحد .
إن الأمة تعيش أزمة تدعو كل عالم ومثقف ومفكر نزيه ، أن يحدد لها مكمن الخطأ والتقصير الذي يثير بعض التساؤلات : هل الأزمة التي تعاني منها الأمة أزمة سياسية ؟ أو فكرية أو ثقافية ؟ أم هي عقائدية ودينية ؟ وكيف المخرج .
لقد مرّت أمتنا منذ البعثة المحمدية وحتى اليوم بمراحل متعددة فقد جاء الإسلام فوحد الأمة ودفعها نحو القيادة والريادة ونشر الإسلام في العالم ، فصرنا بفضل الله قادة العالم وسادته لعدة قرون  ولا يستطيع أحدٌ أن يتجاهلنا ولا يتخطانا ، وأقمنا صرحاً حضارياً لا تزال معالمه ماثلة للعيان ، و أنتجنا ثقافة ما زلنا نتعايش عليها . وبدا العدُّ التنازلي والبعد عن أساس نهضتنا ، فتجمد فكرنا وتحولنا من المضمون إلى الشكل ، ومن القيم والأفكار إلى الأشياء  ففقدنا القيادة بل ضيعنا السيادة في بلادنا .
فاجتاحنا الكثير من برابرة العالم ، ابتداءً من الصليبيين الهمج ، إلى المغول البدو وأخيراً جاء الغرب الاستعماري بأساطيله وجنوده وثقافته ، فكانت أكبر ضربة تتلقاها الأمة في حياتها وقبل أن يرحل الاستعمار عن الأرض والعقول والقلوب ، زرع لغماً كبيراً هو إسرائيل ومدها بكل وسائل الاستمرار والتفوق وما يزال يمدها إلى اليوم . وهنا اذكر لكم قضيتين الأولى قديمة والثانية جديدة أما الأولى : في العصر العباسي أوصى المأمون أن يكون الخليفة من بعده المعتصم وليس ولده ، ولما كان المعتصم لم يتعلم جيداً فقد أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين على رأسهم ابن أبي الربيع  الذي كتب للمعتصم كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك . وكان الشخص الثاني إسحاق بن إبراهيم المصعبي ، وقد طلب إليه المعتصم أن يجيب لماذا نجح المأمون في تعاملاته وخلافته ، بينما لم ينجح المعتصم ؟ خاف المصعبي من غضب المعتصم إن هو صارحه السبب ، فطلب أن يعفيه من ذلك ، لكن المعتصم أصرَّ على رغبته بالحصول على جواب سليم مقنع فقال المصعبي هل أنا آمن من غضبك ؟ فرد المعتصم بالإيجاب .
قال المصعبي بإيجاز : لقد نظر أخوك إلى أصول فاستعملها فأنجب  واستعمل أمير المؤمنين فروعاً فلم تنجب شيئاً ، وهنا قال المعتصم ويحك يا مصعبي ، والله إن ما أعانيه أيسر عليّ من جوابك هذا هذه مشورة عمرها أكبر من ألف عام  .
أما القضية الثانية ، خلال الحرب العالمية تحالف الألمان واليابان والإيطاليون ضد الغرب بما في ذلك أمريكا ، وكانت حرباً قذرة بمعنى الكلمة ، خلت من كل رحمة فدكت المدن وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونا من البشر ، وجاع وتشرد الملايين ، ونهبت بلاد ومصانع وفرضت غرامات ، وضربت هيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية ، وانتهت الحرب بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية من قبل ، وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة فقد تقدم المغلوب على الغالب ، وتجاوز المهزوم هزيمته ومن هزمه ، فما سرُّ ذلك ؟ ما حصل في الحرب أن دُمِّر عالم الأشياء  ، أما الإنسان وفكره فقد بقي ، فأقام كيانه مجدداً وتخطى من هزمه ، فقد كان للدول الاشتراكية مجال السبق في إرسال صواريخ إلى الفضاء وتدفقت تكنولوجيات الصناعات المدنية عليها في الغرب ، مما اقلق أمريكا التي أعادت النظر في مناهج التعليم ، وفتحت أبوابها لهجرة العلماء من كل بقاع الأرض ، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخاً إلى الفضاء وكان ذلك بالنسبة لها عيداً .
هذا دليل على أن الأفكار هي الضابط لسير المجتمع ، والمانع من تراكم الأخطاء ، ألا ترون أن العالم الصناعي اليوم يهتم جداً بإنشاء مراكز البحث ، ويمدها بكل ما تحتاج .
في الوقت الذي تكاد تنعدم فيه مراكز البحث عندنا ، لقد افتقدت شخصية المسلم منهجيتها ، فعجزت عن معرفة مواطن الخلل كما عجز المسلمون عن درء الفتنة عن الأرض والحيلولة دون الفساد الكبير ، لأنها بحاجة إلى بروز قوامه العدل وشهادة العدل وأمة العدل وهذا منوط إلى حد بعيد بوعي الأمة المسلمة لذاتها ورسالتها لتصويب طريقتها ووعيها بالناس الذين كلفت بالشهادة عليهم قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ( النساء 135 .
وإذا كان من خصائص الأمة المسلمة الشهادة على الناس فإن النكوص والغياب عن هذه الشهادة إضاعة للحق والعدل والأمن وإيذان بالسقوط . والشهادة تتطلب معرفة ، ولا تقبل شهادةٌ من غير معرفة ، والسؤال هنا : هناك اليوم علوم ومعارف أكثر من أن تعد وتحصى ، فما المقصود بالمعرفة هنا ؟ كما ذكر عبد الحميد النجار في فقه التحضر الإسلامي " تعني شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس ، أن تكون هذه الأمة قائمةٌ في عقيدتها وفي عملها على السعي الدائم للعلم بالحقائق وتأسيس الحياة عليها ". وكما ذكر الإمام الغزالي : " بأن ثمة تلازماً قوياً بين علوم الدين وعلوم الدنيا ، فمن تعلَّم علماً واحداً فلا يكفي ، ومن تعلَّم علوم الحياة فقط فلا نصيب له في الآخرة  ومن تعلَّم علوم الدين وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصاً " . ولا أقصد بالعلم بالدين العلم المتخصص ، فذلك من نصيب نخبة من علماء الشريعة إنما المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة  تشتمل على أصول العقائد ومتطلبات العبادة الصحيحة والأخلاق الإسلامية بعيداً عن التأويلات ، وليس المطلوب علماً نظريا لا يكون له في السلوك نصيب ، فيكون التنظير بواد والعمل والفعل بواد آخر . قال تعالى : ) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ( القصص 77
  
        

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق