الإخلاص
هو حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة المرسلين ، إنه مسك القلوب وماء حياتها ، بل إن مدار
الفلاح عليه قال تعالى : )
وَما
أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (البينة
5 . وقديماً قيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق . قال تعالى )
فاعبد
الله مخلصاً له الدين (
الزمر
302 .
وروى
الحاكم أن النبي ﷺ قال لمعاذ بن جبل : ( أخلص دينك يكفك القليل من
العمل ) وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال:( قال
تعالى:أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركته
وشركه ) رواه مسلم .
وفي
الترغيب والترهيب عن أنس أن النبي ﷺ قال : ( إذا كان يوم القيامة جاءت
الملائكة بصحف مختمة ، فيقول الله عز وجل ألقوا هذا ، واقبلوا هذا فتقول الملائكة : وعزتك ما كتبنا إلا ما كان ،
فيقول إن هذا كان لغيري ولا اقبل اليوم
إلا ما كان لي ) . ويروى عن الحسن قال
: " كانت شجرةٌ تعبد من دون الله ، فجاء إليها رجلٌ فقال : لأقطعن هذه الشجرة
، فجاء إليها ليقطعها غضباً لله ، فلقيه الشيطان في صورة إنسان فقال : ما تريد ؟
قال أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تُعْبَدُ من دون الله ، قال : إذا أنت لم
تعْبدها فما يضرك من عبدها ؟ قال لأقطعنها ، فقال له الشيطان : هل لك فيما هو خيرٌ
لك من ذلك لا تقطعها ولك ديناران إذا أصبحت عند وسادتك ، قال فمن لي بذلك ؟ قال :
أنا لك ، فرجع فأصبح فوجد عند وسادته دينارين ، ثم أصبح فلم يجد شيئا فقام غضبان
ليقطعها ، فتمثل له الشيطان في صورته فقال ما تريد ؟ قال اريد أن أقطع هذه الشجرة
التي تعبد من دون الله ، قال كذبت ، ما لك إلى قطعها من سبيل فذهب ليقطعها ، فضرب
به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله ، ثم قال له : أتدري من أنا ؟ فأخبره أنه الشيطان
وقال : جئت أول مرّة غضباً لله ، فلم يكن لي عليك سبيل ، فخدعتك بالدينارين فتركتها
فلما فقدتهما جئت غضباً للدينارين فسُلِطت
عليك " . وقيل أن رجلاً كان يخرج في زيّ النساء ، فيحضر حيث يحضرن من عرس ،
فاتفق أنه حضر يوماً موضعاً فيه مجتمع النساء ، فسُرِقت دُرّة فصاحوا : أغلقوا
الباب حتى نفتش ففتشوا واحدة واحدة ، حتى بلغت النوبة إلى الرجل
وإلى امرأة معه ، فدعا الله بإخلاص وقال : إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل
هذا ، فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا : أطلقوا الحرّة فقد وجدنا الدرّة .
إن الذي يعمل بغير إخلاص ولا اقتداء ، كمسافر
يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه ، ولهذا سيأتي أقوام يوم القيامة بأعمال كالجبال
لكنها لا تنفعهم لأنها فقدت أهم شروط قبولها :(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل
فجعلناه هباءً منثوراً ) فما هو
الإخلاص ؟ وما هو الفرق بين الإخلاص والرياء ؟
الإخلاص : أن يكون قصد الإنسان في سكناته وحركاته وعباداته
الظاهرة والباطنة خالصة لوجه الله تعالى ، بأن يعمل عمل الخير ابتغاء مرضاة الله
تعالى لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس ، وعرفه ابن القيم بأنه :
إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة أن تقصده وحده لا شريك له . فالعمل الخالص
لوجه الله تعالى سبب للثواب ، أما العمل الذي لا يريد به إلا الرياء فإنه سبب
للعقاب أما العمل المشوب بثوب الرياء وحظوظ لنفس ، أي فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن
امتزج بهذا الباعث باعث آخر ، إما من الرياء ، أو من غيره من حظوظ النفس ، كمن
يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب ، أو يتعلم العلم ليسهل عليه
طلب ما يكفيه من المال ، أو كمن خرج حاجاً يبتغي التجارة صح حجه هنا
الباعث هو التقرب إلى الله ، ولكنه انضاف إليه خاطر من الخواطر التي ذكرنا ، مما يجعل العمل أخف عليه بسببها ، وهذا مما
يخرج العمل عن حد الإخلاص أما من ناحية استحقاق الثواب ، فقد نظر العلماء
إلى قدر قوة الباعث ، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي صار
العمل لا له ولا عليه ، وإن كان باعث الرياء أقوى استحق
العقاب ، لكن عقابه دون عقاب من تجرد للرياء وإن كان الباعث الديني أقوى فله الثواب بقدر
الزيادة في الباعث ، والرياء : هو الذي يعمل أيُ عمل من أعمال الخير والبر من أجل
أن يمدحه الناس ، فهذا الإنسان ليس له ثواب عند الله في هذا العمل ، وعليه ذنب من
الكبائر ومن يتصدق بنية التقرب إلى الله ،
وإخلاص العمل له ليس كمن يتصدق ليقال عنه:
أبو الفقراء ، أو فلان معين الأرامل والمساكين فإن تصدق بهذه النية فلا ثواب له ولو وزع جبالاً من ذهب ، بل ويخرج من العمل
وعليه ذنب من الكبائر الذي هو ذنب الرياء .
إن
المسلم الحق أبعد ما يكون عن الرياء ، لأن الرياء يحبط الأجر ، ويبطل العمل ويجلب الخزي لصاحبه يوم يقوم الناس لرب
العالمين ، والإخلاص لله في القول والعمل هو لب لباب هذا الدين ، وعبادة الله لا
تكون مقبولة إلا إذا كانت خالصة لوجه الله الكريم لقوله تعالى : )
مخلصين له الدين (
البينة
5 . ومتى شابت العبادة شائبة من رياء أو سمعة أو حب ظهور ، بطَلَتْ ومُحِق ثوابها
، ومن هنا كانت صدقة السرّ أعظم ثوابا ، وفاعلها من السبعة الذين يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله ، كما أخبر الرسول ﷺ : ( ورجلٌ
تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما
تنفق يمينه ) . وقد عمل بهذا الهدي سلفنا الصالح فهذا علي بن
الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقـول : " إن صدقة
السرّ تطفىء غضب الرب عز وجل " وقد كان ناس من المدينة يعيشون ، لا يدرون من
أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتَوْنَ به في الليل . كانت
بينهم وبين الله أسرار ، لو أقسم منهم على الله أحد لأبرَّه ، لإخلاصهم وصدقهم مع
الله تبارك وتعالى .
قال أبو حازم : " لا يحسن عبدٌ فيما بينه
وبين ربه ، إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد ، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله إلا
أعوَّر الله ما بينه وبين العباد ، ولمصانعة وجه واحد أيسر من مصانعة الوجوه كلها " .
وهذا
داود ابن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله كان له دكَّان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به ،
فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به ، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله ، أربعين سنة
وهم لا يدرون بصيامه وكان رحمه الله يقوم
الليل أكثر من عشرين سنة ، ولم تعلم به زوجته .
أي إخفاء للعمل كهذا ! ، وأي إخلاص كهذا !، وأي
أسرار كانت بينهم وبين الله !. وأين بعض المسلمين اليوم ؟! الذي يحدِّث عن جميع
أعماله ، ولو قام ليلة من الدهر لعلم بها الأقارب والجيران والأصدقاء ، ولو تصدَّق
بصدقة أو أهدى هدية أو تبَّرع بمال أو غير ذلك لعلم الناس به فهل
هؤلاء ! أكمل إيماناً وأقوى إخلاصاً من أؤلئك السلف ، وهل كانوا يخفون أعمالهم
لضعف إيمانهم ، وهؤلاء يظهرونها لكمال إيمانهم ؟ عجباً والله .
قال تعالى: )
فَمَن
كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (
وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه قيل:
وما إتقانه يا رسول الله ؟ قال: يخلصه من الرياء والبدعة ) .
وسئل النبي ﷺ كما روى
الحاكم في المستدرك عن الإنسان الذي يقاتل يبتغي الأجر والذكر ما له ؟ أي يبتغي
الأجر من الله والذكر من الناس أن يقولوا عنه فلانٌ بطل مقدام في الحرب ، فسألوا
الرسول ما له ؟ قال: ( لا شيء له ) فاستعظم ذلك الناس ، فقالوا للرجل لعلك
لم تفهم المسألة ، أعد المسألة على النبي ﷺ فرجع للرسول وسأله ثانية فقال: ( لا شي له
) لأن هذا العمل لم يكن خالصاً لوجه الله ، ولا بد من لفت الأنظار إلى أن الذي يقوم
بعمل البر لأجل الثواب ولأجل محمدة الناس لا أجر له ، ومن يقول أن له نصف الأجر
فإنه هذا يخالف الشريعة بدليل هذا الحديث ، فالإخلاص إذاً هو روح العمل ، فإذا فقد
فلا ثواب على العمل ، وفاعله عليه ذنب من الكبائر ، وعليه معصية كبيرة ويستحق
العذاب في الآخرة . وإنما تحفظ الأمة وتنصر بإخلاص رجالها روى النسائي وغيره أن
رسول الله ﷺ
قال : ( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ) قيل
لحمدون بن أحمد ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : " لأتهم تكلموا لعز
الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن ونحن
نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق " . وقد كان عمل الخلوة أحب إلى
السلف من عمل الجلوة ، فإياكم وبكاء الرياء قال النووي : " البكاء عشرة أجزاء
، تسعة لغير الله وواحد لله ، فإذا جاء الذي لله مرّة في السنة فهو كثير " .
وقال سفيان الثوري : " إذا استكمل العبد الفجور ملك عينيه ، يبكي بهما متى
يشاء " وفي حلقة الحسن لبصري جعل رجلٌ يبكي وارتفع صوته ، فقال الحسن :
" إن الشيطان ليُبْكي هذا الآن " . وقال سفيان بن عيينة : "
أصابتني ذات يومٍ رِقَّةٌ فبكيت ، فقلت في نفسي ، لو كان بعض أصحابنا لرق معي ، ثم
غفوت ، فأتاني آت في منامي فرفسني وقال : يا سفيان خذ أجرك ممن أحببت أن يراك
".
وقد
أمرنا الله تعالى بالإخلاص وحذرنا من الرياء قال تعالى: )
فَلْيَعْمَلْ
عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (
أي
فليعمل عمل البر والخير والطاعة مبتغياً بذلك وجه الله ، لا يريد محمدة الناس لأن
ما عند الناس يزول وما عند الله باق لا يزول ، وما عند الله خير وأبقى ولذلك
كان حال السلف رضي الله عنهم هو: إذا أصلحت ما بينك وبين ربك فلا تبالي بالناس .
وقد يكون الرياء من الصغار للكبار ابتغاء عرض
الدنيا وقد يكون من الكبار للصغار ابتغاء
تأليف الأتباع ليزرعوا في القلوب هيبتهم ، وليجعلوا لجاههم في
الأرض دعائم مكينة ، فيفعلون الخير لا لوجه الله ولا لحب الخير بل ليلتف الناس حولهم ، فيكون ريائهم امتداداً
لكبريائهم وتصحيح النية في نظر الإسلام هو معيار ما في العمل من كمال وفضيلة ، فلا
يعتبر العطاء نبلاً ولا الجهاد فضلاً إلا إذا صدر عن صاحبه خالصاٍ لوجه الله ،
والوعيد الذي يسوقه الإسلام للفضائل التي خالطها الرياء ، وعيدٌ يتطاير منه الشرر
، ويتفجر منه المقت ، بل إنه وعيدُ أنكى مما سبق من عقاب على كثير من الرذائل ،
وهذا ما يدعو للغرابة عن أبي هريرة : ( حدثني رسول الله ﷺ
أن الله سبحانه إذا كان يوم القيامة ينـزل إلى العباد ليقضى بينهم ، فأول من يدعى
به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجلٌ كثير المال ، فيقول الله عز
وجل للقارئ ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي
قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار فيقول
الله عز وجل له كذبت ، وتقول له الملائكة كذبت ، ويقول الله تبارك وتعالى : بل
أردت أن يقال : فلان قارئ وقد قيل ذلك . ويؤتى بصاحب المال فيقول عز وجل : ألم
أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما
آتيتك قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول
الله له كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله تبارك وتعالى : بل أردت أن يقال
فلانٌ جواد وقد قيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له في ماذا
قتلت ؟ فيقول إي وربي ، أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له
: كذبت وتقول له الملائكة كذبت ، ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل
ذلك قال أبو هريرة ثم ضرب رسول الله ﷺ
على ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة
أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ) رواه
الترمذي . في هذا دليل على فساد النوايا ودليل
على أن الإخلاص هو الذي يجعل للأعمال قيمة عند الله تبارك وتعالى ، فلا إنفاق، ولا
استشهاد ، ولا قراءة قرآن ، إلا بالإخلاص لله ربِّ العالمين ، والعاقل هو الذي
يخلص النية لله تبارك وتعالى لأنّ الناس لا ينفعوه بشيء إذا راءى لهم ، بل هو
الخاسر يوم لقيامة . وعلاج هذا كما قال أحد العلماء : نظر الأكياس في تفسير
الإخلاص ، فلم يجدوا غير أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا
يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا
وأن يدعو الله : اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني
أريد به وجهك ، فخالط قلبي منه ما قد علمت )
يعلم
خائنة الأعين وما تخفي الصدور (
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق