بعد غياب حكم الإسلام وسلطانه ودولته ، تاهت الأمة وتقطعت بها
السبل ، وصارت الرعاية فيها لدول الكفر وعملائها في بلاد الإسلام ، حتى أصبح
المسلم يحس بأن أرض الإسلام صارت غريبة بما عليها من دول لا تقوى على قول لا للعدو
، لأنها وصلت إلى درجة كبيرة من الذل والهزيمة والخنوع ، والتهتك والتفكك ،
والفساد والإلحاد ، ولانهزام والفجور ، مما جعلها غرضاً سهلاً ، وهدفاً هشاً
للأعداء ، الذين كانوا يخشونها يوم كانت جيوشها
تدك قواعد الظلم والعدوان ، وعندما استنوق الجمل استأسد الحمل وتغير الحال
، فلا نرى إلا المواقف الهزيلة
والاستنكارات الفارغة ، التي لا تدفع
أذاً ولا تحرر أرضاً ولا تردع
عدواً ولا ترد كرامة .
فيوم كان للمسلمين
جيوش تجاهد تحت راية لا إله إلا الله ،
كانت لها العزة والمنعة والقوة ويوم دعى
ولاة أمور المسلمين إلى إسدال الستار على باب الجهاد وصلوا إلى ما نرى من الذل والهوان وتاهوا عن
قضيتهم ، وحُكموا بأنظمة الكفر وفقدوا الدور والوزن السياسي في حلبة الصراع الدولي
، فأصبحوا تابعين بعد أن كانوا سادة العالم أجمعين .
وحدث ولا حرج عن التردي الاقتصادي والتخلف التقني والترهل
الإداري ، وتراجع المستوى المعيشي على مرأى ومسمع المسئولين عن مقدرات هذه
الأمة وحتى ندرك الفرق بين ما كانت فيه
الأمة وما آلت إليه ، نستحضر الصور المشرقة لأولئك الرجال الذين سطروا مواقفهم
الخالدة بأحرف من نور ، فكانوا حقاً حملة دعوة ورجال دولة في جميع المجالات .
فهذا سعد بن أبي وقاص بعد أن فُتحت المدائن وهُزمت جيوش فارس
، أرسل رسله تحمل بشرى النصر ومعها الغنائم إلى عمر بن الخطاب ، الذي لما رأى
الغنائم التي كان فيها تاج كسرى المرصع بالدرر
وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب ، ووشاحه المرصع بالجواهر ، وسواره اللذان لم
تر العين مثلهما قط ، وما لا حصر له من النفائس الأخرى ، جعل عمر يقلب هذا الكنـز
الثمين بقضيب كان بيده ، ثم التفت إلى من حوله وقال : إن قوماً أدوا هذا لبيت
المال لأمناء فقال على بن أبي طالب وكان
حاضراً : إنك عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين ، ولو رتعت لرتعوا . وهنا دعا
الفاروق سراقة بن مالك ، فالبسه قميص كسرى
وسرواله وقباءه وخفيه ، وقلده سيفه ومنطقته ووضع على رأسه تاجه والبسه سواريه ،
عند ذلك لما رأى المسلمون كيف أنجز الله لنبيه وعده الذي وعده لسراقة وهو مهاجر
هارب مطلوب ، هتف المسلمون الله أكبر الله أكبر ثم التفت عمر إلى سراقة وقال : بخٍ
بخٍ أعرابي من بني مدلج على رأسه تاج كسرى وفي يديه سواريه ، ثم رفع رأسه إلى
السماء وقال : اللهم إنك منعت هذا المال رسولك ، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك ،
ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم عليك ، وأعطيتنيه لتمكر بي ، ثم لم يقم من
مجلسه حتى قسمه بين المسلمين .
إن شعوب المسلمين هذه الأيام تتعرض لأقسى عمليات النهب والسلب
لثرواتها ، وشعوبها تعاني ما نعاني من الضيق وشظف العيش ، وفئة قليلة تتمتع بأعلى
مستوى من رغد العيش ، والأموال في أرصدتهم بالمليارات ، والبقية الباقية تعيش ارتفاع
الأسعار التي طالت كل ضروري من ضروريات الحياة . روى البخاري ومسلم عن أبي حميد
الساعدي قال : استعمل رجلاً من بني أسد على الصدقة ، فلما قدم إلى بيت المال قال :
هذا لكم وهذا أهدي إليّ فقام النبي e على المنبر فحمد
الله و أثنى عليه ثم قال : (ما
بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لكم وهذا أهدى إلىّ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا
؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله
على عنقه ) .
لقد علمنا رسول الله كيف يكون رجل الدولة الذي لا يرغب بنفسه
عن نفوس الناس في كل مجالات الحياة حتى في القضاء ، ابتاع عمر بن الخطاب فرساً من
أعرابي ، ونقده ثمنه ثم امتطاه فلم يمض عمر بعيداً حتى ظهر له به عيب ، فعاد للرجل
وقال له : خذ فرسك فإنه معطوب ، فقال الرجل : يحكم بيننا شريح بن الحارث الكندي ،
فقال عمر : رضيت به فلما سمع شريح مقالة الأعرابي ، التفت إلى عمر وقال : هل أخذت
الفرس سليماً صحيحاً يا أمير المؤمنين ؟ فقال : نعم ، فقال لعمر : إذن احتفظ بما
اشتريت يا أمير المؤمنين أو رد كما أخذت ، فنظر عمر إلى شريح معجباً . وقال : وهل
القضاء إلا هكذا قول فصل وحكم عدل ، سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها فظل شريح يقضي بعدها ستين عاماً بلا
انقطاع حتى استعفى وعمره مائة وسبع
سنوات .
دعا الوالي ابن هبيره
كلاً من الحسن البصري سيد التابعين والشعبي وقال لهما : إن الخليفة يزيد بن عبد
الملك قد استخلفه لله على عباده ، وأوجب طاعته على الناس وقد ولاني يزيد على
العراق وهو يراسلني أحياناً لتنفيذ مالا
أطمئن لعدالته ، فهل تجدان لي رخصة في ذلك ؟ فأجاب العالم الشعبي جواباً فيه
ملاطفة للخليفة ومسايره للوالي والحسن
البصري ساكت ، فالتفت إليه ابن هبيره وقال له : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال :
يا ابن هبيره خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله ، واعلم أن الله عز وجل يمنعك
من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله ، يا ابن هبيره إنه يوشك أن ينـزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي
لله ما أمره ، فيزيلك عن سريرك هذا ، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ، حيث لا
تجد هناك يزيد ، يا ابن هبيره إنك إن تكُ مع الله تعالى وفي طاعته يكفيك الله
بائقة يزيد وأذاه في الدنيا والآخرة وإن
تك مع يزيد في معصيته الله ، فإن الله يكلك إلى يزيد ، وأعلم يا ابن هبيره ، انه
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فمال ابن هبيره عن الشعبي وبالغ في تكريم الحسن
البصري ، فقال الشعبي والله ما قال الحسن قولاً أجهله ، ولكني أردت فيما قلت وجه
ابن هبيره ، وأراد الحسن وجه الله ، فأقصاني الله ابن هبيره وأدناه منه . أين
الرجال من أشباه الرجال ، وأين أولئك العلماء من العلماء الذين باعوا أخرتهم بدنيا
غيرهم . فلو كان هناك إحساس بأن الأمة تحاسب على كل صغيرة وكبيرة وتقوم بواجبها
الشرعي في المحاسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لما تمادى الظلمة في
غيِّهم وطغيانهم ولكنهم وجدوا الأمة مخدَّرة لا مبالية فطمعوا وطّمعوا الأعداء ،
فحصل ما نراه ونلمسه من مصائب ، والذي لن يدوم إن شاء الله . لقد رفعنا كلَّ
الشعارات هذه الأيام ، إلا شعار الجهاد لتحرير ما سلب من البلاد والمقدسات ،
وأصبحنا نلمس أن الأمة مخدرة منهوكة ، وكأنها أُعدت للهزيمة والعار ، حتى فقدت
النخوة والأمل والقدرة على الإحساس بالذل ، و أصبحت عاجزة لا إيمان ولا قيادة ولا
إعداد ، حتى أن القائمين على أمرها نسجوا
من الهزيمة أساطير النصر، رغم الواقع الأسود الذي يحمل في طياته الخزي والعار ،
ولا أدل على ذلك من أن العدو يعتقل ويقتل ، والسكوت يخيم على قادة الأمة وزعمائها
، وكأن الذين يُقْتلون ويُجْرحون ليسوا من
جلدتنا ولا من بني ديننا ، علماً بأنه لا توجدُ شريعة من الشرائع ولا سنة من السنن ، تجيز الاعتداء على الإنسان
الآمن في بيته فيفجعُ فيه أهله لا لشيء
إلا لأن الرأي العالمي ، يقف مع القوي ضد الضعيف .
ومن هنا جاء الإسلام ، ليقضي على مثل هذه
الهمجية والوحشية التي يزعمون بأنها حق
لهم فشرع الجهاد لتحقق هذه الغاية ليدفع
الظلم والجور ويستل من القلوب
الأحقاد ، ثم يملأها بعد ذلك محبةً ورحمةً ، ليعيش الناس في سعادة وهناء ، لا
ليقتلوا الأبرياء العزّل ، بدافع الغطرسة والانتقام
.
إننا لم نتعظ ولم نستيقظ من نومنا ، حتى ساوم
الانهزاميون والانتهازيون والمتآمرون على قدر الأمة وشرفها ومصيرها ، وليس ذلك
بمستغرب ، لأن من فرّط بإيمانه بربه يسهلُ عليه إن يفرَّط في أرضه وعرضه وشرفه
وحريته ، حتى أصبحنا لا نستبعد ، أن العدو زرع في كل بلدٍ وكالةً ، بأسماء عربية
وأقلام عربية ، مهمتها إيقاظ الفتن وبث الفساد وتمزيق شمل الأمة ، وتفتيت خلفيتها
الدينية وتدمير قاعدتها الفكرية .
إننا حين تنكرنا لعقيدتنا ،
هُزِمنا في معاركنا شرَّ هزيمة هزمونا
بهويتهم الزائفة ، حين أنكرنا هويتنا الأصلية
وسلكنا طريق الهتاف والتصفيق ، وتبرير الظلم والهزيمة وتمجيد الظالمين وغض الطرف عن أخطاء الحاكمين
والمحتلين ، الذين ينسجون خيوط المؤامرات فوق
أراضينا وبين صفوفنا عملاءً للعدو،
وآذاناً صاغية لهم عندها استهان بنا عدونا وعمل ويعمل على قهرنا وإذلالنا ، وسلبنا
حقوقنا ، والاستيلاء على مقدراتنا .
تعست أمةٌ تقود نفسها ليسفك دمها ، وتسفح كرامتها على مذابح
الشهوات ، إنها لن تقوم لها قائمة إلا إذا وجد فيها من يحترم دينه ، ويتخذ القرآن
منهاج حياة ، ويجعل الجهاد والاستشهاد سبيلاً يؤدي إلى الفوز بإحدى الحسنيين النصر
أو الشهادة ، ويكون شعاره احرص على الموت توهب لك الحياة .
إن تحقيق ذلك ليس أمراً سهلاً ، وسيخوضه المؤمنون رغم كل
العقبات التي تواجههم ، حتى يتم التمكين لهذا الدين من جديد وتزول الغربة الثانية
التي اخبر عنها رسول الله e فقال : ( بدأ
الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدا ، فطوبى للغرباء )
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق