قال تعالى في سورة الملك :
في
الآية ما يدل على أن رزق الله الذي ضمنه لعباده لا يُنال إلا بسعي وعمل قال تعالى :
]
وقل
اعملوا
[
التوبة . لذلك فإن أوسع شريحة من الفقراء
فقراء الكسل ، لكن قد يبتلى الإنسان بعاهة تمنعه أن يكسب رزقه هذا الفقر الذي قدِّر على الإنسان صاحبه معذور
، وهو فقر القدَر ، و إنسان كسيدنا الصديق أنفق كل ماله ولم يبق لنفسه شيئاً هذا سماه العلماء فقر الإنفاق ، الأول صاحبه
معذور والثاني صاحبه مشكور ، أما الفقر الذي صاحبه مذموم فهو فقر الكسل ، فقر
التأجيل فقر الخلود إلى الراحة فقر كراهية العمل .
إذن
لابد من السعي لكسب الرزق المضمون في قوله تعالى : ]
وما
من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [
هود 6. هذا الرزق المضمون لا ينال إلا بسعي وعمل ومشي في مناكب الأرض ، وابتغاء
فضل الله فيها كما أفادت الآية .
قال تعالى :
] فامشوا [
ففي المشي يمتحن الإنسان يصدق أو يكذب ،
يتقن وينصح أو يغش ، فعلة
وجودنا في هذه الدنيا الامتحان ، والله عز وجل خلق فينا حاجة إلى الطعام والشراب ،
وحاجة إلى الزواج ، ومن أجل هاتين الحاجتين الأساسيتين نتحرك ، وفي أثناء التحرك
نمتحن .
قال
بعض العلماء : " علينا أن نجتهد في طلب الحلال لنأكل منه ، ونلبس منه ، وننفق
على عيالنا وإخواننا منه ، فإنه موجود ما دام المكلفون في الدنيا " .قال تعالى في سورة الروم : ]
الله
الذي خلقكم ثم رزقكم [
في الماضي الرزق منتهٍ ، وإذا قنن الله عز
وجل فتقنينه تقنين تأديب لا تقنين عجز ولذلك قال تعالى في سورة
الحجر:

قد
تكون غلّة القمح في بلدٍ ما تزيد على ما يحتاجه بأضعاف مضاعفة ، وأحياناً لا تزيد
بحسب الأمطار ، فالتقنين الإلهي تقنين تأديب لا تقنين عجز ،
يقول بعض العلماء : " إذا صدق الإنسان في طلب الحلال استخرجه الله من بين الحرام
والشبهات " قال
تعالى في سورة النحل : ]
من
بين فرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين [
فالأرض مليئة بالدخل الحرام وبالمصادر الحرام ، فأيّ عبد صدق في أن يكون رزقه
حلالاً يسوقه الله عز وجل إلى الحلال .
وطلب الحلال فريضة على كل مسلم ، بل طلب الحلال
فريضة بعد الفريضة ، الصلاة فريضة ، والصوم فريضة
والحج فريضة ، وأداء الزكاة فريضة ، بعد هذه الفرائض الفريضة التي تلي
أركان الإسلام الكسب الحلال ، فحرفتك التي تحترفها ، ومهنتك التي تمتهنها ،
ووظيفتك التي تعيش منها إن كانت في الأصل مشروعة ، وسلكت بها الطرق المشروعة ،
وابتغيت منها كفاية نفسك وأهلك وخدمة المسلمين والناس عامة ، وما شغلتك عن واجب
ديني ، ولا عن فريضة ، ولا عن طلب علم ولا
عن عمل صالح انقلبت الحرفة إلى عبادة ، ولا تعجب بمن كسب مالاً من حرام لا تعجب به لا تقل هنيئاً له ، لا تقل : ما
أكثرَ دخْلَه ، فإن كان الدخل حراماً إن
أنفقه أو تصدق به لم يقبل منه ، وإن تركه لم يبارك له فيه ، وإن بقي منه شيء كان
زاده إلى النار روى البيهقي عن ابن عباس رضي
الله عنه أن النبي r قال : ( لا يعجبنك رحبَ الذراعين بالدم ،
ولا جامع المال من غير حله ، فإنه إن تصدق لم يقبل منه ، وما بقي كان زاده إلى
النار ) . وإن من أوليات العمل أن تسعى لرزق
عيالك أنت أب ، وفي عنقك مسؤولية ، وهؤلاء
الصغار أنت متكفّل بتأمين حاجاتهم ، من طعام وشراب وكسوت وتعليم فحينما تسعى من أجل تأمين رزق أسرتك فأنت في
عبادة الدليل : عن كعب بن عجرة رضي الله
عنه قال : مر النبي عليه الصلاة والسلام برجل فرأى أصحاب النبي من جلده ونشاطه
فقالوا : يا رسول الله شاب في ريعان الشباب جلد نشيط ، يا رسول الله لو كان هذا في
سبيل الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( إنْ كان خرج يسعى على ولده صغارًا
فهو في سبيل الله ) الطبراني . عنده أولاد يحتاجون إلى طعام وشراب ، وكساء
وأدوية وحليب ، فبكّر إلى عمله وتعب أو
عنده أب وأم متقدمين في السن فإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل
الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه ليتزوج ، ويغض بصره فهو في سبيل الله ، وإن كان
خرج يسعى رياءً ومفخرة فهو في سبيل الشيطان ، فحينما تقوم إلى عملك ، وقد يكون
العمل شاقاً ويحتاج إلى دوام طويل وإلى
الإخلاص ، والتفاني والإتقان وتأتي في
المساءً متعباً منهكاً فأنت في سبيل الله ، أنت في عبادة ، وحينما يلبي الأب حاجات أسرته يملكهم ، فإنه
يملك قلوبهم ، فيرشدهم ، ويوجههم ، أما الأب الكسول الذي لا يعمل كلما طلب منه شيء
، يقول ما معي فإنهم قد ينصرفون عنه إلى
رفقاء السوء ، وحينما تكسب المال الحلال من دون إسراف ، وتنفق على أهلك وأولادك
ووالديك من دون إسراف ، من دون تبذير ، فإن هذا العمل في سبيل الله ، يقول عمر بن الخطاب : " لا يقعدن
أحدكم عن طلب الرزق ، ويقول : اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا
فضة " وقال : " إني لأرى الرجل
يعجبني فأقول : أله حرفة ؟ فإن قالوا : لا ، سقط من عيني " وقد ورد في الأثر أن النبي عليه الصلاة والسلام أمسك يد عبد الله بن
مسعود وكانت خشنة من العمل ، رفعها أمام أصحابه ، وقال : (
إن هذه اليد يحبها الله ورسوله )
ولذلك أوجب الإسلام العمل ، ولما سأل عمر أحد
الولاة قال له :" ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال له : أقطع
يده ، فقال للوالي : إذاً إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك ، إن
الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم فإن وفرنا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه
الأيدي خلقت لتعمل ، فإن لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ،
فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية " فالعمل واجب على كل مسلم ، وهو فريضة
بعد الفريضة ، طلب الحلال فريضة ، لا تحل الصدقة لغني ولا ذي مرة قوي ، فالشاب
القوي لا تحل له الصدقة ، والغني أيضاً لا تحل له الصدقة ، ورد في الأثر أن النبي r
رأى شاباً يقرأ القرآن في وقت العمل ، سأله :
( من يطعمك ؟ قال : أخي
، قال : أخوك أعبد منك ) .
فالعمل
أشرف ألف مرة من ذل السؤال ، أعجبني قول من
اقسم على قوله " والله ، والله ، مرتين ، لحفر بئرين بإبرتين وكنس أرض الحجاز بريشتين ، ونقل بحرين زاخرين
بمنخلين وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا
أبيضين لهي أهون من طلب حاجة من لئيم لوفاء دين " .
في القرآن آيةٌ عظيمة هي مفتاح الرزق : ]
وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [
قد
يقول قائل : الظروف صعبة والأعمال
قليلة وهناك بطالة ، فقل ما شئت ، ولكن
هذه الآية تلغي كل هذه الأشياء ، بأي ظرف ، وبأي وضع وبأي معطيات
وبأي ضائقة ، فتعامل مع الله مباشرة استقم على أمره وارفع رأسك ، وكن عزيزاً ، وقل : يا رب ، أنت
الذي قلت في سورة هود 6 :

ولزوال
الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين
وفي
آية أخرى يقول الله سبحانه : ]
وما
من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم [
الأنعام
38 .
والدابة
كل ما يدب على الأرض ، وقد ذكر الله عن موسى عليه السلام أنه شغل حين كلف عن أهله
، وتساءل كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي ؟ فأوحى له الله أن يضرب حجرا ،
فضربها فانفلقت ليخرج له حجرا ، فضرب الحجر
فانشق له عن دودة تلوك شيئاً كأنما
تتغذى به فقال : إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر
الأرض ، ومضى إلى رسالته .
وهذا
أمر طبيعي لأن الله خالق كل الخلق ، ولا بد أن يضمن له استبقاء الحياة واستبقاء
النوع ، واستبقاء الحياة بالقوت واستبقاء
النوع بالزواج والمصاهرة .
ولذلك
قال العلماء : يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب ، فالإله سبحانه هو رب
الجميع ، لكنه إله من آمن به وما دام الله هو رب الجميع ، فالجميع مسئولون
منه فالشمس تشرق على المؤمن والكافر ،
والهواء موجودٌ للمؤمن والكافر ، لأنه عطاء ربوبية يشترك فيه الجميع ، لكن عطاء
الألوهية إنما يكون في العبادة ، وهو يخرجك عن رغباتك إلى ما يرضي الله ، فحين
تطلب منك شهواتك أن تفعل أمراً فإن المنهج يقول لك : لا ، لأنك بهذا تتحكم في
الشهوات ، أما في الأمور الدنيوية فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقي حباته ، وهنا
يقول الله تعالى : ]
وما
من دابةٍ في الأرض إلا على الله رزقها [
. وكلمة على تفيد أن الرزق حق للدابة ، لكنها لم تفرضه هي على الله ، ولكن الله قد
ألزم نفسه بهذا الحق ، ولأن الله هو الذي يرزق الدابة ، فهو يعلم مستقرها وأين
تعيش ليوصل إليها الرزق فقال تعالى : ]
ويعلم
مستقرها ومستودعها [
والله يعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه ، والإنسان لا يعلم
عنوان الرزق . لأن الرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب ، ويجب أن نعلم أن السعي إلى
الرزق شيء آخر ، لأنك قد تسعى إلى رزقٍ ليس لك بل هو رزق لغيرك ، فقد تزرع أرضاٍ
وتضطر لتركها لأمر ما ، فيأتي غيرك لأكل ثمر هذا الزرع وتأكل أنت من ثمر زرع غيرك ولذلك يقول الله
سبحانه : ] ويعلم مستقرها
ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبين [
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق