لقد وصلت الأمة الإسلامية الى الحضيض ، في التخلف المادي ، والتأخر الفكري ، والانحطاط السياسي ، وحلَّت العلاقات الرأسمالية محل العلاقات الإسلامية ، وتقطعت روابط الأخوة الإسلامية ، وحلت محلها العصبية ، ولم يبق من أفكار الإسلام في هذه الأيام إلا العبادات ، إذ يجور أن يستفتي الإسلامُ في نواقض الوضؤ ولكنه لا يستفتي أبداً في أوضاعنا الإجتماعية ، أو الإقتصادية أو نظامنا المالي ، ولايستفتي أبداً في أوضاعنا السياسية والقومية .
من الجائز أن يتناول الكتابُ في مقالاتهم وكتبهم المؤلفة موضوع البرِّ في الإسلام ، ولكن الحكمَ بالإسلام والإنتصار له لا يجوز أن يمسه حديث أو قلم أو استفتاء ، فالإسلام الذي يحكم الحياة ويصرفها ، لا يطالب ولا يشير إليه أحد ، مع أن حكمة الله شاءت أن تكون قضية العفيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة .
إن الدعوة الإصلاحية التي تقوم على تقويم الأخلاق ، وتطهير المجتمع وتزكيه النفوس ، لا تؤدي الغاية التي من أجلها جاء هذا الدين .
قال سيد قطب بهذا الخصوص في كتابه معالم في الطريق : "إن الله كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق ، وكان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة ، تضع الموازين وتقرر القيم كما تقرر السلطة التي تستند اليها هذه الموازين والقيم ، والجزاء الذي تملكة هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والممخالفين ، وإنه قبل تقرير هذه العقيدة وتحديد هذه السلطة ، تظل القيم كلها متأرجحة ، وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط وبلا سلطان وبلا جزاء … وقال في نفس الكتاب : "وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله ، لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى ، دعوة قومية أو دعوة إجتماعية أو دعوة أخلاقية ، أو رفعت أيَّ شعار إلى جانب شعارها الواحد " لا إله إلا الله "
إن الداعية الذي يدعو الناس للعمل على إعادة تحكيم دين الله في الأرض ، يجب أن يدعوهم أولاً إلى اعتناق العقيدة ، حتى لو كانوا يدَّعون الإسلام ، وتشهدلهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون ، يجب أن يعلِّموا الناس أن الإسلام هو أولاً إقرار عقيدة لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية لله في الأمر كله ، وطرد المعتدين على السلطان بإدعاء هذا الحق لأنفسهم وإقرارها في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم ، ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام .
إن الله حين أنزل الرسالة على رسوله ﷺ كان يريد بناء جماعة وبناء حركة وبناء عقيدة في وقت واحد ، كان يريد أن يبنى الجماعة والحركة بالعقيدة ، وأن يبني العقيدة بالجماعة والحركة .
أما اليوم فقد قلت نسبة المسلمين الذين يرتفع ولاءهم للإسلام على كل ولاء ، والمؤمنين الذين يجعلون الله ورسوله والجهاد في سبيله على رأس سلم القيم ، كيف لا والرسول ﷺ يقول وذروة سنامه الجهاد .
لقد تحدت أنظمة الكفر الإسلام في أفكاره ومشاعره ، بإيجاد الحلول للمشاكل المتجددة بالكيفية التي يرونها ، كما هاجمت المشاعر الإسلامية ، والتمسك بأحكام الإسلام ، ولا منقذ لنا مما يخططون ويدبرون إلا العقيدة الإسلامية التي تمنحنا القوة والعزة ، لأنها تشمل نشاط الإنسان في كل مناحي الحياة ، فلا تقتصر مهمتها على اتجاه دون اتجاه ، ولا تتولّى الروح وتهمل العقل والجسد ، أوتتولّى الشعائر وتهمل الشرائع ، أو تتولّى الضمير وتهمل السلوك ، أو تتولّى الحياة الإجتماعية وتهمل نظام الحكم .
إنها قوة هائلة لا يتخلى عنها صاحبها إلا أن يكون به سَفَه أو حُمْق ، وقد شهد الإسلام رجالأ باعوا لله وللإسلام كل ما بأيديهم وضحوا في سبيل عقيدتهم بكل غالٍ ونفيس وبذلوا من أجل دعوتهم ، المال والأهل والدم والروح ، وكان قائلهم يهتف وهو يجود بآخر أنفاسه في سبيل الله .
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
لقد جاهدوا أعدائهم لم يملَّوا ولم يميلوا ، بل طاولوا الأيام بالصبر ، وعمروا القلوب بالذكر وطلبوا عند الله الأجر ، وظلوا أهل وفاء وفداء .
في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أُرسلت القوات الإسلامية لمحاربة الروم بقيادة هرقل ، وقد أُسِرَ في تلك المعارك الصحابي عبدالله بن حذافة رضي الله عنه مع جماعة من المسلمين ، وأراد هرقل أن يُجْبِرَ عبدالله على الكفر .
قال هرقل : يا عبدالله ؟ تتنصَّر وأُعطيك نصف ملكي ، فقال عبدالله : يا هرقل ؟ والله لو عرضت علي الدنيا كلها على أن أترك دين محمد ما تركته .
فقال هرقل : يا عبدالله ؟ إن لم تتنصَّر فسوف أعذِّبك العذاب الأليم ، فقال عبدالله : إفعل ما تشاء فإنما تُعذِّبُ بدنا فانيا وجسدا موليا ، أما الروح فلا يملكها إلا الله .
فأمر هرقل أن يُصْلَبَ وأن يُضْرَبَ بالسهام في يديه ورجليه ، وفي غير مقتل حتى يعذب العذاب الأليم ، وصُلِبَ ورُمِيَ بالسهام ، وكلما أصابه سهمٌ قال : لا إله إلا الله ، فقال هرقل : أنزلوه وأمر أن يُسخَّن ماء في قدر حتى كاد أن يحترق من شدَّة الغليان ، وقال : يا عبدالله ؟ إما أن تتنصَّر وإما أن نلقي بك في هذا الماء ، وإذا بعبدالله بن حذافة يمشي إلى الماء الذي يغلي ، فلما إقترب منه بكت عيناه ، فقال له هرقل : أبكيت يا عبدالله ؟ فقال له: والله ما بكيت خوفاً ، فأنا أعلم أنني سائر إلى الله ، ولكني بكيت لأن لي نفساً واحدة ، وكنت أود أن يكون لي مئة نفس تُعَذَّبُ في سبيل الله ، فقال هرقل : أرجعوه وأحضر له امرأة غانية من نساء الروم وقال : ادخلوه معها في غرفة لتراوده عن نفسه ، ودخلت معه الغانية ، وغلقت الأبواب واخذت تغدو وتروح أمامه ، وبعد ساعات مضت قال هرقل : احضروها لأسمع منها ما حدث ، فلما حضرت اخبرته وقالت له : يا سيدي أنا لست أدري إلى من أرسلتني إلى بشر أم إلى حجر ، فما كنت أسمع منه كلما خطوت أمامه إلا قول لا إله إلا الله .
فقال هرقل : ادخلوه في غرفة ولا تحضروا له طعاماً إلا الخمر ولحم الخنزير ، فأحضروا له ذلك وأغلقوا عليه الباب وليس معه طعام سواهما وظل عبدالله بن حذافة ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب ، ثم دخلوا عليه فوجدوه يذكر الله ويصلي ، والخمرة كما هي ولحم الخنزير كما هو فقال له : يا عبدالله ما منعك من الشرب والأكل وأنت مضطر لذلك والجوع يعبث بأمعائك ؟
فقال لهم خفت أن أُشمِّت أعداء الله في دين الله .
فلما يئس منه هرقل قال له : يا عبدالله قبل رأسي واطلق سراحك ، فقال له : بل تطلق سراح إخواني المسلمين ، فوافق على ذلك ، ولما ذهب ليضع فمه على رأس هرقل قال : اللهم إنك تعلم أنه مشرك نجس ، فإذا سألتني عن ذلك ، سأقول لك وعزتك وجلالك ما فعلت ذلك إلا لإطلق سراح إخواني ، وذهب عبدالله ووضع فمه على رأس هرقل وبصق عليه دون أن يشعره ، وأطلق هرقل سراحه وسراح إخوانه ، وبعد ذلك ذهبوا إلى المدينة المنورة ، والتقوا بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقصوا عليه ما جرى فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال : حق على كل مسلم أن يقبِّلَ رأسك يا عبدالله وأنا أبدأ بنفسي ، وقام عمر بن الخطاب رضي الله وقبل رأس عبدالله إكراما لعزته ولدينه .
إن الأمة بحاجة ماسّةٍ الى العقيدة ، لأنها تواجه ألواناً شتى من المشكلات ، مشكلات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية في الداخل ، ومشكلات دولية وعالمية في الخارج ، ونحن نواجه هذه المشكلات بحاجة الى عقيدة تجمع قوانا ، وراية نقف في ظلها ، وفكرة واحدة نواجه بها الحياة والمشكلات والقوى التي تناصبنا العداء .
إنها راية الإسلام التي يجب أن تحكم الحياة لأنه إذا أريد للإسلام أن يعمل فلا بد له أن يحكم فما جاء هذا الدين لينزوي في الصوامع والمعابد أو يستكن في القلوب والضمائر ، إنما جاء ليحكم الحياة ويصرِّفها ، ويصوعَ المجتمع وفق فكرته الكاملة عن الحياة ، لا بالوعظ والإرشاد فقط بل بالتشريع والتنظيم .
جاء ليترجم مبادئه ونظرياته ، نظاماً وحياة ويجعل أوامره ونواهيه ، مجتمعاً حياً ، يمثلون بسلوكهم ونظام حياتهم ، وعلاقات مجتمعهم وشكل حكمهم ، يمثلون مبادئ هذا الدين وأفكاره ، وقوانينه وتشريعاته ، لأنه أعرف بطبيعة البشر وطبيعة الحياة ، وهو يقرر أن لا إسلام بلا حكم ولا مسلمين بلا إسلام ، قال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق