لقد كان فتح مكة نصراً بغير حرب ، وكان
ثمرة يانعة لحكمة رسول الله ﷺ
وبعد نظره وحسن قيادته ، وقد سماه القرآن الكريم ، فتحاً مبيناً قبل أن يكون ،
وبشَّر به قبل عام من حدوثه في وقت كان
المسلمون في وضع يُخَيَّلُ أنهم في وضع مهين ، حين قصد المسلمون وعلى رأسهم رسول
الله (ص ) إلى مكة لأداء العمرة فصدهم المشركون عن المسجد الحرام ، وأبوا أن
يأذنوا لهم بدخول مكة للاعتمار ، وانتهى الأمر إلى ما عرف بعد ذلك بصلح الحديبية ،
الذي كان في وضعه الظاهر هواناً للمسلمين في نظر الصحابة ، حتى قال عمر ( رض ) : "
علام نرضى الدنية في ديننا يا رسول الله " ، مع أن أحداثه كانت مقدمةً للفتح
المبين .
وعندما دخل رسول الله ﷺ
مكة من أعلاها أمر قادة جيشه ألا يقاتلوا
إلا من قاتلهم ودخلت سائر الفرق من أنحاء
مكة الأخرى .. وسكنت مكة واستسلم قادتها وسادتها ، وعلت كلمة الله في جنباتها ،
ولم يمض نصف شهر على سيطرة المسلمين على مكة ، حتى اصطدمت قواتهم بعشرين ألفاً من
قوات هوازن في حنين الذين هُزموا ودخل
سيدهم مالك بن عوف نفسه في الإسلام ، ثم دخلت ثقيف ، وبذلك انتهت المقاومة الوثنية
في جميع مناطق الحجاز .
إننا يمكن أن نستخلص أرقى الدروس وأعظم
العبر من تصرفات الرسول وصحبه الكرام في
فتح مكة سواء في العدل والإنصاف ، أو
الوفاء بالعهد أو العفو عند المقدور ،
حيث كان العفو والتسامح الطابع الوحيد لتصرف الرسول المنتصر عندما قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا
أخ كريم وابن أخ كريم . قال : "اذهبوا فانتم الطلقاء" .
إن أولئك القادة والسادة من الأعداء في
مكة الذين شملهم العفو ، قد تحولوا طائعين
مختارين إلى عمالقة تفانوا في خدمة الإسلام ، فكانوا من حماته وكبار بناة دولته ،
كانوا من صانعي الانتصارات الحاسمة في تاريخ الإسلام .
لقد وقعت مكة في قبضة المسلمين ، سلماً
دون قتال يذكر ، وكان فتحها مثيرا لسكان الجزيرة العربية ، لأنهم ما كانوا يتوقعون
، أن مكة ستقع بمثل تلك السهولة ، في قبضة قوات التوحيد .
وهنا يمكن أن نتساءل عن عوامل النصر ،
الذي ما كان متوقعاً حتى عند المسلمين ، أن يتم بذلك الشمول وتلك السرعة ؟
إن العقيدة من أهم هذه العوامل ، لأن
المسلم يؤمن بأن سعادته ، في الدنيا وفلاحه في الآخرة لا سبيل إلى تحقيقه ، إلا بالوفاء لهذه
العقيدة لأن التهاون في نصرتها ، يعني
التعاسة في الدنيا والآخرة ففي سبيل نصرة العقيدة ، قتل الابن أباه كما أن اعتبار العقيدة والمبدأ فوق كل
اعتبار دفع أم حبيبة أن تمنع أباها أبو
سفيان ، أن يجلس على فراش الرسول ﷺ
، إذ طوت الفراش لئلا يجلس عليه ، فساءه ذلك ، وقال في مرارةٍ وألم : يا بنية ما
أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ فقالت في لهجة المؤمن الصادق الذي
يجعل اعتبار العقيدة والمبدأ فوق كل اعتبار : بل هو فراش رسول الله (ص ) وأنت رجلٌ مشرك نجس .
أما عوامل النصر الأخرى في فتح مكة فهي
المباغتة والتضليل ، وتهاون قريش في الاستعداد والتنظيم للمقاومة ، وتخلخل العقيدة
الوثنية في نفوس أهل مكة ، وعدم تحسسهم لبذل الأرواح في سبيلها والعامل الأخير بقاء قريش وحدها في ميدان
معاداة المسلمين باستثناء قبائل هوازن .
وعلى العموم فقد كفى الله المؤمنين شرَّ
القتال لخيرٍ أراده الله بالمسلمين وقريش
على السواء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق