الاثنين، 10 نوفمبر 2014

إتباع الهـوى



قال تعالى : ] يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص 26 . أخبر  الله أن  إتباع الهوى يضل عن سبيل الله ، وجاء النهي حتى لا نميل مع أحد لقرابة أو صداقة أو محبة أو بغض للآخر ، فيخرجنا الهوى عن الصراط المستقيم ، و إتباع الهوى فتنة المنافقين وأهل البدع ، وقد تنشأ عن فهم فاسد أو نقلٍ كاذب ، أو من غرضٍ فاسد وهوىً متبع ،وإن الذين يأكلون لحوم الناس لم يتجردوا لله وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في أعراضهم وإتباع الهوى لا يؤدي إلى خير ، قال تعالى : ] وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [  ص 26  .  وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، وكان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه ". وقد تسمع بعض الناس يقع في عرض أخيه المسلم ، فتسأله: هل استمعت إليه  ؟ فيقول: لا والله ، فتقول: إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا ؟ فيقول: قاله لي فلان ، فهو   يطعن في الناس  تقليدا لفلان ، غير مراع لحرمة المسلم  وقد قال ابن مسعود: " ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا  إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر". وقال الإمام أحمد: "من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال " ، وقد يكون التعصب من أبرز أسباب ذلك حتى صدق على بعضهم قول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فتجد من إذا ضل ضلَّ من يتعصبون له معه ، وإذا اهتدى للصواب اهتدوا معه ، فهذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح ، الذي يدعونا إلى أن نأخذ بالحق مهما كان قائله ؛ ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب: "وهذه عادة ضعفاء العقول ؛ يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق ".  فكان من لوازم الحكم على الآخرين :التجرد من الهوى ، وإن محاولة تقويم أي رجل من الرجال لا يكون بالتغاضي عن محاسنه ، ولا  بذكر الهفوات وإعطائها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح ، لأن التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صوابًا أو قريبًا من الصواب قال الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [ النساء 135 . فحين يرجح إنسان الباطل ، فالمرجح هو هوى النفس ، وهو يفسد  ويشوش على العدل ، والمثل العربي يقول " آفة الرأي الهوى " . فإياكم وإتباع الهوى في إصدار الأحكام على الناس ، يروي التاريخ حكاية رجل ذهب إلى الخليفة وقال له : أعفني من القضاء فقال الخليفة : ومن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له الناس بذلك  فقال القاضي : والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرطب ، وبينما أنا في بيتي ، وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب ، وكنا في بواكير الرطب   ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفةٍ عليه ما دامت تحبه   فقلت للخادم من جاء به ؟ فقال رجلٌ صفته كذا وكذا  فتذكرت أن من أرسل الرطب هو واحدٌ من المتقاضين أمامي ، فرددت عليه الرطب ، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب ، دخل الرجل علي فعرفته ، والله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه ، على الرغم من أني رددت الطبق ، وهكذا استقال القاضي من منصب القضاء .   
فعلى الإنسان أن يتجرد من هوى العداوة والبغضاء في النقد وأن يتجرد من هوى الحب في المدح, وكما لا يجوز التحامل فإنه لا تجوز المحاباة ، إذ لا ينبغي أن تكون المحبة لشخص أو البغضاء له دافعًا إلى إهمال العدل: ] وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [ والقلب إن لم يسلم من التأثر بهذه العواطف القلبية فلابد من الخطأ في التقويم . فمجرد نفور النافرين   أو محبة الموافقين ، لا يدل على صحة قول ولا فساده   إلا إذا كان ذلك بهدى من الله , بل إن الاستدلال بذلك استدلال بإتباع الهوى بغير هدى من الله ؛ لأن إتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، وردّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله ، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك , ولا يطلبه , ولا يرضى لرضا الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله , بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه , ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه  فالتجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم ، وحتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا , لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى والنصح للمسلمين ؛ فإن عمله مردود غير مقبول , وهو مأزور غير مأجور إذا لم يتجاوز عنه ربه ؛ قال الله تعالى: ] وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [ .
وقد يهجر الرجلُ الرجلَ عقوبةً وتعزيزًا ، والمقصود بقصد ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان ، لا للتشفي والانتقام , كما هجر النبي أصحابه الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك .
فعلى الإنسان المسلم أن يفتش في قلبه ويطهّره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في تقويم شخص من الأشخاص ؛ لكي يكون منصفًا, بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعً ا، ومثل هذا يُلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات ؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير ، لا مجرد الرد والخصومة والجدال ، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له ، وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينتقم لنفسه ، قال الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي: " إن في مجال الكلام في الرجال عقبات مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم ولا الوزر، فلو حاسب نفسَه الرامي أخاه ما السبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك "   فقد يصف البغض أحداً من الناس ، بأوصاف يعلم يقينًا أنه بريء منها، ولكنّ حبّ الذات والانتصار للنفس يذكي فيه روح الغيرة والاعتداء ، فنرى الكثيرين إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك , وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات ، والفرح باصطيادها , في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك ـ من إصابة غيرهم للحق ـ فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا هو الظلم والحقد والحسد بعينه ، والذي لا يلتقي مع الإخلاص والعدل وحب الخير للناس، وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر؛ حيث قال: "وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: " أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته  فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث؛ أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه ، فقال أحمد: ما أعقله من رجل " .
 والتعصب صفة ذميمة بل إن التعصب بلا هدى من الله  هو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، فالمتعصب وإن كان بصره صحيحاً  فبصيرته عمياء ، وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح  ومن استحكم في قلبه هذا الداء ، لو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء   وعيناً عمياء وصدق الله ]  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [    القصص  56 . وما درى هذا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد   حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان ، ولكنهم جهلوا هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة  ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد   وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص   فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه ، وإن كثيراً من الحوارات العقيمة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : " ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني " وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
وأخيرا سمعت تعليقات بان خطبي موجهة إلى أناس معينين   ناسين أن ما تتضمنه هو علاج لحالات يتصف بها كثير من البشر ، ولكن المعنيين منهم قد وصلوا إلى درجة من الإعراض والاستكبار قد يوردهم دار البوار وإني أتمثل قول الله تعالى : ] وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ نوح 7. فالداعي لا يمل من التذكير بالحق ، ولو قوبل بالاستكبار قال تعالى ] فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم [ الحديد 16 . والإصرار على العناد والاستكبار ، يورث التمادي على الضلال حتى يرى قبيح الفعال مستحسنا ، فإذا رآه مستحسناً يستكبر ، ولا يقبل بعد ذلك النصح وقديماً قيل في هؤلاء : " الإصرار على الذنب يورث الاستكبار ، والاستكبار يورث الجهل   والجهل يورث التمادي في الباطل ، وذلك يورث فساداً في القلب ، وهذا يورث النفاق ، والنفاق يورث الكفر "   فالقسوة أولها خطرة ، فإن لم تتدارك صارت فكرة ، فإن لم تتدارك صارت عزيمة ، فإن لم تتدارك صارت مخالفة  فإن لم تتدارك صارت قسوة ، وبعد ذلك طبع ودين  وحينئذٍ لا ينفع الوعظ والتذكير كما قال الشاعر :
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظةٌ      كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر
وروي أن عيسى بن مريم قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه ، فقيل: يا روح الله وما الأحمق؟ قال : المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه ، ولا يوجب عليها حقاً، فذلك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته .





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق