قال تعالى : { وان
المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً }الجن 18 . إن تبعية المساجد ليست لأية
جهة كائنه من كانت ، وليس لأحد احتكار حق التصرف فيها ، لأنها لله وحده حيث يكون
التوحيد الخالص ، وحيث توارى كلُّ ظلٍّ لكل أحد ، ولكل قيمه ولكل اعتبار .
وهنا سؤال : أليس
احتقار البعض لغيرهم إنما يجئ من التصرفات التي تتنافى مع الدين ؟
أليس الاسترسال مع
الأحقاد ، ومسايرة ذوي النيات السيئة ، والتصرفات المستهجنة ، باسم الدين والسنة ،
كفيلةٌ بالقضاء على السماحة واليسر ، والتيسير التي تحض عليها مبادئ الدين ؟
22أليس
الابتعاد عن الحب والمودة ، والتآلف والتآخي بين جميع أفراد المسلمين ، كائنةً من
كانت الجهات التي ينتمي إليها المسلم ؟
أليس ذلك كفيل بأن يقود الأُمة إلى وضع تستهلك
فيه نفسها ، في صراع داخلي مشئوم إنما
يفتح الطريق واسعاً أمام منازع الإلحاد والرذيلة ، والكفر بالله واليوم الأخر ،
لتعمل على تفريق هذه الأُمة ، التي يجب أن تجتمع على منهج الله ، لا أن تبتعد عنه
، وأن توقظ مشاعر التعاون والتعاطف ، لا مشاعر القطيعة والخصام ، وأن يتفق الكل
على نشر التوحيد ، وتعريف الأُمم الجاهلة برب العالمين .
وأين يمكن أن نصنف
بعض المسلمين ، من روح الإسلام في سماحتها ، المطهّرة من دنس الحقد والتي جعلت نبي
الإسلام ، عليه السلام يقول:
( أُمرت أن أصل من
قطعني ، وأن أُعطي من حرمني وأَن أعفو عمن ظلمني ) . وذلك ليُدرب الناس على
فعلِ الخير ، ونشدان رضا الله سبحانه
إيثاراً لما عنده من مثوبة ، وإحرازاً لرضاه ،
دون النظر إلى الناس ، سواء اتفقوا مع هؤلاء في الرأي أو السلوك أو الطريقة أم لم
يتفقوا .
إن كل تصرفٍ يخضع
للهوى ، غيرُ جدير بالثقة بل غير جدير لأن
يُسْتمعَ إليه أصلا ، لأن الأصل أن يلتقي المسلمون على المنهج ، والطريق الذي
رسمته الشريعة ، لأن الله وليُ المؤمنين وهم حزبةُ ينتمون إليه ، ويستظلون برايته ، ولا يتولون
أحداً غيره ، أُسرةً واحدة متحابة لا متدابرةً ، ولا متقاطعة .
هذه هي أخلاق الإسلام
، أما الذين يستكبرون بالهباء ، فترى الواحد منهم فقيراً في معرفته ، ومع ذلك
يعامل الآخرين بالكبر والبطر ، مع أن حقيقة أقدارهم في المستوى الهابط ، والمكانة
النازلة فلو أدركوا ما في كفايتهم من نقص لاستكملوه ، ولكن الحجاب المسدل على
بصائرهم ، خَيل لهم أنهم عباقرة ، فعاشوا ينكبون الناس بقصورهم وغرورهم .
إننا نعيش في عالم مشحون بأصحاب المواهب المعجبة
، والخبرات الجيدة ، والثروات الأدبية 22والمادية الهائلة ، فإذا سرنا بهذه
الحفنة من الأدعياء الفارغين ، فماذا يكون تقديرنا وماذا يكون مصيرنا ؟
إن الشخص التافه ،
يفلسف الأوضاع حوله ، بما يشبع كبره وصدق وهمه ، فبدلاً من أن يستيقظ على الحقائق
اللاذعة ، ينظر إليها من جانب يرضيه ويطغيه . إنها أخلاق الهزيمة والضياع وأصحابها هم عِلَلُنا المقعدة ، أمام
المعنيين بالعمل الحق ، الحمالين لأعبائه الثقال .
إن قلبي يقطر دماً ،
عندما أرى رؤوس دول الكفر على جانب عظيم
من لطف المعاشرة ، وسهولة الطبع ،
والتفاني من أجل مصالح أممهم ، على حين أرى المتسولين على موائدهم ، متعجرفين متعاظمين ، كأنهم والمثل القائل “
أتوا بالذيب من ذيله “
كان سلفنا الصالح
يتميزون بعظم الكفاءة ونكران الذات ،
استمدوا ذلك من إيمانهم بالإسلام حالهم كما قال تعالى :{وما لأحدٍ عنده من
نعمةٍ تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى }الليل 20 .
أما الخلف فقد جاء
على الضد من ذلك مكشوف العجز ، يجري وراء
الشهرة ، هابط عن المستوى العادي ، حتى أن البعض قد قطع نسبه بالإسلام .
خلفٌ لم يتعلم من
الهزائم المتلاحقة ، بل جعل العلم بالدين وظيفة الهمل ، فكان العقاب من الله 2أن سقطت الأمة الإسلامية على الصعيد
العالمي والذي انعكس بدوره على دينها .
إن الهوان جريمة ،ٌ
وقضاء الحياة في ضعف
واستكانة ، ومهادنة
أرباب الكفر وسدنة الضلال كفيل بالسقوط في
الدار الآخرة يوم الحساب ، لذا أشار القرآن الكريم إلى مصير الذين يعيشون في الحياة الدنيا سقط متاع ، فقال
تعالى { إن الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم قالوا كنا
مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم
جهنم وساءت مصيرا }النساء 97 .
والهجرة المفروضة هنا
، هي التحول من مكان يهدد فيه الإيمان وتضيع معالمه ، إلى مكان يأمن فيه المرء على
دينه ، ولكن دار الإسلام استقرت مما يوجب
على المسلمين البقاء حيث هم ليدافعوا عن
بلادهم ، ولا يسلموا أو يسالموا في أرض التوحيد ، لعدو الله وعدوهم .
فالآية إذن تحرِّم
قبول الدنية ، وتوجب الجهاد مهما كانت النتائج ، لأن الأصل في المسلم أن لا يقبل
الحياة على أية صورةٍ وبأي ثمن ، فإما أن تكون كما أراد الله ، وإما رفضها وعند
الله خيرٌ منها ، هذه هي عزةُ الإسلام الذي يستنهض الهمم ، ويحث على الجهاد وقول
رسول الله (ص) : (من قتل دون مظلمته فهو شهيد ) ، فيه استثارةٌ للذود عن الدماء والأموال والأعراض .
إن الالتزام ببعض تعاليم الدين وقيوده ، والتحلل
من البعض الآخر ، ليس تجديداً ولا ابتكارا ، بل هو خضوع للغرائز الدنيا ، التي
أذلت ألوف الخلعاء والخبثاء من عشرات القرون .
إن من مفاتيح الاستبداد الشائن في إهانة
الكفايات ، وترجيح الصغار وتكبيرهم تبعاً للمبدأ القائل “أهل الولاء أولى من أهل
الكفاية “ فمن هم أهل الثقة هذه الأيام ؟
إنهم أصحاب القدرة على الملق والكذب ، اللاهثون تحت أقدام السادة تلبيةً لإشارةٍ
أو التقاطاً لغنيمة .
2 إن المسلمين اليوم لا يقدرون تعاليم دينهم حق
قدرها ، بل إن كثيراً منهم يشكل مصدر قلق ومتاعب للإسلام وأهله .
وقد يقول قائل إن
الناس بخير انظر إلى المساجد تغص بالمصلين ، ومحبتهم لرسولهم فوق التهم .
وإني إزاء هذا القول
، سوف اغمض عيني عن ألوف من المسلمين ، ضلل الاستعمار الثقافي سعيهم وشوه بصائرهم
وأذواقهم ، مع أنهم في مواقع مسئولة في قيادة الأمة الإسلامية .
وإذا كان هذا هو الواقع ، فما قيمة حب الله
ورسوله عند هؤلاء ، إنه حب غايته تنحصر في صلوات تفلت من الشفتين ، مصحوبة بعواطف
حارة أو بارد ، وقلما تتحول إلى عمل مقبول
وجهاد يرضي الله ورسوله ،مما يجعلنا نقول بان ترجمة حب رسول الله بهذا
الأسلوب في وقت يُنهب فيه تراثه ، أمر مرفوض إن لم يكن ضرباً من النفاق .
وقد يكون حب الرسول
عند بعض المسلمين مختصاً بالتمسك بالنوافل
، وهروباً تاماً من بعض الفرائض ، أو حناناً لا ندى معه ولا عطاء كهذا الذي قال له
الشاعر :
لا
ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما
قدمت لي زادا
فأي حب هذا ؟ وسلوكهم
يخالف الجوهر ويتفق مع القشور ، فالرسول
(ص) اشغل الأمة التي ظهر في ربوعها ، فانطلقت لأول مرة من بدء الخليقة ، تحمل
للناس الخير والعدل ، فاستطاعت أن تؤدب الجبابرة ، الذين عاثوا في الأرض
فساداً وظنوا أن كبريائهم لن يخدشها أحد ،
حتى جاء الرجال الذين رباهم محمد (ص ) فأعزوا المستضعفين .
كم نحن بحاجةٍ في هذه الأيام إلى أمثالهم ليحموا الحق الذليل ، وينقذوا التوحيد المهان ،
ويقرّوا الأُخوةَ التي جاء بها الإسلام
، إنها السقطةُ الرهيبة للمسلمين هذه
الأيام ،لأنهم ذاهلون عن المكانةِ التي منحهم محمد (ص) إياها ، هابطون عن المستوى الذي شدّهم إليه
، إن حب محمدٍ (ص) والمحافظة على سننه يوم
يكون يخلع على الكسالى والواهنون ، حبٌ لا وزن له ولا أثر ويوم يقتصر على أحفالٍ ومظاهر ، فهو حبٌ لا وزن
له ولا أثر ، ويوم يكون ادعاءً تستترُ به الشهوات الكامنة والطباع الغلاظ ، فهو
حبٌ لا وزن له ولا أثر لأن محمداً (ص) رسم للبشر طريق التسامي الحقيقي ، ورسم
للجماعاتِ طريق التلاقي على الحقائق والفضائل ، فكان دينه عقل يأبى الخرافة وقلب يعلو على الأهواء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق