إن
السعادة والهناء ، والفرح والسرور ، لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته ، من خلال
التزام هذا الدين عقيدة وشريعة ومنهج حياة ، وتأدية العبادات على الوجه المطلوب
شرعاً فتكون السعادة بنوال رضى الله
سبحانه ، لا كما يرى البعض بأنها إشباع الجوع ، والحصول على المتع المختلفة في الحياة الدنيا ، وبهذا تكون السعادة مؤقتة ،
بخلاف السعادة في نظر الإسلام ، التي يحرص على أن تكون أبدية وقد قيل بأن الحياة الطيبة هي : حياة القناعة كما فسرها علي
بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ، وفي القناعة يقول عليه الصلاة والسلام : ( القناعة
مال لا ينفذ ) وقيل هي : "الأياس مما في أيدي الناس وإياكم والطمع فإنه
الفقر الحاضر " وكان عمر بن الخطاب يشتهي الشيء فيدافعه عن نفسه سنة كاملة
لشدة قناعته .
وقال سعد بن أبي وقاص :
" عليك باليأس من الرغبات والشهوات فإنك لم تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه
" وقال عيسى عليه السلام : " كلوا من بقل البرية واشربوا من الماء
القراح واخرجوا من الدنيا بسلام " . أو ليست هي السعادة
والطمأنينة ؟ أي وربي ، فكل الباحثين عن السعادة ، وكل من تكلم عن الحياة الطيبة ،
لن يصلوا إليها إلا بالعمل الصالح يقول إبراهيم بن ادهم : ( والله إننا لفي نعمة
لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف ) .
إذن : هي نعمة الإيمان والطمأنينة ، إنها السعادة الحقيقة التي
لم يجدها الكثيرون من الناس .
لهذا جعل الإسلام الحياة الطيبة السعيدة ، لكل من
التزم بهدي الله وطاعته ،مصداقاً لقوله تعالى : ]من
عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياةً طيبة
[
النحل
97
. دلت الآية على أنه لا بد للعمل الصالح ، من قاعدةٍ يرتكز عليها ، إنها قاعدة
الإيمان ، لقوله تعالى وهو مؤمن ، فلا يكون بناء ، ولا تجتمع رابطةٌ ، بغير
الإيمان ، يصاحب ذلك العقيدة ، التي تجعل للعمل الصالح باعثاً وغايةً ، فلا يتزعزع
ولا يميل ، مع الأهواء والشهوات ، مما يحقق السعادة ، التي تطيب بها الحياة ، وذلك
بالاتصال بالله والثقة والاطمئنان إلى
رعايته ، وستره ورضاه وعندما قيل لعبد
الواحد بن زيد رحمه الله : " متى يكون العبد راضيا عن ربه ؟ قال : إذا قنع
بما قسم الله له وسرته المصيبة كما تسره النعمة " فالقناعة هي التي تورث
الرضا عن الله سبحانه وتعالى ، والرضا عن الله سبحانه ، هو الذي يجعل الحياة طيبة
في الدنيا وطيبة في الآخرة .
كان عبد الله بن مرزوق من ندماء المهدي فسكر يوما ففاتته الصلاة
فجاءته الجارية بجمرة فألقتها على رجله وهو نائم ، فانتبه مذعورا فقالت له :
" إذا لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصبر على نار الآخرة ؟ فقام فصلى وزهد في
الدنيا ، وخرج من حاشية المهدي ، وراح يبيع البقل فدخل عليه الفضيل بن عياض رحمه
الله فقال له : " لقد تركت الدنيا لله ، وما ترك أحد شيئا لله إلا عوضه الله
عنه ، فما عوضك الله عما تركت ؟ قال : عوضني الرضا بما أنا فيه " . وإذا سألت
اليوم مصريا طيبا كيف حالك ؟ فسيقول لك : رضا . وهذه أبلغ إجابة على وجه الأرض .
فما من حال أحسن من حال الرضا ، لذا قال تعالى لحبيبه محمد r : ] ولسوف يعطيك ربك فترضى [. وقيل : أوحى الله تعالى
لموسى عليه السلام : " أتدري لم رزقت الأحمق : قال : لا يا رب . قال : ليعلم
العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال " . وقال بعض العرب :
ولا تجزع إذا عسرت يوما فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تظنن بربك ظن سوء فإن اللـه أولـى بالجميل
ولو أن العقول تسوق
رزقا لكان المال عند ذوي العقول
دخل علي بن أبي طالب المسجد وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد :
" أمسك بغلتي فأخذ الرجل لجامها ومضى
وترك البغلة فخرج علي وفي يده درهمان ليكافئ بها
الرجل على إمساك البغلة ، فوجد البغلة واقفة بغير لجام ، فركبها ومضى إلى السوق
ليشتري لجاما ، فوجد اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين فقال علي رضي الله
عنه : " إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ، ويزداد على ما قدر
له" . وقيل لراهب : " من أين تأكل ؟ فأشار إلى فيه ، وقال : إن الذي خلق
هذه الطاحونة يأتيها بالطحين " . وصلى معروف الكرخي خلف إمام فلما فرغ من
صلاته قال الإمام لمعروف : " من أين تأكل ؟ قال : أصبر حتى أعيد صلاتي التي
صليتها خلفك . قال : ولم ؟ قال : لأن من شك في رزقه شك في خالقه ، وقال عمر بن أبي
عمر اليوناني وقد ضاق رزقه في بغداد على زمانه :
غلا السعر في بغداد من بعد رخصة
وإني في الحـالين بالله واثق
فلست أخاف الضيق والله واسع
غناه ولا الحرمان والله رازق
وما من حياة أطيب من
حياة الرضا بما أنت فيه ، قانعا بما أنت عليه ، متلهفا لما أنت صائر إليه ، ولولا
الرضا لما استمرت الحياة فالرضا هو الذي جعل الحائك سعيدا بمهنته وهي
قليلة الرزق والحلاق مسرورا بحرفته وهي عديمة الوجاهة ،
والسياسي مزهوا بوظيفته وهي غير مأمونة العواقب ، والصحفي معجبا بعمله وهو لا يعرف
النوم الهادئ ، إذن سر الحياة الطيبة القناعة بالزرق والرضا
بما قسم الله ، وهذا ما عبر عنه رسول الله r
: ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ
عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ) رواه الترمذي
. وقال r : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ
وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ) رواه
مسلم .
ويكون الرضا بالفرح بالعمل
الصالح ، وبانشراح الصدور وراحة الضمير ، وهو ما ينشده كل مسلم ، يؤمن بالله
واليوم الآخر . قال عليه الصلاة والسلام :
( إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين ، وجعل الغم والحزن
في السخط والشك ) فبرضا الإنسان عن نفسه وربه ، يطمئن إلى يومه وحاضره ،
وبيقينه بالله والآخرة والجزاء ، يطمئن إلى غده ومستقبله . وقد ربطت سنة الله ،
الغم والحزن ، بالسخط والشك ، فالساخطون والشاكون ، لا يذوقون للسرور طعما لأن حياتهم سوادٌ وظلام . والساخط إنسانٌ دائم
الحزن ، دائم الكآبة ، ضيق الصدر ، لأنه يعيش في سخطٍ دائم ، وغضبٍ مستمر ، ساخطٌ
على الناس ، وعلى نفسه بل على كلِّ شيء . وقد قيل : " من غضب على الدهر طال
غضبه ، ولهذا تراه يندب حظه دائماً ، حزينٌ بتفكيره وسلوكه " .
وشعور الإنسان بالرضا
، من أول أسباب السكينة النفسية ، التي هي سرُّ السعادة . وفي الحديث الذي رواه
البزار ( من سعادة المرء استخارته ربه ، ورضاه بما قضى ، ومن شقاء المرء تركه
الاستخارة وعدم رضاه بالقضاء ) ، فكل أمرٍ مقدورٍ يكتنفه أمران : الاستخارة
قبل وقوعه ، والرضا بعد وقوعه ، والسعيد من جمع بينهما ، وذلك هو المؤمن ، الذي
يسأل الله ، قبل إقدامه على أمرٍ من الأمور ، أن يهديه إلى أرشد الأعمال وأهدى
السبل
ومن الأدعية التي
علَّمها لنا رسول الله r
: ( اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فيسره لي وبارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا
الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان
، ثم رَضِّني به ) رواه البخاري .
والمؤمن السعيد ، هو
الذي يحس تلك الحالة النفسية ، التي تجعله مستريح الفؤاد ، منشرح الصدر ، غير
متبرِّمٍ ولا ضجر ، ولا ساخطٍ على نفسه ، ولا على الكون والحياة والأحياء ، ومنشأ
ذلك الرضا الناتج عن الإيمان بالله رب العالمين .
إن الله قد قرن الفرح
بالرضا ، كما قرن الغم بالسخط ، ومن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ، والساخط
تراه في أوج سعادته ، يقول إنه غير مسرور ، فإذا قلت له لماذا ؟ يقول لك لا أدري ،
فهو في همٍ دائم وشقاء ملازم ، وما درى أن الرضا والقناعة ، هما سبيل الرشاد إلى
سعادة الإنسان . قال r
: ( الزهدُ في الدنيا يُريح القلب والبدن ، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن
) . وسنورد هذه القصة التي ترينا ما صنعه الإيمان بقلوب المؤمنين . ذكر ابن القيم
في زاد المعاد عند ذكر الوفود " قدم وفد نجيب من اليمن ، وهم ثلاثة عشر رجلا
مسلماً فسرَّ بهم النبي r
وأكرم منـزلتهم ، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم ،
وجلسوا يسألون النبي ويتعلمون منه ، وأقاموا أياماً ولم يطلبوا المكث رغبةً في رجوعهم إلى قومهم ، ليعلموهم مما علمهم
رسول الله ثم جاءوا إلى رسول الله r
يُودِعونه ، فأرسل إليهم بلالاً فأجازهم ، بأرفع ما كان يجيز به الوفود ، ثم قال :
هل بقي منكم أحد ؟ قالوا : نعم _غلامٌ خلفناه على رحلنا ، هو أحدثنا سناً قال:
أرسلوه إلينا .. فلما رجعوا إلى رحالهم .. قالوا للغلام : انطلق إلى رسول الله r
فاقض حاجتك منه ، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه ، فأقبل الغلام حتى أتى رسول
الله r
فقال : يا رسول الله : إني من بني أبذى _ الرهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم ، فاقض حاجتي يا رسول الله .
قال: وما حاجتك ؟
قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي _ وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام _ وساقوا
ما ساقوا من صدقاتهم . وإني _ والله _ ما أقدمني من بلادي ، إلا أن تسأل الله عز
وجل ، أن يغفر لي ويرحمني ، وأن يجعل غناي في قلبي . فقال رسول الله r
( اللهم اغفر له ، وارحمه واجعل غناه في قلبه ) . ثم أمر له بمثل ما أمر
به لرجل من أصحابه ، فانطلقوا راجعين إلى أهلهم . ثم وافوا رسول الله r
بمِنَىً سنة عشر للهجرة فقالوا : نحن بنوا أبذى ، فقال رسول الله r
ما فعل الغلام الذي أتاني معكم ؟ قالوا : يا رسول الله : ما رأينا مثله قط وما
رأينا أقنع منه بما رزقه الله ، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ، ولا
التفت إليها ، فقال الرسول : الحمد لله ، إني لأرجو أن يموت جميعا ، فقال رجلٌ
منهم : أوَ ليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله ؟ فقال الرسول r
مبيناً لهم أن من الناس من يموت مشتتاً موزعا _ تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية
الدنيا ، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية ، فلا يبالي الله عز وجل في أيها
هلك ) .
قليل من الناس ، بل
أقل من القليل ، الذي يعيش لغاية واحدة ويجمع همومه في هم واحد ، يحيا له ، ويموت عليه
، ذلك هو المؤمن البصير ، الذي جعل غايته الفرار إلى الله ، وسبيل إتباع ما رسم
الله وكل شيء فيه لله وبالله ، متمثلاً قول الله ]
إن
صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العلمين [
الأنعام
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق