ها
هي إسرائيل تهاجم الفلسطينين وتفرض عليهم حصاراً ظالماً ، وهم يستغيثون ويستنصرون
ولا مجيب لهم ، ولكنهم أثبتوا أن بطن الأرض خيرٌ من ظهرها لأمة كل مواقفها وفق هوى
إسرائيل ومصلحتها ، وتحولوا عن مواقع النصر في داخل أنفسهم إلى مواقع الهزيمة أمام
أعدائهم ، وأمام هذا الجبن والتخاذل المريب ، اعتمد الفلسطينيون على أنفسهم في
مواجهة هذه الهجمة الشرسة التي أحرقت ومزقت ودمرت وأخرجت العديد من
بيوتهم ، وقسماً كبيراً منهم وقع في الأسر إنها حملة ظالمة خلَّفت
وراءها الكثير من المآسي من بكاء الثكالى والأرامل إلى ما رأيناه من
الأوصال المقطعة ، إلى الأطفال الذين لا يجدون ما يسد رمقهم ، والجرحى الذين لا
يجدون الدواء بل منع عنهم الإسعاف فمات الكثير منهم ورغم ذلك ترى عجبا
رغم القصف بالصواريخ والدبابات والحصار المحكم ، فإنهم يتصدون لليهود بقوة وصلابة
وبطولات فائقة ، ويوقعون في صفوفه ما يؤلمه ويخزيه ، وذلك بما قدمه ويقدمه الشباب
الاستشهادي من بطولات فذة ستكون مضرب الأمثال على مدار التاريخ ، وقد كانت
أم الشهيد فرحات مثالاً رائعاً وهي تودع ابنها الذي انضم إلى قافلة الشهداء
الأبرار ، كان لها موقفاً عزّ أن يكون مثله في التاريخ المعاصر أما
تاريخنا القديم فقد كان لها فيه سابقة ، إنها الخنساء كما روى المؤرخون أنها
شهدت حرب القادسية تحت راية سعد بن أبي وقّاص ، وكان معها بنوها الأربعة ، فجلست
إليهم وهي تحثهم على القتال والثبات ، وكان من قولها لهم :" أي بنيّ إنكم
أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين . . وقد تعلمون ما اعد الله للمسلمين من الثواب
الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أن الحياة الباقية خيرٌ من الدار الفانية ،
والله تعالى يقول :
} يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا
ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{.آل
عمران 200 . فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين ، فاغدوا إلى قتال عدوكم
مستبصرين وبالله على أعدائكم مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرّت عن ساقها
فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها تظفروا بالغنم في دار الخلد " .
فلما
أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية وأنوف حميَّة ، إذا فتر أحدهم ذكّره أخوه وصية
الأم العجوز ، فزأر كالليث وانطلق كالسهم والصاعقة ، ونزل كقضاء الله على أعداء
الله وظلوا كذلك حتى استشهدوا واحداً بعد واحد . وبلغ الأم نعي الأربعة في يوم
واحد فلم تلطم خداً ولم تشق جيباً ، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين وصبر
المؤمنين وقالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في
مستقر رحمته". فما الذي جعلها تقف هذا الموقف ؟ إنه الإيمان صانع المعجزات .
فماذا
قدم العرب والمسلمون ، ولماذا لا تحارب جيوشهم اليهود ، أم أنها أعدت
للعرض والاستعراضات ، وقمع الاضطرابات والمظاهرات والمحافظة على أمن
الحكومات ، ولماذا يصمت المفكرون والمفكرات ، أم أن مهمتهم اقتصرت على حقوق
المرأة وحوار الأديان والتفاهم بين الحضارات ، ولماذا الأمة تائهة حيرى لا
تسأل عما يجب فعله لنصرة المجاهدين في فلسطين أم
أنها لا تعلم بأن نصرتهم فرض على المسلمين قال تعالى:}والذين
كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير{الأنفال 73 فإذا لم
يجانبوا المشركين ويوالوا المؤمنين وقعت الفتنة في الناس ووقع الفساد في
الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام ، وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله
، ويصبح الناس عبيداً للعباد ، وهذا هو أفسد الفساد الذي يتحمل المسلمون
تبعته ويتحملون نتيجة تنكرهم لما فعله الإيمان بأمة العرب الذي
حولهم من رعاة غنم إلى رعاة أمم ومن قبائل بداوة إلى أمة حضارة ، والذي يرجع
إلى الإيمان الذي صبه محمد e
في نفوس أصحابه ، فنقلهم من حال إلى حال ، وفي تاريخنا الأمثلة الكثيرة على صدق ما
نقول ، فهذا عمر بن الخطاب الذي رووا أنه بلغ من انحراف العقل أن عبد إلهاً من
الحلوى ثم جاع يوماً فأكله ، ومن انحراف العاطفة ، أن وأد بنتاً صغيرة له كانت
تمسح الغبار عن لحيته وهو يحضر لها مكانها في التراب ، عمر هذا يبلغ من سمو
العاطفة ورقة قلبه وخشيته لله ، ما ملأ صفحات التاريخ بآيات الرحمة الشاملة للمسلم
وغير المسلم ، بل للإنسان والحيوان حتى قال : " لو عثرت بغله في العراق
لسألني الله عنها لم تصلح لها الطريق يا عمر " .
ومثال
آخر لما فعله الإيمان من الأقدام إلى التضحية بالنفس في سبيل الله ، يتمثل في
إقدام البراءُ بن مالك الأنصاري ، عندما التقى جيش المسلمين بجيش مسيلمة على أرض
اليمامة في نجد ورجحت كفةُ مسيلمة وأصحابه ، وتراجع المسلمون عن مواقعهم ،
واقتحم أصحاب مسيلمة خيمة خالد بن الوليد ، واقتلعوها من أصولها وكادوا يقتلون
زوجته لولا أن أجارها واحد منهم ، عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم
وأدركوا أنهم إن يهزموا أمام مسيلمة ، فلن تقوم للإسلام قائمةٌ بعد اليوم ، وهب
خالد في جيشه فأعاد تنظيمه ، حيث ميز المهاجرين عن الأنصار وميّز أبناء
البوادي عن هؤلاء وهؤلاء وجمع أبناء كلِّ أب تحت راية واحدة منهم ، ليُعْرَفَ
بلاءُ كُلِّ فريقٍ في المعركة ، وليُعُلَمَ من أين يُصابَ المسلمون ، ودارت بين
الفريقين رحى معركة لم تعرف حروب المسلمين لها نظيراً من قبل وكانت هناك
بطولات خارقة ، كان من أكثرها إقداماً ما قام به البراء ، وعندما حميت المعركة
واشتدت التفت إليه خالد بن الوليد وقال له : إليهم يا فتى الأنصار
فالتفت البراءُ إلى قومه وقال يا معْشر الأنصار لا يُفكِرَنَّ أحد منكم
بالرجوع إلى المدينة فلا مدينة لكم بعد اليوم ، وإنما هو الله وحده ثم
الجنة ، ثم حمل على المشركين وحملوا معه وبدأت الهزيمة على مسيلمة وأصحابه فلجأوا
إلى الحديقة ، التي عرفت في التاريخ باسم حديقة الموت ، لكثرة ما قتل فيها في ذلك
اليوم ، لأن مسيلمة وجيشه لجئوا إليها واغلقوا أبوابها وحصنوا أعالي جدرانها
، وجعلوا يمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها التي تساقطت على المسلمين تساقط المطر
، عند ذلك تقدم البراء بن مالك وقال يا قوم ضعوني على ترس وارفعوا الترس على
الرّماح ، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابها فإما أن استشهد وإما أن أفتح
لكم الباب وفي لمح البصر جلس على ترس وكان ضئيل الجسم ورفعته عشرات الرماح ،
فألقته في حديقة الموت بين الآلاف المؤلفة من جند مسيلمة فنـزل عليهم نزول الصاعقة
، وما زال يجالدهم أمام باب الحديقة ويُعْملُ في رقابهم السِّيف حتى قتل عشرة منهم
وفتح الباب وبه بضع وثمانون جراحةً من بين رمية بسهم أو ضربةٍ بسيف ، فتدفق
المسلمون على حديقة الموت ، ودخلوها وقتلوا مسيلمة والكثير جداً من جنوده ، وحُمل
البراء ليداوى ، وأشرف خالد بن الوليد على علاجه لمدة شهر حتى أذن الله له بالشفاء
.
ومثال
آخر في معركة بدر عندما دنا المشركون قال رسول الله e (
قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ) فقال عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله
جنة عرضها السموات والأرض ؟ فقال : نعم ! قال : بخٍ بخٍ ؟ فقال رسول الله e ما يحملك على قول بخٍ بخٍ ؟ قال لا والله يا
رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها قال فإنك منهم قم قال : لئن أنا
حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة ، قال فرمى ما كان معه من التمر ، ثم
قاتلهم حتى قتل رحمه الله .
بمثل
هذه المواقف الجهادية التي سار استشهاديوا فلسطين على نهجها ، وقدموا من التضحيات
ما تعجز عنه الشعوب المعاصرة ، التي تعيش حياةً كلها أقفالاً معقدة وأبواباً مغلقة
، وعقولاً مقفلة أعيا فتحها الحكماء والفلاسفة ، و ضمائراً مغلقة أعيا الوعاظ
والمرشدين فتحها ، وقلوباً مقفلة أعيا فتحها الحوادث ، أقفال وأقفال أخفق الكبار
وفشلوا في فتحها ، لأن القفل لا يفتح بغير مفتاحه ، وقد ضّيعوا المفتاح وجربوا غيره
، فإذا هو لا يوافق الأقفال ، والمفتاح الذي نقصده هو الإيمان بالله ورسوله واليوم
الآخر ، الذي تخلى عنه المسؤولون المتخاذلون ، وسمحوا للعدو يصول ويجول ، متجاهلين
نصرة إخوانهم الذين يعانون أبشع أنواع البطش والظلم والقتل . أخرج أبو داود
والبيهقي والطبراني بإسناد حسن عن جابر وأبى أيوب الأنصاري قالا : قال رسول الله e : ( ما من امرئٍ يخذل مسلماً في موطن ينتقص
فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته ، إلا خذله الله في موطن يجب فيه نصرته ، وما من
امرئٍ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في
موطن يجب فيه نصرته ) . وفي هذا دليل على وجوب نصرة المسلم المحتاج إليها
والنصرة تكون بتجهيز المقاتلين ومشاركتهم في قتال الأعداء وقول الحق والدعاء لهم ،
لا الوقوف وقوف المتفرج على ما يجري ولا ندري متى يفيق المسلمون من غفلتهم
ويثوبوا إلى رشدهم . وما علموا أن في قتل الإسلام توسيعٌ لسطوة الإلحاد ،
وإعانة لليهود على شعب فلسطين . اللهم أنت القادر على أن تفتح قلوبنا لذكريات
أمتنا في الرجال ، وأن تأخذ بأيدينا إلى مواطن القوة والنصر ، إن في ذلك لذكرى لمن
كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .