الاثنين، 10 نوفمبر 2014

الرزق والسعي له




 قال تعالى في سورة الملك  :   

في الآية ما يدل على أن رزق الله الذي ضمنه لعباده لا يُنال   إلا بسعي وعمل قال تعالى : ] وقل اعملوا [ التوبة .   لذلك فإن أوسع شريحة من الفقراء فقراء الكسل ، لكن قد يبتلى الإنسان بعاهة تمنعه أن يكسب رزقه   هذا الفقر الذي قدِّر على الإنسان صاحبه معذور ، وهو فقر القدَر ، و إنسان كسيدنا الصديق أنفق كل ماله ولم يبق لنفسه شيئاً  هذا سماه العلماء فقر الإنفاق ، الأول صاحبه معذور والثاني صاحبه مشكور ، أما الفقر الذي صاحبه مذموم فهو فقر الكسل ، فقر التأجيل  فقر الخلود إلى الراحة  فقر كراهية العمل  .
إذن لابد من السعي لكسب الرزق المضمون في قوله تعالى : ] وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ هود 6. هذا الرزق المضمون لا ينال إلا بسعي وعمل ومشي في مناكب الأرض ، وابتغاء فضل الله فيها كما أفادت الآية  .
 قال تعالى :  ] فامشوا  [ ففي المشي يمتحن الإنسان   يصدق أو يكذب ، يتقن وينصح أو يغش ، فعلة وجودنا في هذه الدنيا الامتحان ، والله عز وجل خلق فينا حاجة إلى الطعام والشراب ، وحاجة إلى الزواج ، ومن أجل هاتين الحاجتين الأساسيتين نتحرك ، وفي أثناء التحرك نمتحن  .
قال بعض العلماء : " علينا أن نجتهد في طلب الحلال لنأكل منه ، ونلبس منه ، وننفق على عيالنا وإخواننا منه ، فإنه موجود ما دام المكلفون في الدنيا " .قال تعالى في سورة الروم : ] الله الذي خلقكم ثم رزقكم [ في الماضي  الرزق منتهٍ ، وإذا قنن الله عز وجل فتقنينه تقنين تأديب لا تقنين عجز ولذلك قال تعالى في سورة الحجر:
قد تكون غلّة القمح في بلدٍ ما تزيد على ما يحتاجه بأضعاف مضاعفة ، وأحياناً لا تزيد بحسب الأمطار ، فالتقنين الإلهي تقنين تأديب لا تقنين عجز ، يقول بعض العلماء : " إذا صدق الإنسان في طلب الحلال استخرجه الله من بين الحرام والشبهات "  قال تعالى في سورة النحل : ] من بين فرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين [ فالأرض مليئة بالدخل الحرام وبالمصادر الحرام ، فأيّ عبد صدق في أن يكون رزقه حلالاً يسوقه الله عز وجل إلى الحلال .
 وطلب الحلال فريضة على كل مسلم ، بل طلب الحلال فريضة بعد الفريضة ، الصلاة فريضة ، والصوم فريضة  والحج فريضة ، وأداء الزكاة فريضة ، بعد هذه الفرائض الفريضة التي تلي أركان الإسلام الكسب الحلال ، فحرفتك التي تحترفها ، ومهنتك التي تمتهنها ، ووظيفتك التي تعيش منها إن كانت في الأصل مشروعة ، وسلكت بها الطرق المشروعة ، وابتغيت منها كفاية نفسك وأهلك وخدمة المسلمين والناس عامة ، وما شغلتك عن واجب ديني ، ولا عن فريضة ، ولا عن طلب علم  ولا عن عمل صالح انقلبت الحرفة إلى عبادة ، ولا تعجب بمن كسب  مالاً من حرام   لا تعجب به لا تقل هنيئاً له ، لا تقل : ما أكثرَ دخْلَه ، فإن كان الدخل حراماً  إن أنفقه أو تصدق به لم يقبل منه ، وإن تركه لم يبارك له فيه ، وإن بقي منه شيء كان زاده إلى النار روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي r قال : ( لا يعجبنك رحبَ الذراعين بالدم ، ولا جامع المال من غير حله ، فإنه إن تصدق لم يقبل منه ، وما بقي كان زاده إلى النار ) . وإن من أوليات العمل أن تسعى لرزق عيالك  أنت أب ، وفي عنقك مسؤولية ، وهؤلاء الصغار أنت متكفّل بتأمين حاجاتهم ، من طعام وشراب وكسوت وتعليم   فحينما تسعى من أجل تأمين رزق أسرتك فأنت في عبادة  الدليل : عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال : مر النبي عليه الصلاة والسلام برجل فرأى أصحاب النبي من جلده ونشاطه فقالوا : يا رسول الله شاب في ريعان الشباب جلد نشيط ، يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( إنْ كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله ) الطبراني . عنده أولاد يحتاجون إلى طعام وشراب ، وكساء وأدوية وحليب ، فبكّر إلى عمله وتعب    أو عنده أب وأم متقدمين في السن فإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه ليتزوج ، ويغض بصره فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفخرة فهو في سبيل الشيطان ، فحينما تقوم إلى عملك ، وقد يكون العمل شاقاً   ويحتاج إلى دوام طويل وإلى الإخلاص ، والتفاني والإتقان  وتأتي في المساءً متعباً منهكاً فأنت في سبيل الله ، أنت في عبادة  ، وحينما يلبي الأب حاجات أسرته يملكهم ، فإنه يملك قلوبهم ، فيرشدهم ، ويوجههم ، أما الأب الكسول الذي لا يعمل كلما طلب منه شيء ، يقول ما معي  فإنهم قد ينصرفون عنه إلى رفقاء السوء ، وحينما تكسب المال الحلال من دون إسراف ، وتنفق على أهلك وأولادك ووالديك من دون إسراف ، من دون تبذير ، فإن هذا العمل في سبيل الله ، يقول عمر بن الخطاب : " لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ، ويقول : اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة  " وقال : " إني لأرى الرجل يعجبني فأقول : أله حرفة ؟ فإن قالوا : لا ، سقط من عيني  " وقد ورد في الأثر أن  النبي عليه الصلاة والسلام أمسك يد عبد الله بن مسعود وكانت خشنة من العمل ، رفعها أمام أصحابه ، وقال : ( إن هذه اليد يحبها الله ورسوله )   
 ولذلك أوجب الإسلام العمل ، ولما سأل عمر أحد الولاة قال له :" ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال له : أقطع يده ، فقال للوالي : إذاً إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك ، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم   فإن وفرنا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل ، فإن لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية " فالعمل واجب على كل مسلم ، وهو فريضة بعد الفريضة ، طلب الحلال فريضة ، لا تحل الصدقة لغني ولا ذي مرة قوي ، فالشاب القوي لا تحل له الصدقة ، والغني أيضاً لا تحل له الصدقة ، ورد في الأثر أن النبي r رأى شاباً يقرأ القرآن في وقت العمل ، سأله : ( من يطعمك ؟ قال : أخي ، قال : أخوك أعبد منك ) . 
فالعمل أشرف ألف مرة من ذل السؤال ، أعجبني قول من    اقسم على قوله " والله ، والله ، مرتين ، لحفر بئرين بإبرتين  وكنس أرض الحجاز بريشتين ، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين   وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين لهي أهون من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين "   .
 في القرآن آيةٌ عظيمة هي مفتاح الرزق : ] وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [  قد يقول قائل : الظروف صعبة  والأعمال قليلة     وهناك بطالة ، فقل ما شئت ، ولكن هذه الآية تلغي كل هذه الأشياء ، بأي ظرف ، وبأي وضع  وبأي معطيات  وبأي ضائقة ، فتعامل مع الله مباشرة   استقم على أمره  وارفع رأسك ، وكن عزيزاً ، وقل : يا رب ، أنت الذي قلت في سورة هود 6 :
ولزوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه : ] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم [ الأنعام 38 .
والدابة كل ما يدب على الأرض ، وقد ذكر الله عن موسى عليه السلام أنه شغل حين كلف عن أهله ، وتساءل كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي ؟ فأوحى له الله أن يضرب حجرا ، فضربها فانفلقت ليخرج له حجرا ، فضرب الحجر    فانشق له عن دودة تلوك شيئاً كأنما تتغذى به فقال : إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر الأرض ، ومضى إلى رسالته .
وهذا أمر طبيعي لأن الله خالق كل الخلق ، ولا بد أن يضمن له استبقاء الحياة واستبقاء النوع ، واستبقاء الحياة بالقوت   واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة .
ولذلك قال العلماء : يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب ، فالإله سبحانه هو رب الجميع ، لكنه إله من آمن به وما دام الله هو رب الجميع ، فالجميع مسئولون منه   فالشمس تشرق على المؤمن والكافر ، والهواء موجودٌ للمؤمن والكافر ، لأنه عطاء ربوبية يشترك فيه الجميع ، لكن عطاء الألوهية إنما يكون في العبادة ، وهو يخرجك عن رغباتك إلى ما يرضي الله ، فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل أمراً فإن المنهج يقول لك : لا ، لأنك بهذا تتحكم في الشهوات ، أما في الأمور الدنيوية فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقي حباته ، وهنا يقول الله تعالى : ] وما من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها [ . وكلمة على تفيد أن الرزق حق للدابة ، لكنها لم تفرضه هي على الله ، ولكن الله قد ألزم نفسه بهذا الحق ، ولأن الله هو الذي يرزق الدابة ، فهو يعلم مستقرها وأين تعيش ليوصل إليها الرزق فقال تعالى : ] ويعلم مستقرها ومستودعها [ والله يعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه ، والإنسان لا يعلم عنوان الرزق . لأن الرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب ، ويجب أن نعلم أن السعي إلى الرزق شيء آخر ، لأنك قد تسعى إلى رزقٍ ليس لك بل هو رزق لغيرك ، فقد تزرع أرضاٍ وتضطر لتركها لأمر ما ، فيأتي غيرك لأكل ثمر هذا الزرع   وتأكل أنت من ثمر زرع غيرك ولذلك يقول الله سبحانه : ] ويعلم مستقرها ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبين [ .       
 




  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق