إن انتظام الجهاز
الإداري في الدولة ، يحقق العدل ويوفرِّ الأمن ، ويوصل الحقوق إلى أصحابها ، ولا
يتم ذلك إلا بأمرين .
رئاسة عادلة لا تغفل
عن مكافأة المحسن ، ومعاقبة المسيء .
وموظفين أكفاء ،
يملؤون وظائفهم بعلمهم وخلقهم وأمانتهم
ونشاطهم .
وتوفُّرِ هذين
الأمرين في أي جهاز أدارى ، يعتبر عاملاً من أقوى عوامل الرخاء ، والعزة للأمة .
أما الرئاسة ، فهي
ليست رئاسة الدولة فحسب بل رئاسة كلِّ
دائرة من دوائر الدولة ، التي ينبغي أن يتصف رئيسها بالحزم واليقظة ، لانتظام
الجهاز الإداري ، لأن يقظة الرئيس في مراقبة موظفيه ، والإحاطة بسيرتهم و سلوكهم ،
من أبرز مظاهر الحزم ، فالدائرة أو الوزارة التي ترزق برئيس يقظ يراقب موظفيه ،
تكون من أقوى الدوائر عملاً ، وأنجحها وانفعها للناس .
أما إذا رأيت الموظف
، تتكدس أمامه المعاملات التي تشتمل على
مصالح الناس ، إن كان فيها ما يهمه لصديقٍ أو عزيز نفّذها ، وإلا تركت في زاوية
الإهمال حتى يمل صاحبها ، من كثرة الترداد والمراجعة .
وإذا رأيت من يسمو فوق القانون ، بحيث لا تعد
مخالفته مخالفة ، ولا إجرامه إجراماً ، أو رأيت زيداً من الناس يسكن في مكان ما ،
سرعان ما يرصف له الشارع ، ويضاء بالكهرباء ، بينما تسكن أسر وأسر من الفقراء في
حيّ من الأحياء لا يعنى في إحيائهم ولا
يلتفت إليهم .
وإذا رأيت الموظف
الصغير ، ذليلاً أمام الموظف الكبير ، ثم هو يطغى على عامة الناس ، كالموظف تسأله
في شأن من شؤونك ، إن كان لا يعرفك رد في غلظة وجفاء ، وإن كان يعرفك أو أُوصى
عليك ، بش في وجهك وأجلسك ، وطلب قهوة أو شايا .
إذا رأيت هذا أو ذاك
، فهو من غير شك ، مذلةً للشّعور ، وإذلالاً للنفس ، واستعباداً للناس وضعفاً من الإدارة في مراقبة الموظفين ، ولن
يستقيم الأمر ، حتى يقوم المسؤولون بواجبهم في مراقبة موظفيهم ، ويميلوا مع الحق
حيث كان ويعملوا على قطع دابر الرشوة
والسرقة والإهمال في الدوائر والمؤسسات
، وهو ما يشكو منه الناس . فلو خلصت النيات ، وصدقت العزائم ، وطهرت الأيدي
المشرفة على جهاز الدولة الإداري ، لانمحى
أثر الفساد وزال ، وهو ما يجب أن يتصف به الموظفون ، والمسؤولون على السواء
.
دخل أبو حازم على
معاوية ، وحوله كبار رجال الدولة ، فقال له السلام عليك أيها الأجير فعجب الحاضرون وقالوا : إنما هو أمير
المؤمنين فكرر نداءه بقوله : السلام عليك
أيها الأجير فعادوا ينبهونه إلى أنه أمير المؤمنين ، فقال
لهم : بل هو الأجير ، ثم التفت إلى معاوية وقال له : اعلم يا معاوية ، أنك أجيرٌ
لهذه الأمة ، استأجرك ربك لرعايتها ، فإن أنت أحسنت الرعاية ، وفاك ربك أجرك ، وإن
أنت أسأتها عاقبك وشدد عقوبتك .
هكذا يجب أن تفهم
الوظيفة في الدولة ، على أنها لخدمة الأمة ، لا استعلاء عليها وترفعاً عنها .
كان أبو بكر يقول :إني وليت عليكم ولست بخيركم .
وكان عمر يقول : إنما أنا واحد منكم ولكني أكثركم مسؤولية وواجباً .
مثل هؤلاء الناس وبهذه المواقف ، تجعل للدولة
قوتها ، وللحكم سلطانه ، وتجعل قلوب الأمة تهفوا إلى الموظفين والرؤساء ، وحين
تعلم الأمة أن الموظف يشعر بهذا الشعور ،
تخضع له النفوس وتتفتح له القلوب ، ويتملك
الناس حبه ، والرهبة منه والركون إليه ، وعندما يكونوا خلاف ذلك تبعد عنهم القلوب
، وينظر الناس إليهم على أنهم سوط عذاب ، وينسون أنهم أُجراء لخدمة الأمة وعندما يتجاهل الموظف المراجع أو صاحب المعاملة
، ويهمل واجبه تجاهه ، وينتهره إذا ما سأله ناسياً أنه مواطن من أبناء الأمة ،
ينبغي ألا يُؤخِّر عمله ، وأن فنجان القهوة الذي يشربه والصحيفة التي يقرأها أثناء دوامه ، ما ذلك إلا
من وقت الوظيفة التي أخذ راتبها ، من جيب هذا المواطن الذي انتهره وأهمل معاملته ،
ولولا هذا المواطن وذاك ، وما يدفعوا للدولة من ضرائب لما قبض هذا الموظف راتبه الشهري .
إن أسوأ ما يتصف به
الموظف ، هو عدم إنهاء المعاملة إلا بعد الوساطة ، وهو ما كثر هذه الأيام حتى أصبح
مظهراً من مظاهر الفساد ، والذي لا يدل على إخلاص ، ولا على يقظة ضمير ، ولا خوف
من الله ، وإن اللجوء إلى الوساطات لحل المشكلات وإنجاز المعاملات ، مرض اجتماعي
خطير سببه فساد الجهاز الإداري والحكومي ، مما جعلنا نعذر المواطن في البحث عن
الوساطات لإنجاز المعاملات .
ليذكر الموظف أن سوء
الأمانة ، وسوء المعاملة لا تزيده عند
الناس إلا بغضا ، وعند الله إلا مقتا وأن الرجل الكريم ، لا تزيده الوظيفة إلا
تواضعا واللئيم لا تزيده إلا تكبرا .
لما استُخْلِف عمر بن
عبد العزيز ، أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب فقال لهما : أشيرا عليّ فقال
له سالم : اجعل الناس أباً وأخاً وأبناً
فيرَّ أباك واحفظ أخاك وارحم ابنك .
وقال محمد: أحبب
للناس ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره
لنفسك .
إن ما يجري وما يحدث
في دوائرنا ومؤسساتنا ليس نتاج مجتمع
إسلامي ، ولا دولة دينها الإسلام وإنما هو نتاج مجتمع آخر ، يطرد الإسلام من حياته
، ويطبق نظاماً اجتماعياً آخر ، لا يعرف الإسلام ، إنهم نتاج مجتمع يسمح بوجود
الجائعين والمحتاجين ، دون أن يقدم علاجاً حقيقياً ملموساً لهم .
مجتمع لا يربط الحياة
بالله ولا بشريعته ، لأن الإسلام يربي النفوس تربية خاصة ، ويحكمهم وفق شريعة خاصة
، وينظم شؤونهم على أسس خاصة ، ويخلق مقومات اجتماعية وشعورية خاصة ، فإذا ما طبق
الإسلام في نظام الحكم وأسس التشريع ،
وقواعد التربية فلن تبقى هناك مشكلات مستعصية ، وستزول بنفسها ، والخير كل الخير ،
في منهج الإسلام ومبادئه وأحكامه .
{ومن يتبع غير
الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق