قال
تعالى :{إن الله اشترى من المؤمنين
أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقْتلون ويُقْتَلون}.التوبة
111
هذه
الآية تكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله ، وعن حقيقة البيعة التي
أعطوها بإسلامهم طوال الحياة ، ليس للبائع فيها من شيء إلا الطاعة والعمل
والاستسلام ، والثمن هو الجنة والطريق هو
الجهاد والقتل والقتال ، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد .
إنها
لبيعة رهيبة في عنق كل مؤمن قادر عليها ، لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه ، ورغم
كلمات الآية المدوية ، إلا أن المسلمين في مشارق الارض ومغاربها قاعدون ، لا
يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية
وخصائصها في حياة العباد ، ولا يقتلون ولا يُقتلون ولا يجاهدون جهاداً ما ، دون
القتل والقتال .
لقد
كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها من سلفنا الصالح ، فتتحول من فورها في القلوب
المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ، ولم تكن مجرد معان يحسونها مجردة في مشاعرهم ،
فقد كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها ، لتحويلها إلى حركة منظورة لا إلى صورة
متأملة .
فهذا
عبدالله بن رواحة وقد أدراك ذلك في بيعة العقبة الثانية يقول لرسول الله ﷺ
اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال : (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا .
وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم واموالكم) قال: فما لنا إذا
نحن فعلنا ذلك ؟ قال : (الجنة) . قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل ،
هكذا ...ربح البيع .
ولم
يعد إلى مرد من سبيل ، لا نقيل ولا نستقيل فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ،
والجنة ثمنٌ مقبوض لا موعود ، أليس الوعد من الله ؟ أليس الله هو المشتري ؟ أليس
هو الذي وعد الثمن وعداً ذكره في القرآن الكريم ومن أوفى بعهده من الله ؟ أجل ،
ومن أوفى بعهده من الله ؟ وقد روى أن الآية : { ان الله إشترى من المؤمنين
أنفسهم ... } نزلت في شأن صهيب بن سنان الرومي ، فإنه أقبل إلى رسول الله ﷺ
يريد الهجرة من مكة إلى المدينة ، فلاحقه نفر من المشركين ، فنـزل عن راحلته وأخرج
سهامه وتناول قوسه وقال لهم : لقد علمتم أني أرماكم وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في
كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه
شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ... فقالوا : لا نتركك تذهب غنياً وقد جئتنا صعلوكاً فقيراً ، ولكن دلنا على مالك
بمكة ونحن نخلي عنك ، وعاهدوه على ذلك ففعل
فلما قدم على رسول الله ﷺ نزلت الآية فقال له النبي :ربح البيع يا أبا يحيى وتلا
عليه الآية .
إنه
من الأعلام الذين بذلوا اموالهم في خير ما تبذل فيه الاموال ، فاغناهم ربهم وشكر
لهم وجزاهم خيرا ، وبذلوا لله ارواحهم في سبيل الله فاعزهم واعلى شأنهم وخلّد آثارهم وصهيب واحد من
هؤلاء الأعلام ، الذي كان من أوائل الذين أعلنوا عن اسلامهم وتعرضوا لألوان
التعذيب من جبابرة الشرك والطغيان ، وكان أول من هاجر بعد الرسول وصاحبه ، وأن
الرسول كان قد بعث إلى صهيب ليصحبه في الهجرة
ولكن صهيباً كان في صلاة حينئذٍ وما كان يعلم بهجرة الرسول ﷺ
، حتى سارع فحمل سلاحه وهاجر خلف رسول الله ﷺ وخرج حتى قدم على
رسول الله ( ص ) بقباء قبل أن يتحول منها
فلما رآني قال : يا أبا يحيى ؟ ربح البيع ، فقلت يا رسول الله ؟ ما سبقني
اليك أحد ، وما اخبرك إلا جبريل .
لم
يحرص صهيب على المال الذي جمعه ، لأن الله يحرض عباده المؤمنين على أن يسلكوا طريق
البذل والتضحية والفداء ، لكي يكونوا اهلاً لشراء الله أنفسهم وأموالهم بالجنة
ونعمها الدائم قال تعالى :{ومن يقاتل
في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً}. النساء
74
وقال
ﷺ
محذراً من الخنوع للحرص على المال {يهرم ابن آدم ويشيب معه اثنتان (أي
رذيلتان) الحرص على المال ، والحرص على العمر). وقد قيل :" أذل الحرص أعناق الرجال
"
لقد
ضحى صهيب بكل شيء في سبيل الله ضحى
بالشباب والمال والتجارة وآثر ما عند الله على ما عند الناس ، فكان من أهل الجنة .
وليست
النساء بأقل حظاً من الرجال في هذا المجال ، فهذه صفية بنت عبد المطلب والتي كانت
أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام ، وكان ولدها الزبير أول فارس سلَّ سيفاً في
سبيل الله وكانت إذا أحجم أو تردد تضربه
ضرباً مبرحاً وعندما قال لها احد اعمامه
ما هكذا يُضْرَبُ الولد ... انك تضربينه ضرب مُبْغِضَةٍ لا ضرب أم قالت مرتجزة :
من
قال قد أبْغَضتُهُ فقد كذب
وانما
أضربه لكي يلبْ ( يصبح لبيباً )
ويهزم
الجيش ويأتي بالسَّلَبْ
وكانت
من اوائل المؤمنين المصدّقين ، وكان لها في ميادين الجهاد مواقفُ ما يزال التاريخ
يذكرها أولها يوم أحد ، وثانيها يوم
الخندق ، أما ما كان منها يوم أحد لما رأت المسلمين ينكشفون عن رسول الله ﷺ
إلا قليلاً منهم ، ووجدت المشركين يوشكون أن يصلوا إلى النبي ﷺ انتزعت من يد أحد المنهزمين رُمْحهُ ومضت تشقُّ
به الصفوف وتَضربُ بسنانه الوجوه ، وهي تقول ويحكم انهزمتم عن رسول الله ، ولما
رآها النبي ﷺ
مقبلةً خشي عليها أن ترى حمزة وهو صريع ، وقد مثَّل به المشركون ابشع تمثيل فأشار الرسول ﷺ للزبير ليرجعها ،
لكنها رفضت بإصرار ، فقال رسول الله ( ص ) خلِّ سبيلها ، وعندما رأت أخيها وقد مثل
به استغفرت له وجعلت تقول إن ذلك في الله
، لقد رضيتُ بقضاء الله ، والله لأصبرنَّ ولأحتسبن إن شاء الله .
أما
موقفها يوم الخندق ، فقد كان من عادة رسول الله ﷺ إذا عزم على غزوة من
الغزوات أن يضع النساء والذراري في الحصون ، خشية أن يَغدر بالمدينة غادر ، وبينما
كان المسلمون قد شغلوا عن النساء والذراري بمنازلة العدو أبصرت صفية شبحاً يتحرك في الظلمة فإذا هو
يهودي أقبل على الحصن متحسساً اخباره متجسساً على من فيه ، فأدركت أنه عين لبني
قومه جاء ليعلم أفي الحصن رجال يدافعون عمن فيه أم لا ، فقالت في نفسها إنه يهودي
من بني قريظة ، وقد نقضوا العهد مع رسول الله ولا يوجد أحد من المسلمين يدافع عنا
، وإن استطاع هذا اليهودي أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا سبى اليهود النساء والذراري .
عند
ذلك بادرت إلى خمارها فلفته على رأسها
وعمدت إلى ثيابها فشدتها على وسطها وأخذت عموداً ونزلت إلى باب الحصن ،
وجعلت ترقب عدو الله في حذر ، حتى إذا تمكنت منه حملت عليه وضربته بالعمود على
رأسه فطرحته أرضا وضربته حتى أجهزت عليه ،
وحزّت رأسه بسكين كانت معها ، وقذفت بالرأس من أعلى الحصن فتدحرج حتى استقر بين
يدي اليهود الذين قالوا عندما رأوا رأس صاحبهم ، قد علمنا أن محمداً لم يكن ليترك
النساء والاطفال من غير حُماة ثم عادوا ادراجهم .
ومن
أسباب بلوغ الجنة التي لا ينالها الانسان بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بصفاء القلب
من الغش والحسد ، ومن كل منقصةٍ للإيمان والخلق
فمن تفاعلت نفسه بالمعاني السامية لكل عبادة أثمرت إيماناً عميقاً وخلقاً
رفيعاً وتنـزهاً عن كل عيب ، وبلغت به مقام الأصفياء ودرجة الصديقين .
روى
انس بن مالك (رضي) قال : "كنا جلوساً عند النبي ﷺ فقال: (يطلع
عليكم الآن رجل من أهل الجنة ، فطلع رجل من الأنصار تنطُف لحيته من وضوئه ، قد
علّق نعليه بيده الشمال ... فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل
المرة الاولى فلما كان اليوم الثالث
أيضاً ، فطلع الرجل على مثل حاله الأول .
فلما
قام النبي ، تبع عبدالله بن عمر الرجل فقال له : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل
عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني اليك حتى
تمضي فعلت ! قال : نعم . قال أنس : فكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث
ليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً ، غير أنه إذا تعارَّ – تقلب في فراشه- ذكر
الله عز وجل ، حتى ينهض لصلاة الفجر . قال عبدالله : غير أني لم أسمعه يقول إلا
خيراً .
فلما
مضت الليالي الثلاث وكدتُ أحتقر عملهُ قُلتُ : يا عبدالله ؛ لم يكن بيني وبين أبي
غضب ولا هجرة ، ولكن سمعت رسول الله يقول
ثلاث مرات يطلع عليكم الآن رجل من
أهل الجنة فطلعت أنت . فأردت أن آوي اليك
فأنظر ما عملك فأقتدي بك . فلم أرك عملت كبير عمل !! فما الذي بلغ بك ما
قال رسول الله ؟ قال : ما هو الا ما رأيت . قال عبدالله : فلما وليَّتُ دعاني فقال
: ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ولا أحْسُد أحداً على خير أعطاه الله إياه .
فقال عبدالله : هذه التي بلغت بك
إنها
نعمة علويةٌ فاضت بها نفس رسول الله ﷺ فكانت درساً بليغاً لعباد الله .
قلت
إن بلوغ الجنة ليس بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بصفاء القلب ، وقد يسأل من يسمع ذلك
فمن لا يؤدون صلاة ولا صياماً ، أليس الدين المعاملة ؟ فنجيب : نعم فيبتسمون
وكأنهم ربحوا الجولة الأولى ، ثم يقولون : كم في صفوف المصلين من المرابين فنقول :
نعرفهم باعمالهم فتتسع ابتسامتهم ثم يقولون : نحن
نتعامل مع الناس على أساس من الثقة والحق
فلا نريد صلاة ، أليس الدين المعاملة ؟
غاب
عن بال هؤلاء لو أن المصلي أو الصائم يعيش في اجواء نفسه حقيقة العبادة ، لما
ارتكب معصية أبدا ، صحيح أن الدين المعاملة ، ولكنك يا أخي كإنسان لا يقتصر تعاملك
على الناس وحدهم ، فإين تعاملك مع نفسك ؟ واين تعاملك مع الله ؟ أليس المطلوب منك
أن تعبده وبإخلاص لإنه السبيل الوحيد ، وحتى تعاملك مع الناس يجب أن يكون خاضعاً
أولاً وقبل كل شيء للتعامل مع الله ، وإلا فقدت مقومات الإيمان ، يقول الرسول ﷺ
: (من أعطى لله وقنع لله وأحب لله وكره لله فقد استُكْمل الإيمان).
وباستكمال الإيمان تُبْلَغُ الجنة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق