جرت
سنة الله في خلقة ، إن يفتنهم ويختبرهم ليميز الخبيث من الطيب ، قال تعالى : {أحسب
الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين }
العنكبوت
3 .
اعتاد الظالمون إن يضطهدوا الذين يخالفونهم في
سلوكهم المنحرف ، ويناهضونهم في أفكارهم الباطلة ، ولم يسايروهم في أهوائهم ،
وينزلوا بهم أنواع المحن ، بعد أن أعرضوا عن أشكال المنح ، التي قُدِمَتْ إليهم في ذلةٍ وصغار ، ولكن أني للنفوس الكريمة
ذات المعدن الطيب ، إن تغري بمال ، ويسيل لعابها على فتات الدنيا ، أو تستمال بعرض
زائل من الحياة ، فلقد استعدوا للمحن ، وتحملوا نارها بصبر وجلد ، وصابروا شدة
بأسها بعزم و احتساب ، لأنهم فقهوا قول الله {قل نارُ جهنم أشد حراً لو كانوا
يفقهون}التوبة 84
.
كان أئمة المسلمين على مدار التاريخ ، في مقدمة
الذين أصابتهم المحن ، ونزلت بهم الشدائد فخرجوا منها ظافرين ، مصداقاً لقوله (ص)
(لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق منصورين ).رواه
البخاري ومسلم .
كانت هذه الطائفة على مدار التاريخ ، تقف الى جانب الحق ، الذي آمنت
به مؤمنةً بتوفيق الله ونصره ، وأن النصر
الحقيقي هو نصر العقيدة ، وظهور الحق جلياً للعيان ، وأن البقاء في الدنيا هو
للعقيدة والحق ، وأن المُمْتَحَنون لهم الذكر الجميل على مرّ الأيام .
يقول أبن القيم : الحق منصورٌ ومستحسن فلا تعجب
، فهذه سنة الرحمن ، وعلى مدار التاريخ ، يقع النزاع بين الفجور والتقوى ، وتكون
الغلبة للتقوى ، والخسرانُ للفجور، في نفس من أضل الله ، فكان ولا يزال التنازع ،
بين الخير والشر ، والعدل والظلم ، والحق والباطل ، فمنذ أن عصى إبليس أمر ربه في
السجود لآدم ، بدأ الشرُ المتمثل بإبليس ، يتنازع مع الخير المتمثل في أمر الله .
ومهما
طال النزاع ، ومهما كسب الشر من نصر ، فالبقاء للخير لأنه الأصح ، ولأن سنة الله
قضت بذلك قال تعالى :{وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}الإسراء
81 .
إن طريق الدعوة إلى الله ، شاقٌ محفوفٌ بالمكارة
، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه ، إلا أن هذا النصر ، إنما يأتي في موعده ،
الذي يقدره الله ، وفق علمه وحكمته ، وأما الذين يضعون الأقنعة على الإسلام ،
ويصفونه بصفات كالديمقراطية هذه الأيام وما إليها ، ظانين بأنهم يخدمون الإسلام
بهذه التقدمة الذليلة . متجاهلين أن الديمقراطية نظام للحياة أو للحكم من صنع
البشر ، الذي يحمل القابلية للصواب أو الخطأ . وهي من مناهج البشر وتجاربهم ، لا
يجوز لنا أن نقارنها بالإسلام .
أما الذين يقدمون الإسلام باسم الديمقراطية
،لأنها زي من أزياء الاتجاهات المعاصرة ، ويحاولون تزيين الدين بغير اسمه وعنوانه
، إليهم نقول بأن الله غني عن العالمين ، ومن لم يستجب لدينه ، عبوديةً لله
وانسلاخاً من العبودية لسواه ، فلا حاجة لنا به ولا لهذا الدين ، كما لا حاجة لله
أصلاً لأحد من الطائعين أو العصاة .
إن الذي يراجع التاريخ ، منذ أن قامت دولة
الإسلام في المدينة ، إلى هذا الوقت الذي نعيش ، يدرك مدى الإصرار العنيد ، على
الوقوف في وجه هذا الدين ، أو العمل على محوه من الوجود ، فقد استخدمت الصهيونية
والصليبية في هذا العصر ، من الحرب والكيد والمكر ، أضعاف ما استخدمته في القرون
الماضية ، وهي في هذه الأيام بالذات ، تعمل على إزالة هذا الدين بجملته ، وتحسب
أنها تدخل معه المعركة الأخيرة ، لذلك تستخدم جميع الأساليب التي يمكن أن تحقق لها
هذه الغاية .
في الوقت الذي يوجد من المسلمين ، من يَدْعو
إلى التعاون بين أهل الإسلام ، وأهل بقية الأديان الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل
مكان ، ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ، ومحاكم التفتيش في
الأندلس ، سواء عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ، ويسندونها في البلاد المستقلة ،
لتحل محل الإسلام عقائدُ ومذاهبُ علمانية . تدعو الى تطور الأخلاق ، لتصبح هي
أخلاق البهائم ، التي ينزو بعضها على بعض ، وإباحة الربا والاختلاط الجنسي وسائر
المحرمات التي يعاقب عليها الإسلام .
إن المطلوب من المسلمين أن يتمسكوا بكتاب الله ،
وسنة نبيه تصديقاً لقوله تعالى {فاتبعوه لعلكم تهتدون}الأعراف
158 مما
يدل على أنه ليس هناك رجاء ، في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسولهم إلا بإتباعه ، ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم
، لأن هذا الدين يعلن عن طبيعته وحقيقته ، بأنه ليس مجرد شعائر تؤدي ، إنما هو
الإتباع الكامل لرسول الله (ص) ، فيما يبلغه عن ربه ، وفيما يشرعه ويسنه ، والرسول
لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب ، ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية
فحسب ، ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله و فعله ، ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا
إذا اتبعوه في هذا كله ، فهذا هو دين الله ، وليس لهذا الدين من صورة أخرى ، إلا
هذه الصورة التي تُشيرُ اليها هذه اللفتة في قوله تعالى:{واتبعوه لعلكم تهتدون}
ولنا وقفه عند هذه الآية ، فما أكثر الذين يُعْطَوْنَ علم الدين ثم لا يهتدون ،
وإنما يتخذون هذا العلم ، وسيلةً لتحريف الكلم عن مواضعه ، واتباع هواهم ، وهوى
المتسلطين الذين يملكون لهم عَرَضَ الحياة الدنيا .
وكم من عالم رأيناه يعلم حقيقة الدين ، ثم يزيغ
عنه ، ويستخدم عِلْمَهُ في التحريفات ، والفتاوى المطلوبة ، لسلطان الأرض الزائل ،
لقد رأينا من يعلم ويقول بأن التشريع حق من حقوق الله تعالى ، من ادعاه فقد ادعى
الألوهية ، ومن ادعى الألوهية فقد كفر ، ومن أقر له الحق بهذا الحق ، وتابعه عليه
فقد كفر أيضاً ، لأنه مع علمه بهذه الحقيقة ، التي يعلمها من الدين بالضرورة ،
فإنه يدعو للطواغيت ، الذين يدَّعون حق التشريع ، ويدَّعون الألوهية بادعاء هذا
الحق . قال الشافعي :" من استحسن فقد شرع ومن شرع فقد كفر " ، لقد رأينا
من هؤلاء العلماء هذه الأيام من يكتب في حل الربا ، ورأينا من بارك فجور الحكام
وانحرافاتهم ، ويخلع عليهم رداء الدين وشاراته .
إن
هؤلاء يبذلون العلم لأهل الدنيا ، لينالوا من دنياهم ، فهانوا على أهلها ، ناسين
أن خُلُقَ العالم ، الخشيةُ من الله ، والإشفاقُ على الناس ، والنصحُ لأولى الأمر
، والوقوفُ في وجه الطغاة ، والتجردُ عن حظوظ النفس وشهواتها ، واليقظةُ في مداخل
الأمور ومخارجها .
دخل
عمرو بن عُبيد على المنصور فقال له : يا أمير المؤمنين إن الله عر وجل يقفك
ويسائلك ، عن مثقال ذرَّةٍ من الخير والشر ، وإن الأمة حُصَماؤك يوم القيامة ، وإن
الله عز وجل لا يرضى منك ، إلا بما ترضاه لنفسك ، ألا وإنك لا ترضى لنفسك ، إلا
بأن يُعْدَل عليك ، وإن الله عز وجل لا يرضى منك ، إلا بأن تعدل على الرعية ، يا
أمير المؤمنين : إن وراء بابك نيراناً تتأجج من الجور ، والله ما يُحْكَمُ وراء
بابك بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فبكى المنصور . هذا مثال
لمواقف العلماء الأتقياء ، وقد قيل إنما العالم من اتقى الله .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق