السبت، 25 أكتوبر 2014

الصبر


قال تعالى :{ولَنَجْزِينَّ الذين صَبَرُوا أجرهُم بأحسنِ ما كانوا يَعْلمون}النحل 96 . وقال تعالى : {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب}الزمر 10 . إنَّ الصبر من معالم العظمة ، وشارات التقدير   ومظهر الكمال في الرضا والأمل ، ولما سئل النبي مَنْ أشدُّ الناس بلاء قال : ( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الناس على قدر دينهم  فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه ، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) .
من الخطأ أن يحسب المسلم أن تلاحق الأذى عليه دليل على نسيان الله له  وقد قيل :                                                                                                                                                     على قدر أهل العزم تأتي العزائم     وتأتي على قدر الكرام المكارم     وتعظم في عين الصغير صغارها      وتصغر في عين العظيم العظائم
إن الصبر فضيلة تجعل الإنسان هادئاً ، وتُبْعد عنه الطيش ، وله منزله كبرى في الآخرة ، حيث أضاف الله اكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر  وجعلها ثمرة له ، فما من قُرْبةٍ إلا وأجراها الله بتقدير وحساب ، إلا الصبر فإن الأجر فوق التقدير والحسبان .
والصبر أنواع : إما بدني كتحمل المشاق والثبات عليها . وإما بالفعل كالصبر على العبادات .
وإما بالاحتمال كالصبر على المرض الشديد .
ومن الصبر ما هو محمود ،كالصبر على شهوة البطن والفرج ، ويسمى عفة ، أو في كظم الغيظ والغضب ويسمى حلماً .
كما أن أخلاق الإيمان كلها داخلة في الصبر  ولهذا لما سئل رسول الله عن الإيمان قال: (هو الصبر) . وقد عدهّ النبي عليه السلام من إحدى علامات الإيمان . فقد سأل رسول الله جماعة ( أمؤمنون أنتم ؟ فقال عمر نعم يا رسول الله ، فقال فما علامة إيمانكم ؟ فقال : نشكر على الرخاء ، ونصبرُ على البلاء  ونرضى بالقضاء ، فقال: مؤمنون ورب الكعبة)  
إن الإنسان يحتاج إلى الصبر في كل أفعاله وتصرفاته ، سواء كانت في طاعة الله أو معصيته  لأن الصبر على الطاعة ، شديد على النفس  لأنها تُنَفِرُ عن كثير من العبادات ، إلا من وفقه الله فبعض العبادات يكرة بسبب الكسل ، وإيثار الراحة كالصلاة ، ومنها ما يكره بسبب البخل والشح كالزكاة ، وبسبب الكسل والبخل كالحج والجهاد .
إن عشره المؤمنين ، والإبقاء على مودتهم  والإغضاء عن هفواتهم ، أمر يحتاج إلى الصبر   وفي هذا يقول عبد الرحمن بن عوف :" ابتلينا بالضراء فصبرنا ، وابتلينا بالسراء فلم نصبر" .
إن إتقان العمل أمرٌ يحتاج إلى الصبر ، حتى لا يقصِّر الإنسان ، ولا يغفل عن الله أثناء عمله   ولا يتكاسل ، ويتمسك بآداب العمل وسننه   ولعل ذلك هو المراد بقوله تعالى :{نعم أجر العاملين . الذين صبروا}العنكبوت58 .
 ويحذِّر المؤمنين من الإتيان بما يبطل العمل قال تعالى :{ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }. وتجنب المعاصي ، أمرٌ يحتاج إلى الصبر . قال الرسول : ( المهاجر من هجر السوء  والمجاهد من جاهد هواه ) .
إن الصبر من أشق الأشياء على النفوس ، فقد يكون بحسب قوة الداعي إلى الفعل ، وقد يكون الصبر أيسر لسهولته كشرب الخمر . ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه ، فالصبر عنه أشق  لذا كان صبر السلطان عن الظلم ، والشباب عن الفاحشة ، والغني عن تناول اللذات والشهوات  له منزلةٌ عظيمة عند الله . فقد ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي قال: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل  وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) .
إن من كان داعيه في حق الناس ضعيف ، ولم يصبر مع قدرته على الصبر ، فإن عقوبته عند الله أشدُّ من عقوبة غيره ، كالشيخ الزاني ، والملك الكذاب ، والفقير المحتال ، فهؤلاء عقوبتهم أشدُّ من غيرهم ، لسهوله التصبّر عن هذه المحرمات عليهم ، وضعف دواعيها في حقهم ، فكان ترك الصبر عنها تمرد وعتوٍ على الله ، لهذا كان الصبر عن معاصي الفرج واللسان ، والغيبة والكذب والمراء ، وأنواع المزاح المؤذي للقلوب . فقد ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) .
وأعلى مقامات الصبر على المصائب وسائر أنواع البلاء ، كالموت وهلاك الأموال ، وزوال الصحة بالمرض ، وهو من الله عز وجل شديد على النفس  لذلك قال النبي : ( أسألك من اليقين ما تهوِّن علىَّ به مصائب الدنيا) . وروى مسلم ان رسول الله قال : (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله به ، إنا لله وإنا اليه راجعون اللهم أجُرْني في مصيبتي ، وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته واخلف له خيراً منها ) 
إن الإنسان و أهله وماله وولده ملك لله ، وهي عند الإنسان بمرتبة الإعارة والوديعة ، فإذا أخذ الله منها شيئاً ، فهو يأخذ ما أعاره وأتمنه عليه وانشدوا بهذا المعنى :
 وما المال والأهلون إلا ودائع         ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وبما أن مصير الإنسان ومرجعه إلى الله ، يأتي ربه يوم القيامة فرداً ، كما خلقه أول مره ، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، لكنه يأتي بأعماله ، وفي هذا يقول الرسول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (يتبع الميت ثلاثةُ فيرجع اثنان ، ويبقى معه واحد ، يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله ) .
أما الجزع والتذمر وكراهية المصيبة ، والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة ، فذلك غير جائز كالتذمر من طول المرض وشدته ، وتمني الموت نتيجة ذلك ، فهذا لا يجوز لحديث رسول الله الذي رواه البخاري ومسلم ( لا يتمنى أحدكم الموت لضرٍّ أصابه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) .
حتى أن بعض الناس يكفرون ويعترضون على قضاء الله ، ويدعون على أنفسهم بالهلاك عند طول المصائب ، وهم يحسبون أن المصيبة تبرر لهم استحلال القبائح والخطايا ، حتى أن وقع المصيبة عند ضعاف الإيمان ، يجعلهم يُقْدِمون على الانتحار ، هؤلاء وأمثالهم يكون إيمانهم سطحي  لم يصل إلى أعماق قلوبهم ، هذا الفريق من الناس مزعزع العقيدة ، إن أصابه ما يحب فرح بذلك واطمأن ، وإن امتحن بالبلاء والشدة ، ارتد فخسر الدنيا والآخرة قال تعالى :{ومن الناس من يعبُد الله على حرف ، فإن أصابهُ حيرٌ اطمأنَّ به وإن أصابتهُ فتْنةٌ ، انقلب على وجْهِهِ خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين }الحج 11.
إن المطلوب من الإنسان إظهار الرضا بقضاء الله عند المصيبة ، ولنا في أصحاب رسول الله أسوةٌ حسنة . فقد أخرج الطبراني والقصة في الصحيحين لما روى عن الرُميضاء أم سليم أنها قالت :"توفَيّ ابنٌ لي وزوجي أبو طلحة غائب ، فقمت فسجيته في ناحية البيت ، فقدم أبو طلحة فقمت فهيأت له إفطار فجعل يأكل ، فقال كيف الصبي ؟ قلت بأحسن حال بحمد الله ومنّه ، فإنه لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة ، ثم تصنعْتُ له أحسن ما كنت له قبل ذلك ، حتى أصاب منى حاجته ثم قلت ألا تعجب من جيراننا قال : مالهم ؟ قلت : أُعيروا عارية ، فلما طُلبتْ منهم ، واستُرْجِعَتْ جزعوا فقال : بئس ما صنعوا ، فقلت هذا ابنك كان عارية من الله تعالى ، وإن الله قد قبضة اليه فحمد الله واسترجع ، ثم غدا على رسول الله فاخبره فقال ( اللهم بارك لهما في ليلتهما)  فقد روى أن الله رزقهم سبعة أولاد كلهم قد قرْوا القرآن .
وقد قيل : الصبر الجميل هو أن لا يُعْرَفْ صاحب المصيبة من غيره .
إن من سنن الله في الخلق أن يفتنهم ويبتليهم بالخير والشر ، ليميز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب . قال تعالى :{أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين }العنكبوت 2.
 وقد تعهد الله للمؤمن بأن يعطيه بكل مصيبةٍ تناله صغيرة كانت أو كبيرة ، من الشوكة يشاكها ، إلى موت عزيز ، إلى ذهاب مال وغير ذلك من المصائب ، تعهد الله بإعطاء الأجر لينسى الإنسان المصيبة ، ويتمنى لو أنها كانت أكبر ، ليكون الأجر عليها أكبر . روى البخاري ومسلم أن رسول الله قال : (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب - أي مرض - و لا همٍ ولا حزنٍ ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها  إلا كفّر الله بها من خطاياه).
ومما يخفف من وقع المصيبة ، اعتقاد الإنسان أن الآجال محدودة والأعمار بيد الله . قال تعالى :{وما يُعَمَّر من مُعَمَّر ولا يُنْقَصُ من عُمُره إلا في كتاب}فاطر 11 . ومما يساعد على تحمل المصائب  اعتقاد المصاب أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوةً في الآخرة . أخرج مسلم والترمذي أن رسول الله قال :  (حقت الجنة بالمكارة وحقت النار بالشهوات ) 
ومما يغري المؤمن أنه إذا صبر واحتسب مصيبته لوجه الله ، رجاء أن يخلفه الله خيراً منها ويعوضه عن مصابه قول رسول الله : ( إن عظم الجزاء من عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط ) .
إن الصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه  بل هي من أعظم الفضائل ، ولذلك فإن منزلة الصابرين عند الله من اشرف المنازل ، حتى أن الله يعط على الصبر من الثواب ، ما لم يعط على سائر العبادات . قال ( إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة ، فما يبلغها بعمل ، فما زال يبتليه بما يكره حتى يُبلِّغُه إياها ". وانشدوا :
 بنى الله للأخيار بيتاً سماؤه       هموم وأحزان وحيطانه الضُرُّ          وأدخلهم فيه واغلق بابه        وقال لهم مفتاح بابكم الصبر
وقال ( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء ) .
إن الله تعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه ، وتضرعه ودعاءه ، وصبره ورضاه ، وقد ذم الله من لم يتضرع اليه وقت البلاء ، والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه ، ولا يشكو إليه حاله ، فقد أثنى الله على أنبيائه حين شكوا ما بهم إلى الله ، فقال على لسان أيوب :{ إني مسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين } وعلى لسان موسى :{ إني لما أنزلت إليََّّ من خير فقير} وعلى لسان خاتم النبيين ( اللهم إني اشكوا إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أنت أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين ) .
فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ولا الرضا ، بل إنه يحب من يشكو ما به إليه ، ويمقت من يشكوه إلى خلقه.   

    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق