إن ارتكاب المعاصيَ له آثار سيئة على حياة الفرد والجماعة ، لأنّ قوام الحياة
وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله والتقيد بمنهجه ، وإن الانحراف
عن منهجه وعدم طاعته له آثار سيئة منها : نسيان العلم وذهاب الحفظ ، ويا لها من عقوبة
ما أقساها على أهل العلم وطلبته ، وذلك أن العلم نور يقذفه الله في القلوب العامرة
بطاعته ، والمعصية ظلمة قد علاها حب الشهوات ، ولذلك لما جلس الإمام الشافعي بين يدي الإمام مالك ورأى بوادر
الذكاء والنجابة بادية عليه ، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه قال له ناصحا
:"إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية " .
والشافعي رحمه الله هو القائل :
شكوت إلى وكيع
سوء حفظي فأرشدني إلى تـرك المعاصي
وقـال اعلم
بـأن العلـم نورٌ ونور الله لا يهدى
لعاصـي
وقد يتساءل إنسان فيقول: إن فلاناً من الناس قد أُعطيَ
حفظا واستحضاراً على فجوره الذي عُرف به في الناس فكيف ذلك؟! إننا نجد
الجواب واضحاً في قوله تعالى : ] وَٱتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءاتَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا
فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا
وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [ الأعراف 175 .
يقول الإمام ابن القيم معلقاً: "ففي الآية دليل على
أنه ليس كل من آتاه الله العلم قد رفعه به ، إنما الرفعة بالعلم درجة فوق مجرد
إتيانه " فكم من فاجر كان حظه من العلم قيل وقالوا ليكون ذلك حجةً عليه عند الله، دون حقيقة العلم
التي تورث الخشية والإنابة .
ومن أعظم آثار المعاصي وأخطرها على العبد الوحشةُ التي
تحدثها المعاصي بين العبد وربه ، واستثقال الطاعات ، واستمراء الفواحش ،
والاعتيادٍ عليها ، كما تضعف في القلب تعظيم الله وكبرياءه قال ابن القيم رحمه
الله : " فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته ،
وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب ، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حقّ
قدره ، وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه ويكبره ؛ ويرجو وقاره ، ويجلّه من يهون عليه
أمره ونهيه ؟ هذا من أمحل المحال وأبين
الباطل ، وكفى بالمعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله ، وتعظيم
حرماته ، ويهون عليه حقه " فحياة
المرء الحقيقية إنما هي حياة الطاعة ، والشعور بأنه خلع عنه ربقة العبودية للخلق ،
وآوى إلى ظلال العبودية الحقة وقد وجد برد الطاعة والإنابة ، وقد أعجبني قول أحد
الصالحين: "إنه لتمرّ بالقلب لحظات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا
إنهم لفي خير عظيم ". إنّ في الدنيا جنة لا يدخل جنة الآخرة من لم يدخلها ،
إنها جنة الطاعة والعبودية التي يُحرم منها العصاة الفجرة .
ومن آثار المعاصي الحيرة والشقاء وتمزّق القلب في شعاب
الدنيا ، وإتباع الشياطين المتربصة على أفواه السبل المنحرفة عن سبيل الحق روى
البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله خطا مستقيما في الأرض ثم خطَّ خطوطا عن يمينه
وشماله ثم قال: ( هذا سبيل الله ، وهذه السبل ، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو
إليها) ثم قرأ : ] وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [ الأنعام 153 . ومنها تسليط الأعداء وذهاب القوة ونزع الهيبة
من قلوب الأعداء ، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر أن
النبي قال : ( بعثت بالسيف بين يدي
الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل
رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة من الصغار على من خالف أمري , من تشبه بقوم فهو
منهم ) .
والتاريخ خير شاهد على عجيب تأثير المعاصي في الأمم ،
لقد كانت الأمة الإسلامية أمة موفورة
الكرامة ، عزيزة الجانب مرهوبة القوة ،
لكنها أضاعت أمر الله وأقْصت شريعته من حياتها ، فصار أمرها إلى إدبار وعزها إلى
ذل ، ولولا أنها الأمة الخاتمة لأصبحت تاريخاً دابراً تحكيه الأجيال . وليس الذي
حل بنا ويحل ظلماً من الله كلا وحاشا ، فهو القائل في الحديث القدسي الصحيح: ( يا
عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) وإنما هي
السنن الربانية النافذة التي لا تحابي أحداً ] إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ
يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [ الرعد11 وقال تعالى : ] ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً
أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ الأنفال 53 . روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان مرفوعاً: (يوشك أن
تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها ، قلنا: يا رسول الله،
أمن قلة منا يومئذٍ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنـزع المهابة من قلوب عدوكم ، ويجعل في قلوبكم
الوهن ، قالوا: وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهة الموت ) .
إننا اليوم نئن تحت وطأة الذلّ المسلّط علينا ، وكثير من
المسلمين لا يزالون غافلين عن سبب البلاء الذي بيّنه رسولنا في غير ما حديث صحيح ، فعن ابن عمر رضي الله
عنهما قال : سمعت رسول الله يقول: ( إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا
بالعينة ، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً
لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) رواه أبو داود
وأحمد .
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
" إننا كنا قوماً أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، فإن ابتغينا العزة في غيره
أذلنا الله " . من هنا كانت البداية ، ومن هنا يكون البدء ، ومن تركِنا
لديننا كانت بدايةُ رحلة الذلِّ والضياع في تاريخ الأمة الإسلامية ، ومن الرجوع
إلى ديننا وتوبتنا إلى ربنا يكون البدء إذا أردنا العودة إلى العزة والشرف المفقود
.
ومن الآثار ظهور الأوجاع الفتاكة وارتفاع البركة
من الأقوات والأرزاق.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r : ( يا
معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن : ما ظهرت الفاحشة في
قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين
مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان
، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا
، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا فأخذوا بعض ما في
أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله
بأسهم بينهم ) رواه ابن ماجه وهو صحيح
السلسلة الصحيحة 106 . هذه بعض
آثار المعاصي ، وهذه بعض ثمارها ، فهل من تائب منيب ] قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ
أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ
ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ [ الزمر 53 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق