السبت، 25 أكتوبر 2014

الصبر على المحن في سبيل الله


جرت سنة الله في خلقة ، إن يفتنهم ويختبرهم ليميز الخبيث من الطيب ، قال تعالى : {أحسب الناس  أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } العنكبوت 3 .
 اعتاد الظالمون إن يضطهدوا الذين يخالفونهم في سلوكهم المنحرف ، ويناهضونهم في أفكارهم الباطلة ، ولم يسايروهم في أهوائهم ، وينزلوا بهم أنواع المحن ، بعد أن أعرضوا عن أشكال المنح ، التي قُدِمَتْ  إليهم في ذلةٍ وصغار ، ولكن أني للنفوس الكريمة ذات المعدن الطيب ، إن تغري بمال ، ويسيل لعابها على فتات الدنيا ، أو تستمال بعرض زائل من الحياة ، فلقد استعدوا للمحن ، وتحملوا نارها بصبر وجلد ، وصابروا شدة بأسها بعزم و احتساب ، لأنهم فقهوا قول الله {قل نارُ جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون}التوبة 84 .
 كان أئمة المسلمين على مدار التاريخ ، في مقدمة الذين أصابتهم المحن ، ونزلت بهم الشدائد فخرجوا منها ظافرين ، مصداقاً لقوله (ص) (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق منصورين ).رواه البخاري ومسلم .  كانت هذه الطائفة على مدار التاريخ ، تقف الى جانب الحق ، الذي آمنت به   مؤمنةً بتوفيق الله ونصره ، وأن النصر الحقيقي هو نصر العقيدة ، وظهور الحق جلياً للعيان ، وأن البقاء في الدنيا هو للعقيدة والحق ، وأن المُمْتَحَنون لهم الذكر الجميل على مرّ الأيام .
 يقول أبن القيم : الحق منصورٌ ومستحسن فلا تعجب ، فهذه سنة الرحمن ، وعلى مدار التاريخ ، يقع النزاع بين الفجور والتقوى ، وتكون الغلبة للتقوى ، والخسرانُ للفجور، في نفس من أضل الله ، فكان ولا يزال التنازع ، بين الخير والشر ، والعدل والظلم ، والحق والباطل ، فمنذ أن عصى إبليس أمر ربه في السجود لآدم ، بدأ الشرُ المتمثل بإبليس ، يتنازع مع الخير المتمثل في أمر الله .
ومهما طال النزاع ، ومهما كسب الشر من نصر ، فالبقاء للخير لأنه الأصح ، ولأن سنة الله قضت بذلك قال تعالى :{وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}الإسراء 81 .
 إن طريق الدعوة إلى الله ، شاقٌ محفوفٌ بالمكارة ، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه ، إلا أن هذا النصر ، إنما يأتي في موعده ، الذي يقدره الله ، وفق علمه وحكمته ، وأما الذين يضعون الأقنعة على الإسلام ، ويصفونه بصفات كالديمقراطية هذه الأيام وما إليها ، ظانين بأنهم يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة . متجاهلين أن الديمقراطية نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر ، الذي يحمل القابلية للصواب أو الخطأ . وهي من مناهج البشر وتجاربهم ، لا يجوز لنا أن نقارنها بالإسلام .
 أما الذين يقدمون الإسلام باسم الديمقراطية ،لأنها زي من أزياء الاتجاهات المعاصرة ، ويحاولون تزيين الدين بغير اسمه وعنوانه ، إليهم نقول بأن الله غني عن العالمين ، ومن لم يستجب لدينه ، عبوديةً لله وانسلاخاً من العبودية لسواه ، فلا حاجة لنا به ولا لهذا الدين ، كما لا حاجة لله أصلاً لأحد من الطائعين أو العصاة .
 إن الذي يراجع التاريخ ، منذ أن قامت دولة الإسلام في المدينة ، إلى هذا الوقت الذي نعيش ، يدرك مدى الإصرار العنيد ، على الوقوف في وجه هذا الدين ، أو العمل على محوه من الوجود ، فقد استخدمت الصهيونية والصليبية في هذا العصر ، من الحرب والكيد والمكر ، أضعاف ما استخدمته في القرون الماضية ، وهي في هذه الأيام بالذات ، تعمل على إزالة هذا الدين بجملته ، وتحسب أنها تدخل معه المعركة الأخيرة ، لذلك تستخدم جميع الأساليب التي يمكن أن تحقق لها هذه الغاية .
   في الوقت الذي يوجد من المسلمين ، من يَدْعو إلى التعاون بين أهل الإسلام ، وأهل بقية الأديان   الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ، ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية ، ومحاكم التفتيش في الأندلس ، سواء عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ، ويسندونها في البلاد المستقلة ، لتحل محل الإسلام عقائدُ ومذاهبُ علمانية . تدعو الى تطور الأخلاق ، لتصبح هي أخلاق البهائم ، التي ينزو بعضها على بعض ، وإباحة الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات  التي يعاقب عليها الإسلام .
 إن المطلوب من المسلمين أن يتمسكوا بكتاب الله ، وسنة نبيه تصديقاً لقوله تعالى {فاتبعوه لعلكم تهتدون}الأعراف 158 مما يدل على أنه ليس هناك رجاء ، في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسولهم  إلا بإتباعه ، ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ، لأن هذا الدين يعلن عن طبيعته وحقيقته ، بأنه ليس مجرد شعائر تؤدي ، إنما هو الإتباع الكامل لرسول الله (ص) ، فيما يبلغه عن ربه ، وفيما يشرعه ويسنه ، والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب ، ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب ، ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله و فعله ، ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله ، فهذا هو دين الله ، وليس لهذا الدين من صورة أخرى ، إلا هذه الصورة التي تُشيرُ اليها هذه اللفتة في قوله تعالى:{واتبعوه لعلكم تهتدون} ولنا وقفه عند هذه الآية ، فما أكثر الذين يُعْطَوْنَ علم الدين ثم لا يهتدون ، وإنما يتخذون هذا العلم ، وسيلةً لتحريف الكلم عن مواضعه ، واتباع هواهم ، وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم عَرَضَ الحياة الدنيا .
 وكم من عالم رأيناه يعلم حقيقة الدين ، ثم يزيغ عنه ، ويستخدم عِلْمَهُ في التحريفات ، والفتاوى المطلوبة ، لسلطان الأرض الزائل ، لقد رأينا من يعلم ويقول بأن التشريع حق من حقوق الله تعالى ، من ادعاه فقد ادعى الألوهية ، ومن ادعى الألوهية فقد كفر ، ومن أقر له الحق بهذا الحق ، وتابعه عليه فقد كفر أيضاً ، لأنه مع علمه بهذه الحقيقة ، التي يعلمها من الدين بالضرورة ، فإنه يدعو للطواغيت ، الذين يدَّعون حق التشريع ، ويدَّعون الألوهية بادعاء هذا الحق . قال الشافعي :" من استحسن فقد شرع ومن شرع فقد كفر " ، لقد رأينا من هؤلاء العلماء هذه الأيام من يكتب في حل الربا ، ورأينا من بارك فجور الحكام وانحرافاتهم ، ويخلع عليهم رداء الدين وشاراته .
إن هؤلاء يبذلون العلم لأهل الدنيا ، لينالوا من دنياهم ، فهانوا على أهلها ، ناسين أن خُلُقَ العالم ، الخشيةُ من الله ، والإشفاقُ على الناس ، والنصحُ لأولى الأمر ، والوقوفُ في وجه الطغاة ، والتجردُ عن حظوظ النفس وشهواتها ، واليقظةُ في مداخل الأمور ومخارجها . 
دخل عمرو بن عُبيد على المنصور فقال له : يا أمير المؤمنين إن الله عر وجل يقفك ويسائلك ، عن مثقال ذرَّةٍ من الخير والشر ، وإن الأمة حُصَماؤك يوم القيامة ، وإن الله عز وجل لا يرضى منك ، إلا بما ترضاه لنفسك ، ألا وإنك لا ترضى لنفسك ، إلا بأن يُعْدَل عليك ، وإن الله عز وجل لا يرضى منك ، إلا بأن تعدل على الرعية ، يا أمير المؤمنين : إن وراء بابك نيراناً تتأجج من الجور ، والله ما يُحْكَمُ وراء بابك بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فبكى المنصور . هذا مثال لمواقف العلماء الأتقياء ، وقد قيل إنما العالم من اتقى الله .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق