الاثنين، 10 نوفمبر 2014

الإخـلاص



الإخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة المرسلين ، إنه مسك القلوب وماء حياتها ، بل إن مدار الفلاح عليه قال تعالى : ) وَما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (البينة 5 . وقديماً قيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق . قال تعالى ) فاعبد الله مخلصاً له الدين ( الزمر 302 .
وروى الحاكم أن النبي قال لمعاذ بن جبل : ( أخلص دينك يكفك القليل من العمل ) وعن أبي هريرة أن رسول الله قال:( قال تعالى:أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم .
وفي الترغيب والترهيب عن أنس أن النبي قال : ( إذا كان يوم القيامة جاءت الملائكة بصحف مختمة ، فيقول الله عز وجل ألقوا هذا ، واقبلوا هذا  فتقول الملائكة : وعزتك ما كتبنا إلا ما كان ، فيقول إن هذا كان لغيري  ولا اقبل اليوم إلا ما كان لي ) .  ويروى عن الحسن قال : " كانت شجرةٌ تعبد من دون الله ، فجاء إليها رجلٌ فقال : لأقطعن هذه الشجرة ، فجاء إليها ليقطعها غضباً لله ، فلقيه الشيطان في صورة إنسان فقال : ما تريد ؟ قال أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تُعْبَدُ من دون الله ، قال : إذا أنت لم تعْبدها فما يضرك من عبدها ؟ قال لأقطعنها ، فقال له الشيطان : هل لك فيما هو خيرٌ لك من ذلك لا تقطعها ولك ديناران إذا أصبحت عند وسادتك ، قال فمن لي بذلك ؟ قال : أنا لك ، فرجع فأصبح فوجد عند وسادته دينارين ، ثم أصبح فلم يجد شيئا فقام غضبان ليقطعها ، فتمثل له الشيطان في صورته فقال ما تريد ؟ قال اريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله ، قال كذبت ، ما لك إلى قطعها من سبيل فذهب ليقطعها ، فضرب به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله ، ثم قال له : أتدري من أنا ؟ فأخبره أنه الشيطان وقال : جئت أول مرّة غضباً لله ، فلم يكن لي عليك سبيل ، فخدعتك بالدينارين فتركتها  فلما فقدتهما جئت غضباً للدينارين فسُلِطت عليك " . وقيل أن رجلاً كان يخرج في زيّ النساء ، فيحضر حيث يحضرن من عرس ، فاتفق أنه حضر يوماً موضعاً فيه مجتمع النساء ، فسُرِقت دُرّة فصاحوا : أغلقوا الباب حتى نفتش   ففتشوا واحدة واحدة ، حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه ، فدعا الله بإخلاص وقال : إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا ، فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا : أطلقوا الحرّة فقد وجدنا الدرّة .  
 إن الذي يعمل بغير إخلاص ولا اقتداء ، كمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه ، ولهذا سيأتي أقوام يوم القيامة بأعمال كالجبال لكنها لا تنفعهم لأنها فقدت أهم شروط قبولها :(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً )  فما هو الإخلاص ؟ وما هو الفرق بين الإخلاص والرياء ؟
 الإخلاص :  أن يكون قصد الإنسان في سكناته وحركاته وعباداته الظاهرة والباطنة خالصة لوجه الله تعالى ، بأن يعمل عمل الخير ابتغاء مرضاة الله تعالى لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس ، وعرفه ابن القيم بأنه : إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة أن تقصده وحده لا شريك له . فالعمل الخالص لوجه الله تعالى سبب للثواب ، أما العمل الذي لا يريد به إلا الرياء فإنه سبب للعقاب أما العمل المشوب بثوب الرياء وحظوظ لنفس ، أي فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر ، إما من الرياء ، أو من غيره من حظوظ النفس ، كمن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب ، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال ، أو كمن خرج حاجاً يبتغي التجارة صح حجه   هنا الباعث هو التقرب إلى الله ، ولكنه انضاف إليه خاطر من الخواطر التي ذكرنا  ، مما يجعل العمل أخف عليه بسببها ، وهذا مما يخرج العمل عن حد الإخلاص   أما من ناحية استحقاق الثواب ، فقد نظر العلماء إلى قدر قوة الباعث ، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي   صار العمل لا له ولا عليه ، وإن كان باعث الرياء أقوى   استحق العقاب ، لكن عقابه دون عقاب من تجرد للرياء  وإن كان الباعث الديني أقوى فله الثواب بقدر الزيادة في الباعث ، والرياء : هو الذي يعمل أيُ عمل من أعمال الخير والبر من أجل أن يمدحه الناس ، فهذا الإنسان ليس له ثواب عند الله في هذا العمل ، وعليه ذنب من الكبائر  ومن يتصدق بنية التقرب إلى الله ، وإخلاص العمل له  ليس كمن يتصدق ليقال عنه: أبو الفقراء ، أو فلان معين الأرامل والمساكين فإن تصدق بهذه النية فلا ثواب له  ولو وزع جبالاً من ذهب ، بل ويخرج من العمل وعليه ذنب من الكبائر الذي هو ذنب الرياء .
إن المسلم الحق أبعد ما يكون عن الرياء ، لأن الرياء يحبط الأجر ، ويبطل العمل  ويجلب الخزي لصاحبه يوم يقوم الناس لرب العالمين ، والإخلاص لله في القول والعمل هو لب لباب هذا الدين ، وعبادة الله لا تكون مقبولة إلا إذا كانت خالصة لوجه الله الكريم لقوله تعالى : ) مخلصين له الدين ( البينة 5 . ومتى شابت العبادة شائبة من رياء أو سمعة أو حب ظهور ، بطَلَتْ ومُحِق ثوابها ، ومن هنا كانت صدقة السرّ أعظم ثوابا ، وفاعلها من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، كما أخبر الرسول : ( ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها  حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) . وقد عمل بهذا الهدي سلفنا الصالح   فهذا   علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقـول : " إن صدقة السرّ تطفىء غضب الرب عز وجل " وقد كان ناس من المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتَوْنَ به في الليل . كانت بينهم وبين الله أسرار ، لو أقسم منهم على الله أحد لأبرَّه ، لإخلاصهم وصدقهم مع الله تبارك وتعالى .
 قال أبو حازم : " لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين ربه ، إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد ، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله   إلا أعوَّر الله ما بينه وبين العباد ، ولمصانعة وجه واحد  أيسر من مصانعة الوجوه كلها " .
وهذا داود ابن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله  كان له دكَّان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به ، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به ، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله ، أربعين سنة وهم لا يدرون بصيامه  وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ، ولم تعلم به زوجته .
 أي إخفاء للعمل كهذا ! ، وأي إخلاص كهذا !، وأي أسرار كانت بينهم وبين الله !. وأين بعض المسلمين اليوم ؟! الذي يحدِّث عن جميع أعماله ، ولو قام ليلة من الدهر لعلم بها الأقارب والجيران والأصدقاء ، ولو تصدَّق بصدقة أو أهدى هدية أو تبَّرع بمال أو غير ذلك لعلم الناس به    فهل هؤلاء ! أكمل إيماناً وأقوى إخلاصاً من أؤلئك السلف ، وهل كانوا يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم ، وهؤلاء يظهرونها لكمال إيمانهم ؟ عجباً والله .  
 قال تعالى: ) فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ( وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه   قيل: وما إتقانه يا رسول الله ؟ قال: يخلصه من الرياء والبدعة ) .
 وسئل النبي كما روى الحاكم في المستدرك عن الإنسان الذي يقاتل يبتغي الأجر والذكر ما له ؟ أي يبتغي الأجر من الله والذكر من الناس أن يقولوا عنه فلانٌ بطل مقدام في الحرب ، فسألوا الرسول ما له ؟ قال: ( لا شيء له ) فاستعظم ذلك الناس ، فقالوا للرجل لعلك لم تفهم المسألة ، أعد المسألة على النبي  فرجع للرسول وسأله ثانية فقال: ( لا شي له ) لأن هذا العمل لم يكن خالصاً لوجه الله ، ولا بد من لفت الأنظار إلى أن الذي يقوم بعمل البر لأجل الثواب ولأجل محمدة الناس لا أجر له ، ومن يقول أن له نصف الأجر فإنه هذا يخالف الشريعة بدليل هذا الحديث ، فالإخلاص إذاً هو روح العمل ، فإذا فقد فلا ثواب على العمل ، وفاعله عليه ذنب من الكبائر ، وعليه معصية كبيرة ويستحق العذاب في الآخرة . وإنما تحفظ الأمة وتنصر بإخلاص رجالها روى النسائي وغيره أن رسول الله قال : ( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها  بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم )   قيل لحمدون بن أحمد ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : " لأتهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن   ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق " . وقد كان عمل الخلوة أحب إلى السلف من عمل الجلوة ، فإياكم وبكاء الرياء قال النووي : " البكاء عشرة أجزاء ، تسعة لغير الله وواحد لله ، فإذا جاء الذي لله مرّة في السنة فهو كثير " . وقال سفيان الثوري : " إذا استكمل العبد الفجور ملك عينيه ، يبكي بهما متى يشاء " وفي حلقة الحسن لبصري جعل رجلٌ يبكي وارتفع صوته ، فقال الحسن : " إن الشيطان ليُبْكي هذا الآن " . وقال سفيان بن عيينة : " أصابتني ذات يومٍ رِقَّةٌ فبكيت ، فقلت في نفسي ، لو كان بعض أصحابنا لرق معي ، ثم غفوت ، فأتاني آت في منامي فرفسني وقال : يا سفيان خذ أجرك ممن أحببت أن يراك ".
وقد أمرنا الله تعالى بالإخلاص وحذرنا من الرياء قال تعالى: ) فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ( أي فليعمل عمل البر والخير والطاعة مبتغياً بذلك وجه الله ، لا يريد محمدة الناس لأن ما عند الناس يزول وما عند الله باق لا يزول ، وما عند الله خير وأبقى   ولذلك كان حال السلف رضي الله عنهم هو: إذا أصلحت ما بينك وبين ربك فلا تبالي بالناس . 
  وقد يكون الرياء من الصغار للكبار ابتغاء عرض الدنيا  وقد يكون من الكبار للصغار ابتغاء تأليف الأتباع   ليزرعوا في القلوب هيبتهم ، وليجعلوا لجاههم في الأرض دعائم مكينة ، فيفعلون الخير لا لوجه الله ولا لحب الخير  بل ليلتف الناس حولهم ، فيكون ريائهم امتداداً لكبريائهم وتصحيح النية في نظر الإسلام هو معيار ما في العمل من كمال وفضيلة ، فلا يعتبر العطاء نبلاً ولا الجهاد فضلاً إلا إذا صدر عن صاحبه خالصاٍ لوجه الله ، والوعيد الذي يسوقه الإسلام للفضائل التي خالطها الرياء ، وعيدٌ يتطاير منه الشرر ، ويتفجر منه المقت ، بل إنه وعيدُ أنكى مما سبق من عقاب على كثير من الرذائل ، وهذا ما يدعو للغرابة عن أبي هريرة : ( حدثني رسول الله أن الله سبحانه إذا كان يوم القيامة ينـزل إلى العباد ليقضى بينهم ، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجلٌ كثير المال ، فيقول الله عز وجل للقارئ  ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال :  كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار فيقول الله عز وجل له كذبت ، وتقول له الملائكة كذبت ، ويقول الله تبارك وتعالى : بل أردت أن يقال : فلان قارئ وقد قيل ذلك . ويؤتى بصاحب المال فيقول عز وجل : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك  قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله تبارك وتعالى : بل أردت أن يقال فلانٌ جواد وقد قيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له في ماذا قتلت ؟ فيقول إي وربي ، أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة كذبت ، ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك قال أبو هريرة ثم ضرب رسول الله على ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة   أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ) رواه الترمذي .  في هذا دليل على فساد النوايا   ودليل على أن الإخلاص هو الذي يجعل للأعمال قيمة عند الله تبارك وتعالى ، فلا إنفاق، ولا استشهاد ، ولا قراءة قرآن ، إلا بالإخلاص لله ربِّ العالمين ، والعاقل هو الذي يخلص النية لله تبارك وتعالى لأنّ الناس لا ينفعوه بشيء إذا راءى لهم ، بل هو الخاسر يوم لقيامة . وعلاج هذا كما قال أحد العلماء : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص ، فلم يجدوا غير أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا  
 وأن يدعو الله : اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك ، فخالط قلبي منه ما قد علمت ) يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ( .












ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق