الاثنين، 10 نوفمبر 2014

اختيار الأصدقاء




 قضت حكمة الله أن تتأثر النفوس بمن حولها ، وتتجانس الطبائع بطبائع من تجالسها وتخالطها ، وتصاحبها وتصادقها   فإن كان من حولك أناس سمت أخلاقهم وشرفت غاياتهم  وكرمت نفوسهم وطبائعهم ، وصفت سرائرهم وعقائدهم  وحسنت معاشرتهم ومصادقتهم ، كنت أنت كذلك سامي الخلق نبيل الغاية ، جميل الطبع والمعاشرة ، صافي السريرة والعقيدة ، وإذا أحاط بك أناس مجرمون وقرناء سوء ملتوون  وأصدقاء غشاشون منافقون ، وكاذبون مخادعون ، فاعلم انك على خطر عظيم ، ووسط بلاء جسيم ، وعاقبة وخيمة ومصير سيء ، فالمؤمن الصادق في إيمانه العاقل التقي ، هو الذي يبحث عن النفوس الطيبة والسرائر النقية ، فيصادقها ويجالسها ويعاشرها ، ويلازمها ليأخذ منها ويقتدي بها ، ويبتعد عن مصادقة الأشرار والمفسدين قال تعالى : ) يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ( وقال عز وجل ) الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوٌ إلا المتقين ( الزخرف 67 . فالأخلاء هم المتحابون في الدنيا على ما يتنافى مع الدين ، هؤلاء متعادون يوم القيامة ، يبغض بعضهم بعضا   وتنقطع في ذلك اليوم كل صحبة كانت لغير الله ، وتنقلب إلى عداوة لانقطاع سببها   بخلاف المتحابين في الله ، فإن محبتهم باقية ، لأن ما كان لله دام واتصل ، وما كان لغير الله انقطع وانفصل ، وعندما سئل رسول الله : ( من أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ؟ فقال المتحابون في الله ) كنـز العمال .  وعن ابن عباس قيل يا رسول الله ؟ أيُّ جلسائنا خير ؟ قال : ( من ذكّرَكُم بالله رؤيتُه ، وزاد في عملكم منطِقُه ، وذكركم بالله علمه) أبو يعلى . فالصلات التي تربطك بالناس إن بدأت نبيلة خالصة ، تقبلها الله وباركها ، وإلا ردها ،  والصديق قد يقود صديقه إلى النجاح في الدنيا والفلاح في الأخرى ، أما الصحبة السيئة فهي وبال وشؤم ، تعود بالندم على صاحبها في الآخرة   ونظرا لخطورة الصديق وتأثيره البالغ على الإنسان ، فإنه لا بد أن تكون هناك ضوابط وقواعد لاختياره ، وإلا أصيب الإنسان بالضرر والعنت ، ولذا يحذر القرآن الكريم من صديق السوء  وإلى ضرورة اختيار الصديق ، وفق مواصفات معينة ، قال تعالى: ) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ، يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا ، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا ( الفرقان 27. فالطبع يسرق من الطبع ، وما أسرع أن يسير الإنسان في الاتجاه الذي يهواه صاحبه  ، ولحماية الخلق الحسن والعادات الكريمة   أمر رسول الله بتخير الجليس فقال : ( إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء ، كحامل المسك ونافخ الكير   فحامل المسك إما إن يحاذيك- أي يعطيك - وإما إن تبتاع منه وإما إن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما إن تجد منه ريحة خبيثة ) رواه البخاري ومسلم .  فالمرء منا لا يستطيع اعتزال الناس جميعا ، ولكن أمر العزلة والاختلاط وما يتبعه من إنشاء الصلات وتكوين الصداقات ، يخضع لأحكام شتى ، فكل اعتزال عن الأمة يفوّت جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو يؤدي إلى التخلي عن الدفاع عن الإسلام أمام خصومه ، فهذا الاعتزال جريمةٌ لا يقبل من صاحبها عذر ، لذا لا يقبل اعتزال الفساد ، ممن يملك تغييره بلسانه فضلاً عن يده .  
وإذا كان لا بد في هذه الحياة الدنيا من الاختلاط والتعارف والصداقة والصحبة ، فإنه لا يصح للإنسان إن يصاحب كل من صادف ، ويصادق كل من يلقاه ، فليس كل إنسان يصلح للصحبة ، بل الواجب تخير الأصدقاء وانتقاء الأصحاب والخلان     ووزن الناس قبل الاختلاط بهم بميزان الإسلام ، والبحث  عن مدى صدقهم في المعاملة قبل الارتباط بهم ، حيث إننا سنتأثر بطبائعهم وسنقلدهم في أخلاقهم وسلوكهم ، لذا فإن ديننا يحتم علينا إن ندقق في مصاحبة الناس ، فنختار الصديق النظيف العفيف الطاهر ، لأن من فسد طبعه لا يعرف ربه ، ولا يذكر خالقه ، يعبد دنياه ويتبع هواه ، ومثل هذا أمر الله سبحانه بمقاطعته والابتعاد عن مصادقته ، قال تعالى لرسوله ) فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلَغُهُم من العلم إن ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بمن اهتدى ( النجم . وقد عظ رجلٌ ابنه فقال له : " إياك وإخوان السوء ، فإنهم يخونون من رافقهم ، ويفسدون من صادقهم ، قربهم أعدى من الجرب ، ورفضهم والبعد عنهم ، من استكمال الأدب والدين  والمرء يعرف بقرينه ، والإخوان اثنان فمحافظ عليك عند البلاء   وصديق لك في الرخاء ، فاحفظ صديق البلية ، وتجنب صديق العافية فإنه أعدى الأعداء " . فمن حق الصديق على صديقه أن يكره مضرته ، وأن يبادر إلى دفعها ، أما أن يكون ميت العاطفة قليل الاكتراث ، فهذا تصرّفٌ لئيم يتنافى مع مشاعر الأخوة ، التي تمزج بين نفوس المسلمين ، التي تجعل المسلم يتألم لما ينـزل بأخيه . 
 واعلم يا أخي أن قضية الصحبة قضية دين ، وليست قضية دنيا فقط قال : ( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل  ) رواه الترمذي. فلا بد في صداقة الصديق الذي نختاره ، أن يكون جادا سويا ، ذا همة عالية ، مبتعدا عن سفاسف الأمور وصغائر الأعمال ، فلا يمارس ما يكون سببا للحكم عليه بالفسق أو قلة العقل ، أو السفاهة والانحراف ، صداقة تعين على أداء الواجب وحفظ الحقوق ،  وتعتمد على قوة العقيدة ، وتزكو بالبعد عن النفاق والفساد ، واجتناب المعاصي التي تغير القلوب ، جاء في الحديث : ( والذي نفسي بيده ما توادّ اثنان فيُفَْرَّق بينهما إلا بذنبٍ يحْدثه أحدهما ) .
إن قضية الصحبة والصداقة والمحبة ، ليست قضية عابرة ، فهي عبارة عن المجالسة والمخالطة والمجاورة ، وهذه الأمور ينبغي ألا تكون إلا لله ، ولا يُقصد بها إلا وجه الله ، روى : (  إن رجلاً زار أخاً له في الله ، فأرصد الله له ملكاً فقال : أين تريد ؟ قال : أريد أن أزور أخي فلانا ، فقال : لحاجة لك عنده ؟ قال : لا ، قال : لقرابةٍ بينك وبينه ؟ قال : لا ، قال : فبنعمةٍ لك عنده ؟ قال : لا  قال : فبم ؟ قال : أحبه في الله ، قال : فإن الله أرسلني إليه يخبرك بأنه يحبك لحبك إياه ، وقد أوجب لك الجنة ) أخرجه مسلم . وروي عن المأمون قوله ، الأخوان ثلاثة : " أحدهم كالغذاء لا بد منه ، والثاني كالدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت ، والثالث كالداء لا يحتاج إليه قط ، ولكن العبد قد يبتلى به ، وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع  " . وقال أحد السلف الأخ الصالح خير لك من نفسك ، لأن النفس أمارة بالسوء ، والأخ الصالح لا يأمر إلا بخير . فما من شيءٍ أدلُ على شيءٍ من الصاحبِ على صاحبه، وقديماً قيل:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه   فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
ولذا يجب أن نكونَ حريصين على مؤاخاة من يتصفُ بالصفات الحميدة ، من عقلٍ وافر يهدي صاحبه إلى الحق بإذن الله ، ومن دينٍ يحملُ صاحبه على اتباع الخيرات وترك المضرات   فالصديق العاقل ينفع بعقله ، ولا يضر بتصرفاته ويفيد عند المشورة في وقت العسر ، ويواسي بماله ورأيه ومشورته ويقف في الملمات ويعفو عن الزلات ، ويملك نفسه عند الغضب  فكم من صديق في اليسر ، لا تدفعه أخلاقه على مواساة أصدقائه  ولا على إيثارهم وقت شدتهم وعسرهم ، وكم من صديق سريع الغضب ، يغلب غضبه عقله ، ويقدم هواه على غيره  وكم من صحبة وصداقة ومودة ، أفسدها سوء الخلق وقبح الكلام وسوء التعبير وشدة الانفعال . وقد صور الشافعي هذه الصفات بقوله :
 إذا المـرء لا يرعـاك إلا تكلفا    فـدعه ولا تكثر عليه التأسفـا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة    وفي القلب صبر للحبيب ولو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلـبه     ولا كل من صافيته لك قـد صفا
إذا لم يكـن صفو الود طبيعة      فـلا خيـر في ود يجيء تكلفـا
ولا خير في خِل ٍ يخون خليـله     ويلقاه مـن بعد المـودة بالجـفا
وينكر عيشا ً قد تقادم عهده       ويظهر سرا ً كان بالأمس قد خفا
سلام ٌعلى الدنيا إذا لم يكن بها   صديق ٌصدوق ٌصادق الوعد منصفا
لقد احتفى الإسلام بمشاعر الصداقة النقية ، ورغب المؤمنين في إخلاصها لله ، وجعل لها من جميل المثوبة ما هي له أهل ، روى أبو داود عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله ؟ : ( إن من عباد الله ناساً ، ما هم بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله ، قالوا : يا رسول الله فخبرنا من هم ؟ قال : هم قومٌ تحابوا بروح الله ، على غير أرحامٍ بينهم ، ولا أموالٍ يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور   وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ : ) ألا إن أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون( .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق