الابتلاء
والواقع الذي نعيش
قال تعالى :) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا
آمنا وهم لا يفتنون (
. العنكبوت 2
أخبرنا الله تعالى بأن الحياة الدنيا فيها
اختبار وابتلاء وامتحان .
اختبار
للإيمان بالله وامتحان لحب الله في القلب وابتلاء للطاعة والمعصية ، والإيمان ليس
كلمة تقال ، إنما هو حقيقة ذات تكاليف فلا
يكفي أن يقول الناس آمنا حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية
قلوبهم .
والإيمان
أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل ، وفيهم على حملها قدرة وفي
قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، إنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق
الله وتحقيق كلمته في عالم الحياة .
ومن
الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى ، ثم لا يجد النصرة والقوة التي يواجه بها الطغيان
وهناك فتن كثيرة في صور شتى منها فتنة الأهل الذين نخشى عليهم أن يصيبهم الأذى
بسببه وهو لا يملك عنهم دفعا ، وقد يهتفون به ليسالم أو يستسلم ، وهناك فتنة
الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة حين يغرق الناس في تيار الضلالة .
وهناك
فتنة من نوع آخر نلمسها هذه الأيام وهي أن نجد أمماً ودولاً غارقةً في الرذيلة رغم
تحضرها وغناها ، وأكبر هذه الفتن فتنة النفس والشهوة والرغبة في المتاع والسلطان
وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان .
وأشدها
وأقساها إبطاء نصر الله عند الإفلات إلى الدعة واتباع خطوات الشيطان والنفس تصهرها الشدائد فلا يبقى إلا أشدها
اتصالاً بالله وثقة فيما عنده من النصر أو الأجر . وقد تكفل الله بانتصار الإيمان والحق
ووعد بذلك ، ولا يشك المؤمن بذلك فإن أبطأ فلحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله
، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ويقع
عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ليكونوا أمناء على حق الله ، وأن
يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء جاء في الصحيح : ( أشد
الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإنه
كان في دينه صلابة زيد له في البلاء ) . إن الإسلام الذي ساد قروناً من الزمان لا
بد وأن يسير على الدرب الذي حدده القرآن قال تعالى :)هو الذي أرسل
رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون(
وما
رواه الإمام أحمد أن النبي e
قال :( إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ) .
في ذلك دلالة على أن المستقبل للإسلام الذي جاء بأمور ليس لمر الزمن تأثير فيها
ولا دخل له في حقائقها ، والزمن خاضع لمشيئة الله والله يريدنا أن نفهم أنه خالق
الزمن ، ويخلق لكل حدث ما يناسبه وعلى المسلمين أن يلتمسوا ما يصلح شئونهم في كل
زمان ومكان . وما نلمسه من الفرقة بين العرب والمسلمين فهي حقيقة وستبقى حتى تعود وللإسلام مكانته العملية
والتطبيقية ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ، لأن المسلمين في ذلك اليوم سيعودون
إلى الدين . وقوته أكبر من إرادة البشر ، لأنها مبنية على السنة التي أودعها الله
في الفطرة وتركها تعمل في النفوس ، وحين يجيء ذلك اليوم ، فماذا يعني في حساب
العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال ؟
فليس
المهم متى يحدث ، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله ، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت
إن شاء الله ينصر الله عباده ، واليوم عند الله مختلف بسبب المهمة التي ستقضى فيه
أو الأحداث التي ستقع فيه ، وقد شاء الله أن يكون اليوم في الأرض أربعاً وعشرين
ساعة ليناسب ذلك حياة الناس وطاقاتهم ، بخلاف اليوم عند الله قال تعالى :)
وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون(
الحج 47 . وقال تعالى :)
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( المعارج 4. في الآيتين لفتة قرآنية تعلمنا
أن الله يريد منا أن نفهم أنه خالق الزمن ، ويخلق لكل حدث ما يناسبه فإذا أراد يوماً مقداره ألف عام خلقه ، وإذا
أراد يوماً مدته خمسون ألف عام خلقه ، فليس هناك قيود على قدرة الله
ويوم
القيامة من الأزمنة في هذه الدنيا ، لا نستطيع أن نحدده لأنه غيب عنا ، ولكننا
نعرف من القرآن الكريم أن زمن يوم القيامة يتسع لكل أحداثه بحيث لا يؤجل حدث إلى
يوم آخر ، ولا يتم حدث باستعجال لأن الوقت قد انتهى ، بل إن الله خلق هذا اليوم
بقدر ما سيتم فيه من أحداث بحيث يحشر الناس جميعاً كل في مكانه المحدد ويحاسب
الناس جميعاً كل بحسابه . أما لماذا أسماه الله يوماً ؟ ذلك لنعلم أنه ليس له عدَ
وأن الحساب لن يتم جزء منه في يوم ويؤجل الباقي إلى الغد ، بل سيظل الحساب مستمراً
ومشاهد يوم القيامة تتم دون أن تكون فترة للراحة أو تأجيل حتى يقضي الله بين الناس كلهم ، وقد يسأل سائل
: هؤلاء الخلق منذ عهد آدم بلايين الناس ، كم يستغرق حسابهم ؟
هذا
السؤال يضع قيوداً على فهم السائل لقدرة الله ، لأنه أخذ الحساب بمفهوم القدرة
البشرية المحدودة ، وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كيف سيحاسب الله الناس
جميعاً في وقت واحد ، قال : كما يرزقهم الله في وقت واحد .
إن
الأمة تعيش أزمة تدعو كل عالم ومثقف ومفكر نزيه ، أن يحدد لها مكمن الخطأ والتقصير
الذي يثير بعض التساؤلات : هل الأزمة التي تعاني منها الأمة أزمة سياسية ؟ أو
فكرية أو ثقافية ؟ أم هي عقائدية ودينية ؟ وكيف المخرج .
لقد
مرّت أمتنا منذ البعثة المحمدية وحتى اليوم بمراحل متعددة فقد جاء الإسلام فوحد
الأمة ودفعها نحو القيادة والريادة ونشر الإسلام في العالم ، فصرنا بفضل الله قادة
العالم وسادته لعدة قرون ولا يستطيع أحدٌ
أن يتجاهلنا ولا يتخطانا ، وأقمنا صرحاً حضارياً لا تزال معالمه ماثلة للعيان ، و
أنتجنا ثقافة ما زلنا نتعايش عليها . وبدا العدُّ التنازلي والبعد عن أساس نهضتنا
، فتجمد فكرنا وتحولنا من المضمون إلى الشكل ، ومن القيم والأفكار إلى
الأشياء ففقدنا القيادة بل ضيعنا السيادة
في بلادنا .
فاجتاحنا
الكثير من برابرة العالم ، ابتداءً من الصليبيين الهمج ، إلى المغول البدو وأخيراً
جاء الغرب الاستعماري بأساطيله وجنوده وثقافته ، فكانت أكبر ضربة تتلقاها الأمة في
حياتها وقبل أن يرحل الاستعمار عن الأرض والعقول والقلوب ، زرع لغماً كبيراً هو
إسرائيل ومدها بكل وسائل الاستمرار والتفوق وما يزال يمدها إلى اليوم . وهنا اذكر
لكم قضيتين الأولى قديمة والثانية جديدة أما الأولى : في العصر العباسي أوصى
المأمون أن يكون الخليفة من بعده المعتصم وليس ولده ، ولما كان المعتصم لم يتعلم
جيداً فقد أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين على رأسهم ابن أبي الربيع الذي كتب للمعتصم كتاب سلوك المالك في تدبير
الممالك . وكان الشخص الثاني إسحاق بن إبراهيم المصعبي ، وقد طلب إليه المعتصم أن
يجيب لماذا نجح المأمون في تعاملاته وخلافته ، بينما لم ينجح المعتصم ؟ خاف
المصعبي من غضب المعتصم إن هو صارحه السبب ، فطلب أن يعفيه من ذلك ، لكن المعتصم
أصرَّ على رغبته بالحصول على جواب سليم مقنع فقال المصعبي هل أنا آمن من غضبك ؟
فرد المعتصم بالإيجاب .
قال
المصعبي بإيجاز : لقد نظر أخوك إلى أصول فاستعملها فأنجب واستعمل أمير المؤمنين فروعاً فلم تنجب شيئاً ،
وهنا قال المعتصم ويحك يا مصعبي ، والله إن ما أعانيه أيسر عليّ من جوابك هذا هذه
مشورة عمرها أكبر من ألف عام .
أما
القضية الثانية ، خلال الحرب العالمية تحالف الألمان واليابان والإيطاليون ضد
الغرب بما في ذلك أمريكا ، وكانت حرباً قذرة بمعنى الكلمة ، خلت من كل رحمة فدكت
المدن وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونا من البشر ، وجاع وتشرد الملايين ، ونهبت
بلاد ومصانع وفرضت غرامات ، وضربت هيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية ، وانتهت الحرب
بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية من قبل ، وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة فقد
تقدم المغلوب على الغالب ، وتجاوز المهزوم هزيمته ومن هزمه ، فما سرُّ ذلك ؟ ما حصل
في الحرب أن دُمِّر عالم الأشياء ، أما
الإنسان وفكره فقد بقي ، فأقام كيانه مجدداً وتخطى من هزمه ، فقد كان للدول
الاشتراكية مجال السبق في إرسال صواريخ إلى الفضاء وتدفقت تكنولوجيات الصناعات
المدنية عليها في الغرب ، مما اقلق أمريكا التي أعادت النظر في مناهج التعليم ،
وفتحت أبوابها لهجرة العلماء من كل بقاع الأرض ، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخاً إلى
الفضاء وكان ذلك بالنسبة لها عيداً .
هذا
دليل على أن الأفكار هي الضابط لسير المجتمع ، والمانع من تراكم الأخطاء ، ألا
ترون أن العالم الصناعي اليوم يهتم جداً بإنشاء مراكز البحث ، ويمدها بكل ما تحتاج
.
في
الوقت الذي تكاد تنعدم فيه مراكز البحث عندنا ، لقد افتقدت شخصية المسلم منهجيتها
، فعجزت عن معرفة مواطن الخلل كما عجز المسلمون عن درء الفتنة عن الأرض والحيلولة
دون الفساد الكبير ، لأنها بحاجة إلى بروز قوامه العدل وشهادة العدل وأمة العدل
وهذا منوط إلى حد بعيد بوعي الأمة المسلمة لذاتها ورسالتها لتصويب طريقتها ووعيها
بالناس الذين كلفت بالشهادة عليهم قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط
شهداء لله ولو على أنفسكم (
النساء 135 .
وإذا
كان من خصائص الأمة المسلمة الشهادة على الناس فإن النكوص والغياب عن هذه الشهادة
إضاعة للحق والعدل والأمن وإيذان بالسقوط . والشهادة تتطلب معرفة ، ولا تقبل
شهادةٌ من غير معرفة ، والسؤال هنا : هناك اليوم علوم ومعارف أكثر من أن تعد وتحصى
، فما المقصود بالمعرفة هنا ؟ كما ذكر عبد الحميد النجار في فقه التحضر الإسلامي
" تعني شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس ، أن تكون
هذه الأمة قائمةٌ في عقيدتها وفي عملها على السعي الدائم للعلم بالحقائق وتأسيس
الحياة عليها ". وكما ذكر الإمام الغزالي : " بأن ثمة تلازماً قوياً بين
علوم الدين وعلوم الدنيا ، فمن تعلَّم علماً واحداً فلا يكفي ، ومن تعلَّم علوم
الحياة فقط فلا نصيب له في الآخرة ومن
تعلَّم علوم الدين وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصاً " . ولا
أقصد بالعلم بالدين العلم المتخصص ، فذلك من نصيب نخبة من علماء الشريعة إنما
المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة
تشتمل على أصول العقائد ومتطلبات العبادة الصحيحة والأخلاق الإسلامية
بعيداً عن التأويلات ، وليس المطلوب علماً نظريا لا يكون له في السلوك نصيب ،
فيكون التنظير بواد والعمل والفعل بواد آخر . قال تعالى : ) وابتغ فيما آتاك الله الدار
الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (
القصص
77
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق