قال
تعالى : ) ولا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال
الناس بالإثم وأنتم تعلمون(
البقرة
188 .
الأموال
مضافة للجميع ، فالمال ساعة يكون ملكاً لي ، فهو في الوقت نفسه يكون مالاً ينتفع
به الغير ، ولكن الذي يحكم حركة تداول المال هو الحق الثابت الذي لا
يتغير ولا يحكمه الباطل ، لأن الباطل
زائل لا يدوم ، بينما الحق ثابت لا يتغير ، وفي الآية جاء النهي عن الأكل
بالباطل أي لا تأكل مما يملكه غيرك إلا بحقٍ
أثبته الله بحكم ، فلا تسرق ولا ترتش ، فإذا حدث ذلك تكن قد أكلت المال بالباطل ،
وحين تأكل بالباطل فإن غيرك سيأكل بالباطل
وعندما تُحكم بقضية الحق فإنك لا تأخذ إلا بالحق ، ويجب ألا يعطيك الغير
إلا بالحق ، وبذلك تخضع حركة الحياة كلها لقانون ينظم الحق الثابت الذي لا يتغبر ،
لأن الباطل قد يكون له علو لكن ليس له استقرار ، فالله يريد أن تكون حركة حياتنا
نظيفة شريفة فلا يدخل بطنك إلا ما تعبت من أجله والله يريد للإنسان أن يتحرك ليشبع
حاجته من طعامٍ وشراب ومأوى وبذلك تستمر دورة الحياة .
ويجب
ألا تكون الحركة في الباطل ، فمن يتحرك ليسرق تكون حركته حراما ، ويكون كل مسروق
نتيجة حركة باطلة ، وكل حركة في غير ما شرع الله تكون باطلة قال تعالى : ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل (
أي إياكم أن تأكلوها بالباطل ثم تدلوا بها إلى الحكام ليبرروا لكم أن هذا الباطل
هو حق لكم ، فهناك كثير من الناس يرون في فعل الحاكم مبرراً لأن يفعلوا مثله وهذا
غير صحيح ، فلا تقل إن الحاكم قد شرع أعمالاً وتلقي عليه تبعة أفعالك مثال ذلك ما نقول عنه فنون جميلة من رقص وخلاعة
وغناء هل إباحة الحكومات لها وعدم منعها لها يجعلها حلالا ؟ لا بالطبع لأن الفساد
إنما ينشأ في الحياة من مثل هذا السلوك .
فالذين
يشتغلون بعملٍ لا يقرّه الله يأكلون أموالهم بالباطل ويدخلون في بطون أولادهم الأبرياء مالاً باطلا
، وأسمع كثيراً ممن يقولون : إن الأعمال الباطلة أصبحت مسائل حياة ، ولم نعد
نستطيع الاستغناء عنها ، مع أن الصحيح أن يرتبوا حياتهم من جديد على عملٍ حلال ، ومن
يصر على أن يعمل عملاً غير حلال ليعول من هو تحته ، فعلى المعال أن يصرّ على ألا يأكل من باطل ، وكم
يكون الموقف قاسياً عندما يرفض الابن أن يأكل من عمل أمه التي ترقص أو والده الذي
يعمل في الحرام ، وقد يقولون إن هذا رزقنا ولا رزق لنا سواه ، ناسين أن الله يرزق
من يشاء بغير حساب ، ولا يظن إنسان أن عمله هو الذي سيرزقه ، إنما يرزقه الله بسبب
هذا العمل ، فإذا ترك الإنسان العمل المحرم وبحث عن آخر حلال ، فلا بد أن يرزقه
الله بعملٍ حلال ورزق حلال ليقتات منه ، وقد عالج هذه القضية عندما حرّم بيت الله
على المشركين الذين كانوا يعيشون على ما يأتي به المشركون في موسم الحج ، فماذا
يكون موقفهم ؟ أول ما يخطر على البال القول : من أين يعيشون ؟ لقد جاء المنع أولاً
فقال تعالى ) إنما
المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا (
التوبة 28 . ثم رد على القائلين من أين نعيش ؟ فقال تعالى )
وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء
(
التوبة 28 . فلا يقولنّ أحد إن هذا العمل وإن كان حراماً هو مصدر رزقي ، ولن
أستطيع العيش لو تركته ، لا يا أخي لا تجعل الحرام مصدراً لرزقك لقوله تعالى)
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله (
وعندما
تتقي الله فسيجعل لك مخرجا قال تعالى : )
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب (
إذن عليك أن تترك كل عملٍ فيه معصية لله وعندها ستجد يد الله ممدودة لك بكل خير .
وعلينا
أن نعرف أن من أكل بباطل جاع بحق ، أي أن الله يبتليه بمرضٍ يجعله لا يأكل من
الحلال الطيب ، فتكون النعمة أمامه وملك يديه ولكنه لا يستطيع أن يأكل منها في الوقت الذي يتمتع بها أولاده ومن يعولهم ،
مثل هذا نقول له لا بد أنك أخذت شيئاً بالباطل فحرمك الله من الحق . ومن هتا
نستطيع القول أن من أكل بباطلٍ جاع بحق ومن استغل وسيلة في باطلٍ أراه الله قبحها
بحق ، فالذي يظلم الناس بقوته لا بد وأن يأتي يوماً يصبح فيه ضعيفاً .
سمعنا
ونسمع عن كثيرٍ من المنحرفين يذهبون للحج ويبنون المساجد ويتصدقون بأموالٍ مصدرها
حرام ، متناسين أن الله غنيٌ عن عبادتهم وصدقاتهم ، ولا يقبل بناء المساجد أو
التصدق من مال حرام ، لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب .
لقد
ذكر الله الحكام في الآية لأن الحاكم هو الذي يقنن ويعطي المشروعية للمال ولو كان
باطلا ، وقول الله تعالى : )
وتدلوا بها إلى الحكام (
أي ترشوا الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالباطل ، ومن العجيب أن هذا النص
هو نص الرشوة ، لأن الرشوة مأخوذة من الرشا : وهو الحبل الذي يعلّق فيه الدلو ،
فأدلى ودلا في الرشوة ، أما لماذا يدلون بها على الحكام ؟ إنهم يفعلون ذلك حتى
يعطيهم الحكام التشريع التقنيني لأكل أموال الناس بالباطل ، وذلك عندما نكون
محكومين بقوانين البشر ، أم عندما نكون محكومين بقوانين الله فالحاكم لا يبح مثل
هذا الفعل .
وعندما
يُقنن الفساد فذلك لأن الحاكم يُقِرُّ ذلك ويأخذ الناس حكم الحاكم كأمر نهائي مثال
ذلك الحكام لم يحرّموا الربا ويتعامل الناس به بدعوى أن الحكومات تحلله فلا حرج
عليهم ، ومثل هذا الفهم غير صحيح ، لأن الحكومات لا يصح أن تحلل ما حرمه الله ،
وإن حللت ذلك فعلى المؤمن ألا يخرج عن تعاليم دينه ، وأخيراً ما هو مقياس الحق
والباطل ؟ هو أن تقبل لنفسك ما تقبله للطرف الآخر في أية معاملة أو تصرف لأنك لا
ترضى لنفسك إلا ما تعلم أن فيه نفعاً لك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق