قال تعالى :{ولَنَجْزِينَّ
الذين صَبَرُوا أجرهُم بأحسنِ ما كانوا يَعْلمون}النحل 96 . وقال تعالى : {إنما
يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب}الزمر 10 . إنَّ الصبر من معالم العظمة ،
وشارات التقدير ومظهر الكمال في الرضا
والأمل ، ولما سئل النبي ﷺ مَنْ أشدُّ
الناس بلاء قال : ( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الناس على قدر
دينهم فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ، ومن ضعف
دينه ضعف بلاؤه ، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) .
من الخطأ أن
يحسب المسلم أن تلاحق الأذى عليه دليل على نسيان الله له وقد قيل :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
إن الصبر
فضيلة تجعل الإنسان هادئاً ، وتُبْعد عنه الطيش ، وله منزله كبرى في الآخرة ، حيث
أضاف الله اكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر
وجعلها ثمرة له ، فما من قُرْبةٍ إلا وأجراها الله بتقدير وحساب ، إلا
الصبر فإن الأجر فوق التقدير والحسبان .
والصبر أنواع
: إما بدني كتحمل المشاق والثبات عليها . وإما بالفعل كالصبر على العبادات .
وإما
بالاحتمال كالصبر على المرض الشديد .
ومن الصبر ما
هو محمود ،كالصبر على شهوة البطن والفرج ، ويسمى عفة ، أو في كظم الغيظ والغضب
ويسمى حلماً .
كما أن أخلاق
الإيمان كلها داخلة في الصبر ولهذا لما
سئل رسول الله ﷺ
عن الإيمان قال: (هو الصبر) . وقد عدهّ النبي عليه السلام من إحدى علامات
الإيمان . فقد سأل رسول الله ﷺ جماعة (
أمؤمنون أنتم ؟ فقال عمر نعم يا رسول الله ، فقال فما علامة إيمانكم ؟ فقال : نشكر
على الرخاء ، ونصبرُ على البلاء ونرضى
بالقضاء ، فقال: مؤمنون ورب الكعبة)
إن الإنسان
يحتاج إلى الصبر في كل أفعاله وتصرفاته ، سواء كانت في طاعة الله أو معصيته لأن الصبر على الطاعة ، شديد على النفس لأنها تُنَفِرُ عن كثير من العبادات ، إلا من
وفقه الله فبعض العبادات يكرة بسبب الكسل ، وإيثار الراحة كالصلاة ، ومنها ما يكره
بسبب البخل والشح كالزكاة ، وبسبب الكسل والبخل كالحج والجهاد .
إن عشره
المؤمنين ، والإبقاء على مودتهم والإغضاء
عن هفواتهم ، أمر يحتاج إلى الصبر وفي
هذا يقول عبد الرحمن بن عوف :" ابتلينا بالضراء فصبرنا ، وابتلينا بالسراء
فلم نصبر" .
إن إتقان
العمل أمرٌ يحتاج إلى الصبر ، حتى لا يقصِّر الإنسان ، ولا يغفل عن الله أثناء
عمله ولا يتكاسل ، ويتمسك بآداب العمل
وسننه ولعل ذلك هو المراد بقوله تعالى :{نعم
أجر العاملين . الذين صبروا}العنكبوت58 .
ويحذِّر المؤمنين من الإتيان بما يبطل العمل قال
تعالى :{ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }. وتجنب المعاصي ، أمرٌ
يحتاج إلى الصبر . قال الرسول ﷺ: ( المهاجر
من هجر السوء والمجاهد من جاهد هواه ) .
إن الصبر من
أشق الأشياء على النفوس ، فقد يكون بحسب قوة الداعي إلى الفعل ، وقد يكون الصبر
أيسر لسهولته كشرب الخمر . ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه ، فالصبر عنه
أشق لذا كان صبر السلطان عن الظلم ،
والشباب عن الفاحشة ، والغني عن تناول اللذات والشهوات له منزلةٌ عظيمة عند الله . فقد ورد في الصحيح
عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: (سبعة
يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق
بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات
جمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم
شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) .
إن من كان
داعيه في حق الناس ضعيف ، ولم يصبر مع قدرته على الصبر ، فإن عقوبته عند الله
أشدُّ من عقوبة غيره ، كالشيخ الزاني ، والملك الكذاب ، والفقير المحتال ، فهؤلاء
عقوبتهم أشدُّ من غيرهم ، لسهوله التصبّر عن هذه المحرمات عليهم ، وضعف دواعيها في
حقهم ، فكان ترك الصبر عنها تمرد وعتوٍ على الله ، لهذا كان الصبر عن معاصي الفرج
واللسان ، والغيبة والكذب والمراء ، وأنواع المزاح المؤذي للقلوب . فقد ثبت عن
النبي عليه السلام أنه قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو على
مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) .
وأعلى مقامات
الصبر على المصائب وسائر أنواع البلاء ، كالموت وهلاك الأموال ، وزوال الصحة
بالمرض ، وهو من الله عز وجل شديد على النفس
لذلك قال النبي ﷺ: ( أسألك
من اليقين ما تهوِّن علىَّ به مصائب الدنيا) . وروى مسلم ان رسول الله ﷺ
قال : (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله به ، إنا لله وإنا اليه
راجعون اللهم أجُرْني في مصيبتي ، وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته
واخلف له خيراً منها )
إن الإنسان و
أهله وماله وولده ملك لله ، وهي عند الإنسان بمرتبة الإعارة والوديعة ، فإذا أخذ
الله منها شيئاً ، فهو يأخذ ما أعاره وأتمنه عليه وانشدوا بهذا المعنى :
وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وبما أن مصير
الإنسان ومرجعه إلى الله ، يأتي ربه يوم القيامة فرداً ، كما خلقه أول مره ، بلا
أهل ولا مال ولا عشيرة ، لكنه يأتي بأعماله ، وفي هذا يقول الرسول ﷺ
في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (يتبع الميت ثلاثةُ فيرجع اثنان ، ويبقى
معه واحد ، يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله ) .
أما الجزع
والتذمر وكراهية المصيبة ، والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة ، فذلك غير جائز
كالتذمر من طول المرض وشدته ، وتمني الموت نتيجة ذلك ، فهذا لا يجوز لحديث رسول
الله ﷺ الذي رواه البخاري ومسلم ( لا
يتمنى أحدكم الموت لضرٍّ أصابه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فليقل اللهم أحيني ما
كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) .
حتى أن بعض
الناس يكفرون ويعترضون على قضاء الله ، ويدعون على أنفسهم بالهلاك عند طول المصائب
، وهم يحسبون أن المصيبة تبرر لهم استحلال القبائح والخطايا ، حتى أن وقع المصيبة
عند ضعاف الإيمان ، يجعلهم يُقْدِمون على الانتحار ، هؤلاء وأمثالهم يكون إيمانهم
سطحي لم يصل إلى أعماق قلوبهم ، هذا
الفريق من الناس مزعزع العقيدة ، إن أصابه ما يحب فرح بذلك واطمأن ، وإن امتحن
بالبلاء والشدة ، ارتد فخسر الدنيا والآخرة قال تعالى :{ومن الناس من يعبُد
الله على حرف ، فإن أصابهُ حيرٌ اطمأنَّ به وإن أصابتهُ فتْنةٌ ، انقلب على
وجْهِهِ خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين }الحج 11.
إن المطلوب من
الإنسان إظهار الرضا بقضاء الله عند المصيبة ، ولنا في أصحاب رسول الله ﷺ
أسوةٌ حسنة . فقد أخرج الطبراني والقصة في الصحيحين لما روى عن الرُميضاء أم سليم
أنها قالت :"توفَيّ ابنٌ لي وزوجي أبو طلحة غائب ، فقمت فسجيته في ناحية
البيت ، فقدم أبو طلحة فقمت فهيأت له إفطار فجعل يأكل ، فقال كيف الصبي ؟ قلت
بأحسن حال بحمد الله ومنّه ، فإنه لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة ، ثم تصنعْتُ
له أحسن ما كنت له قبل ذلك ، حتى أصاب منى حاجته ثم قلت ألا تعجب من جيراننا قال :
مالهم ؟ قلت : أُعيروا عارية ، فلما طُلبتْ منهم ، واستُرْجِعَتْ جزعوا فقال : بئس
ما صنعوا ، فقلت هذا ابنك كان عارية من الله تعالى ، وإن الله قد قبضة اليه فحمد
الله واسترجع ، ثم غدا على رسول الله ﷺ فاخبره فقال
( اللهم بارك لهما في ليلتهما) فقد
روى أن الله رزقهم سبعة أولاد كلهم قد قرْوا القرآن .
وقد قيل :
الصبر الجميل هو أن لا يُعْرَفْ صاحب المصيبة من غيره .
إن من سنن
الله في الخلق أن يفتنهم ويبتليهم بالخير والشر ، ليميز الخبيث من الطيب والصادق
من الكاذب . قال تعالى :{أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ،
ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين
}العنكبوت 2.
وقد تعهد الله للمؤمن بأن يعطيه
بكل مصيبةٍ تناله صغيرة كانت أو كبيرة ، من الشوكة يشاكها ، إلى موت عزيز ، إلى
ذهاب مال وغير ذلك من المصائب ، تعهد الله بإعطاء الأجر لينسى الإنسان المصيبة ،
ويتمنى لو أنها كانت أكبر ، ليكون الأجر عليها أكبر . روى البخاري ومسلم أن رسول
الله ﷺ
قال : (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب - أي مرض - و لا همٍ ولا حزنٍ ولا أذى ولا
غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها
من خطاياه).
ومما يخفف من
وقع المصيبة ، اعتقاد الإنسان أن الآجال محدودة والأعمار بيد الله . قال تعالى :{وما
يُعَمَّر من مُعَمَّر ولا يُنْقَصُ من عُمُره إلا في كتاب}فاطر 11 . ومما
يساعد على تحمل المصائب اعتقاد المصاب أن
مرارة الدنيا هي بعينها حلاوةً في الآخرة . أخرج مسلم والترمذي أن رسول الله ﷺ
قال : (حقت الجنة بالمكارة وحقت النار
بالشهوات )
ومما يغري
المؤمن أنه إذا صبر واحتسب مصيبته لوجه الله ، رجاء أن يخلفه الله خيراً منها
ويعوضه عن مصابه قول رسول الله ﷺ : ( إن عظم
الجزاء من عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ، ومن
سخط فله السخط ) .
إن الصبر
فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه
بل هي من أعظم الفضائل ، ولذلك فإن منزلة الصابرين عند الله من اشرف
المنازل ، حتى أن الله يعط على الصبر من الثواب ، ما لم يعط على سائر العبادات .
قال ﷺ
( إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة ، فما يبلغها بعمل ، فما زال يبتليه بما
يكره حتى يُبلِّغُه إياها ". وانشدوا :
بنى الله للأخيار بيتاً سماؤه هموم وأحزان وحيطانه الضُرُّ وأدخلهم فيه واغلق بابه وقال لهم مفتاح بابكم الصبر
وقال ﷺ (
الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن
ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء ) .
إن الله تعالى
يبتلي عبده ليسمع شكواه ، وتضرعه ودعاءه ، وصبره ورضاه ، وقد ذم الله من لم يتضرع
اليه وقت البلاء ، والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه ، ولا يشكو إليه حاله ، فقد
أثنى الله على أنبيائه حين شكوا ما بهم إلى الله ، فقال على لسان أيوب :{ إني
مسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين } وعلى لسان موسى :{ إني لما أنزلت إليََّّ
من خير فقير} وعلى لسان خاتم النبيين ( اللهم إني اشكوا إليك ضعف قوتي ،
وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أنت أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين ) .
فالشكوى إلى
الله لا تنافي الصبر ولا الرضا ، بل إنه يحب من يشكو ما به إليه ، ويمقت من يشكوه
إلى خلقه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق